Skip to main content
الدولة اللصة
وائل قنديل

نحن بصدد نوع جديد من الدول، لم تتحدث عنه نظريات الفلسفة السياسية، منذ أفلاطون مروراً بالفارابي ثم فلاسفة العقد الاجتماعي، وحتى الآن، إذ لم يكن يدور بخلد أي من فلاسفة السياسة أنه سيأتي يوم يستقبل فيه تاريخ البشرية نموذج "الدولة اللصة"، والدولة هنا تعني "نظام الحكم والإدارة وليس الشعب قطعاً للطريق على سماسرة المفهوم الفاسد للوطنية".
وفي أسماء وأنواع المدن الفاسدة عند أبي نصر الفارابي، مثلاً، ستجد المدينة الجاهلة والمدينة الضالة ومدينة النذالة ومدينة الخسة والاجتماع الخسيس، لكنك لن تجد عنده، أو عند غيره من الفلاسفة، مدينة القرصنة على ممتلكات الأفراد.
وفي تاريخ الديكتاتوريات والنظم القمعية، هناك أوجه كثيرة للعسف بالمعارضين والمناوئين لنظام الحكم، تتدرج من الحرمان من الحقوق السياسية والاجتماعية، حتى تصل إلى الإبعاد والقتل، غير أننا لم نسمع عن دولة تسطو على أموال معارضيها، وتمارس عقيدة "الاستحلال" لكل متعلقات المعترضين على سياساتها، فتستولي على بيوتهم وأموالهم وكل ممتلكاتهم بجميع صورها.
يحدث هذا في دولة السيسي فقط وحصريّاً. أنت معارض، فأنت لا تستحق الحياة. أنت مناوئ، فسنجردك من كل مال ادخرته من عرق سنين عمرك، وسنسطو على كل بيت بنيته أو اشتريته بكدك وتعبك.. هذا "الكوجيتو" السيساوي يمثل عقيدة دولةٍ، قامت على الإقصاء والإبادة والحرق والقتل وسفك الدماء، هو "كوجيتو" للعدم وليس للوجود، كما كان الحال مع "كوجيتو" ديكارت الفيلسوف الفرنسي الشهير "أنا أفكر، إذن، أنا موجود"، فالحاصل أن مبدأ دولة الانقلاب، الآن، هو "أنت تعارض، إذن، أنت غير موجود".
ومن المؤسف أن الذين عبروا عن دهشتهم، وربما انزعاجهم الخجول من قرار التحفظ على ممتلكات معارضي دولة السيسي من أموال ومساكن، لم يكونوا أكثر إنسانية من اللجنة التي اتخذت قرارات المصادرة، ذلك أنهم بدوا عنصريين وفاشيين ومكارثيين، حتى وهم يمثلون أدوار الاحتجاج، ذلك أنهم، في غمرة دفاعهم عمن شملتهم قرارات التحفظ من الاشتراكيين الثوريين وحركة 6 أبريل، يبنون دفاعهم عن أن هؤلاء ليسوا من "الإخوان المسلمين"، أو من المتمسكين بشرعية الرئيس محمد مرسي.
أو أن يعارض أحدهم القرار منطلقاً من أن "س" أو "ص" فقير ومعدم، وليس من أهل الثروة، ولا يمتلك من حطام الدنيا سوى ملابسه البسيطة، وكأنه، مرة أخرى، ضد الاستيلاء على ممتلكات الفقراء، ممن يعرفونهم وتجمعهم بهم أواصر قديمة، لكنهم لا يمانعون في تجريد الميسورين، ممن لا يحفظون لهم مشاعر ود شخصية، من حقوقهم وأملاكهم.
وهذا المنطق المغرق في عنصريته مؤداه الواضح أنهم ليسوا ضد القرصنة على الممتلكات الخاصة للمواطنين بإطلاق، وليسوا محتجين على مصادرة حرية المصريين بلا تمييز، بل هم ضد القرصنة والمصادرة إذا طالتهم وأصدقاءهم فقط، لكنهم معها إذا كان ضحاياها من الإخوان الإرهابيين، وعداهم من الذين يكفرون بنصوص خريطة الطريق.
وهذا الدفاع غير الإنساني لا يبتعد كثيراً عن منطوق التصريحات المنبعثة من المتحدثين باسم الداخلية والجيش، حين يضع أحد أمامهم وقائع قتل مواطنين برصاص الشرطة، فيقولون "إنهم ينتمون إلى جماعة الإخوان"، ومن ثم قتلهم واجب، وفي أضعف الإيمان جائز.
ولا فرق بين هؤلاء وأولئك الذين دبت في عروقهم الإنسانية، فجأة، فخرجوا في أردية الملائكة، لدقائق، يسترحمون الجنرال أن يعفو عن مسجوني قانون التظاهر فقط، وحدهم دونا عن أكثر من ستين ألف معتقل، يواجهون الجحيم في الزنازين، ثم سرعان ما عادوا إلى جلودهم الغليظة، مواصلين أداء أدوارهم الاعتيادية على خشبة المسرح القومي للفاشية.
إن لسان حال هؤلاء لا يختلف عن ذلك الرجل الذي لم يجد ما يدافع به عن نفسه وعن ولده أمام اتهامهما بأنهما ينتميان إلى فكر الإخوان، وبالتالي استحق ولده الاستبعاد من القبول بكلية الشرطة، إلا أنْ قال بصوتٍ عال وكأنه وجد دليل براءته "لا أنا ولا ابني نصلي".