Skip to main content
الثغاء الطويل غير المجدي
بسمة النسور
(أسامة دياب)
.. قليل من الحرمان جوعا، في سبيل المكابدة وتهذيب النفس، وتدريبها على الصبر والتحمّل، كما يفعل المتصوفة طوعا. هذا ما يلزم، كي يصفو القلب، وتسمو النفس وترتقي، فتعودين إلى قواعدك حرة طليقة من التوق واللهفة والضغائن الصغيرة وكثير من خيبة الأمل، يحرّرك الإحساس بالجوع من ذلك كله، ويتيح لروحك أن تشف وتحلق عاليا وبعيدا. تسيرين في شوارع مدينتك/ الغابة الإسمنتية، وهي تتعافى من شتاء طويل قاسٍ مضطرب، عاصف بالأحداث الدامية، صغار يقضون غرقا في رحلةٍ مدرسيةٍ روتينية إلى البحر الميت، يغدر بهم الماء، ويجرفهم في دقائق معدودة، منتزعا إياهم عن قيد الحياة. لجان تحقيق تتشكل، معلماتٌ بلا ذنبٍ يعتقلن، وقلوب آباء وأمهات ملتاعة، لا شيء يطفئ نارها المتقدة غضباً وحسرة، طوفانٌ يجتاح قاع المدينة التي يسميها العمّانيون البلد، كونه أصل المكان وأصل الحكاية. صغارالتجار يندبون حظهم العاثر، ويطالبون الحكومة يتعويضهم، ويتهمون أمانة العاصمة بالتقصير. لجان تحقيق تتشكل من جديد، ولا تصل إلى نتيجة واضحة، قصف لفظي متواصل، وشديد اللهجة من أشخاص ساخطين على الحكومة التي تعيش علاقة حبٍ من طرف واحد، مع شعب مسكون بالقلق المشروع، يرى الكأس غير الممتلئ مهشما، وقد اندلقت محتوياته في الهباء.
نموذج من المتقلبين ممن يتقنون امتطاء الموجة، يناصبون الحكومة العداء، ولا يفوّتون فرصة لهجائها، في حين يخطبون ودها في السر سعيا إلى تحقيق مكاسب شخصية، يتطاول البنيان في كل شارع، إعلانات عن شقق للبيع أو الإيجار، محال تجاريه تعلن عن تنزيلاتٍ هائلة، بسبب الإغلاق. مقاه ومطاعم شبه مهجورة، وجوه كالحة مقطبة بملامح يائسة، تتلاشى الخضرة لصالح الحجارة، تقلع الأشجار من جذورها، تحترق جذوعها في بطن المدافئ المنصوبة في بيوت الأثرياء فائقة الدفء.
ثمّة حشائش غضّة على جوانب الطرقات، يتم غزوها أولاً بأول من قطعان غنمٍ يطلقها الرعاة الصغار القادمون من الأطراف في أرقى شوارع المدينة، ولا أحد يبدي استغراباً من المشهد الهجين، بل تتوقف السيارات بشكل اعتيادي، مفسحةً الطريق للقطعان التي تلتزم بقواعد السير. تغتال الخراف ربيع المدينة الخاطف في مهده. تلوك الخراف العشب الطري بتلذّذ كبير، لاهية عن مصيرها الحتمي المرتقب. تحيا اللحظة الراهنه بكل تفاصيلها غير عابئة بعبثيتها. تقتربين من القطيع، تحاولين مداعبة حمل صغير، يهرب مذعورا، تتصدّى أمه مواجهة إياك بالثغاء الطويل غير المجدي. تقولين لها ضاحكة: أنا نباتية، أيتها الغبية. لا تقلقي بشأني، لست أنا العدو، أيتها المسكينة المضلله التي تستنجد بالراعي الذي أتم الصفقة مع الجزار، بانتظار اكتناز لحمك وصغيرك. تواصل الثغاء متوهمةً أنها دحرتك، وأنت تواصلين دربك، وقد أخذ إحساسك بالجوع يتضاءل. تصدقين أن هذا الصيام المتقطع مفيدٌ للروح كذلك. تشكرين من قدّم لك هذه الوصفة السحرية، وتبهجك حالة السكينة التي تعيشينها، على الرغم من كل الأهوال المحيطة. تقودك الخطى اليومية نحو الخلاص، تتأملين الوجود باستخفافٍ كبير، وتندمين على كل لحظة هلع، وتدركين، أخيرا، أن الفقدان الحقيقي هو التوهان عن الذات، أن تعثري على ذاتك، بعد طول اغتراب، أن تعقدي معها المصالحة المنشودة.
ذلك هو الكسب العظيم. يتسلل أمل خفي غامض إلى روحك المثقلة، لعله أثر بواكير الربيع التي تباغت الخلايا، وتنضو عنها ما تراكم من ارتجاف ليالي البرد في كانون. ولأول مرة، منذ وقت طويل، ترغبين في النسيان والصفح، وطي صفحةٍ ملتبسةٍ مشوشةٍ، حافلة بالمتناقضات والمراوحة بين الشك واليقين والأمل واليأس، تتطلعين نحو الغد بريبةٍ أقل. تبيحين لنفسك التعبير الحر المشاكس غير المسؤول، وتحبّين الحياة أكثر.