وفي غضون الجدل الراهن، أكثر ما يلفت ذلك المستوى المنحط للخطاب بين ضفتي النيل في
البلدين، وهوة تتعمق تتغذّى بالخطاب الاستعلائي والعصبية. وأقول إن العلاقة بين مصر والسودان اليوم، وفي لحظتها الراهنة، من السوء بمكان، لم تبلغه في أي مرحلةٍ سابقة في تاريخ البلدين، ويمكن رؤية التالي:
أولا، العلاقة التاريخية بين البلدين في أضعف حالاتها. وعلى مدى عقود، تدهورت فكرة وحدة وادي النيل وتراجعت. وفي لحظةٍ سابقة، أصبح التكامل الاقتصادي أقصى الطموحات، ثم تدهور الأمر، وأصبح مجرّد اتفاق متواضع للحريات الأربع.
ثانيا، يثير موقف مصر الغريب من ثورة السودان علامات استفهام في السودان كبيرة، إذ إن مصر التي تعلن الحرب على الإخوان المسلمين هي نفسها التي تتخذ موقفا أقل ما توصف به بأنه ضد الثورة الشعبية في السودان التي أقصت الإخوان عن الحكم في السودان.
ثالثا، مصر بعيدة عن فهم طبيعة صراع الهوية المحتدم داخل السودان بين الأفريقانية والعروبة، والذي زاد من ضرامه التمايز الواضح بين موقف الاتحاد الأفريقي الذي كان واضحا، وبقيادة إثيوبية بوقوفه مع الثورة الشعبية على نقيض الموقف المصري، ومعها جامعة الدول العربية التي اتخذت موقف المراقب، وشتان بين الموقفين من المنظور الشعبي السوداني. وقد أبرزت الحفاوة التي استقبلت بها الخرطوم رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، في كل المرات التي زار خلالها السودان حقيقة المشاعر تجاه الموقف الإثيوبي، مقابل الغياب المصري التام. ومما يُقلق أن العلاقات السودانية المصرية اليوم في أسوأ حالاتها شعبيا، وهو أمر جديد وغير مسبوق في تاريخ العلاقة على مستواها الشعبي، بعد أن ظل الشعبان دوما في منأى عن تذبذبات الصراع السياسي.
على خلفية هذه الحقائق، يمكن النظر إلى الموقف الرسمي السوداني بشأن سد النهضة الإثيوبي، وهو موقفٌ تؤثر فيه التيارات الشعبية والسياسية وحالة الحراك والاستقطاب الجهوي، وكلها قوى تمثل حاضنة الحكومة، والمؤثّرة في قراراتها؛ فالسودان السياسي اليوم يجد نفسه أقرب إلى مساندة إثيوبيا من زاوية موقفها من ثورته، ودعمها السياسي الصريح والمهم لها في وقت كان السودان في حاجة إلى مثل ذلك الدعم. قابل ذلك خذلان مصري عربي، عجز عن اتخاذ موقفٍ واضح مؤيد للحراك الشعبي. لقد تحفظ السودان على مشروع قرار مجلس وزراء الخارجية العرب، المتضامن مع مصر، في مسألة سد النهضة. ويرى كاتب هذه المقالة أن الموقف السوداني كان الأكثر عقلانية ونضجا من الموقف العربي، للدواعي التالية:
أولا: يفتح طرح مسألة سد النهضة بتلك الطريقة، ووضعها أمام جامعة الدول العربية، الباب أمام
تسييسٍ لقضيةٍ فنية. وهذا لا يخدم قضية مصر، وإنما سيفتح الباب أمام خطر استقطاب حاد أفريقي – عربي. وهذا ما فعلته الحكومة الإثيوبية مباشرة، عندما وضعت القضية أمام حكومة جنوب أفريقيا واسعة النفوذ على مستوى القارة الأفريقية.
ثانيا: اعتماد مصر الاستقطاب العربي، والمضي في هذا الاتجاه، فيه خطر على ثوابت العلاقة العربية الأفريقية. وخطورته في أن جامعة الدول العربية تنسف أحد أهم مشاريعها للتعاون الإقليمي، والتي صاغتها الجامعة عقب حرب أكتوبر 1973، وأرسى قواعدها الأمين العام في حينه، محمود رياض، وتقوم على بناء جسور قوية متينة للعلاقات العربية الأفريقية. والسودان أهم معابر هذه الاستراتيجية، بما يمثله من موقع ممتد إلى قلب القارة الأفريقية، بل تمثل هذه النظرة الاستراتيجية اليوم أحد دوافع دعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للحكومة الحالية في السودان، لقناعتهما بأن وجود حكومة مستقرة في الخرطوم يمكن أن يشكل حلقة الوصل الأكثر أهمية لدعم الأمن والاستقرار في قلب القارّة.
ثالثا: مهم أن تبقى قضية سد النهضة عند مستواها الفني، وإبعادها عن الاستقطاب السياسي، لأن التسييس يجعل شهية باقي دول حوض النيل أكبر، ووقتها سيرتفع سقف القضية إلى نظرة شاملة، بما في ذلك المطالب بإعادة النظر في اتفاقية 1959 الثنائية بين مصر والسودان لتقاسم مياه النيل، وهو ملف مفتوح منذ سنوات ولم يقفل بعد. ولهذا، الأدعى للجهد أن توضع القضية في إطارها الفني، ويفتح ملف التعاون، وهو صمام الأمان لشعوب حوض النيل، فالمستقبل يقول إنه لا مفرّ من تنسيقٍ وتعاونٍ يشملان كل دول حوض النيل في ظل زيادة سكانية، وحاجة الجميع لمزيد من موارد المياه النقية، وسط تغيرات مناخية عاصفة.