Skip to main content
"يوم رائع للعمل": نظرة مغايرة للمجتمع البوسني
محمد هاشم عبد السلام
ألكسندر سيكسان يواجه وحيداً مصاعب العيش (الملف الصحافي للفيلم)
يحمل عنوان فيلم المخرج السلوفيني الإيطالي مارتن تُرك (1978)، "يوم رائع للعمل"، سخرية كبيرة. بعد نهايته، يتبيّن أنْ ليس هناك يوم عمل، ولا روعة من أي نوع. مع ذلك، الفيلم ليس ساخرًا، بل يحمل مسحة ملحوظة من القسوة والحزن، وفيه عمق كثير. غالبية أحداثه تدفع إلى تأمّل عميق في مصائر الشخصية الرئيسية، والأقدار السيئة التي تصادفها.

في "يوم رائع للعمل"، يُنظَر إلى البوسنة والهرسك بعينين مغايرتين تمامًا، إذْ يبتعد الفيلم كليًا عن ذكر الحرب ومآسيها، وعمّا سبقها ولحقها من صراع، والتبعات أو الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي خلّفتها. مردّ هذا كلّه ربما يعود إلى أنّ مارتن تُرك، الإيطالي المولد والمنتمي إلى الأقلية السلوفينية التي تعيش في إيطاليا، ليس بوسنيًا أساسًا. لذا، فهو غير مُحمّل بإرث الماضي، وذكريات الحرب، وتعقيدات السياسة، ومعاناة البلد. رغم ذلك، فالقصّة عالمية الطابع، يُمكن أن يشهد أي مكانٍ أحداثَها. لكنّ اختيار ساراييفو ـ بملامح الفقر البادية في غالبية الـ"كادرات"، والأجواء الرمادية الداكنة السائدة طوال الفيلم ـ عمّق مصداقية الأحداث وضاعفها.

يتابع الفيلم، لأيام عديدة، الحياة اليومية لأسرة منتمية إلى الطبقة الوسطى في ساراييفو. المشكلة اقتصادية أساسًا. بعد أعوام الحرب والدمار، لا يزال الاقتصاد مرتبك، وهذا يُلقي بظلاله على عائلات كثيرة. ربما تبدو الحبكة مستهلكة جدًا. لكن الجديد كامنٌ في العمل على التفاصيل اليومية الصغيرة، ودقّة رسم الشخصيات وتعميقها، والاختيار الجيد للممثلين، والتصوير الرائع، ورمادية الأجواء، والبناء التراكمي البطيء لكن من دون ملل. قبل هذا كلّه، هناك سيناريو قوي للغاية، كتبه المخرج ببراعة. قوته متأتية من الاشتغال على التفاصيل الصغيرة، وحبك المواقف والشخصيات، وتجنّب الميلودرامية، وأساسًا من دفع المُشاهد إلى تصديق ما يراه، والاقتناع به، والتماهي مع شخصية البطل ومآزقه.

يُعتبر "يوم رائع للعمل" فيلمًا نموذجيًا بالنسبة إلى كتابة السيناريو، الذي يبني أحداثه تراكميًا، ومن دون افتعال. براعة الإقناع ناجمة من ضبط الخيط الدقيق بين دفع الأحداث المعقّدة إلى أن تكون عادية وقابلة للتصديق، وفي الوقت نفسه، الابتعاد بها عن المبالغة، أو اختلاقها كأنّها متعمَّدة بحدّ ذاتها. لذا، عندما يتعرّض بطل الفيلم لأقدار وحظوظ سيئة، فيتعثّر بسببها، لا يظهر هذا مفتعلاً، ولا توجد مبالغة في تكالب النوائب عليه بهذه الكيفية. فقط هناك شعور بأنّ تتالي الأقدار السيئة على المرء تبدو كأنها حبّات مسبحة تستدعي إحداها الأخرى.

لا تكرار في الحبكة والأحداث، ولا تقديم دراما اجتماعية بالغة القتامة وقاسية. في العمق، يطرح الفيلم، بأناة، كيف يُمكن لشخصية بالغة الطيبة ومُسالمة ومُحبِّة أن تنزلق إلى الكراهية والعنف، وحتى إلى القتل، عندما تتعرّض لضغوطٍ جمّة، نفسية واجتماعية واقتصادية، أو عندما تُعاكسها الظروف. هذه قضية مثيرة للنقاش والتفكير، وتطرح أسئلة عديدة.

آرمان (أداء رائع وصادق ومتوازن للغاية لألكسندر سيكسان) يحبّ طفله إيدن (أديان كولوفاتس) وزوجته ياسمينا (مايا زيتشو). ينتظر بصبرٍ نافد ولادة مولودهما الجديد. آرمان عاطل عن العمل، لكن هناك بداية مُبشِّرة، إذْ لديه قريبًا مقابلة عمل، وهو مُرشَّح بنسبة كبيرة للحصول على الوظيفة. ذلك اليوم، تتعطّل سيارته، فيذهب إلى الموعد سيرًا على قدميه. أثناء ذلك، يقع أمامه حادث سير، إذْ تصدم سيارةٌ سائقَ دراجة، وتسقطه أرضًا. ينفضّ الجميع عن المُصاب، لكن آرمان يتصل بمركزي الشرطة والإسعاف. يُصِرُّ رجال الشرطة على استجوابه، رغم توضيحه أن هذا من شأنه تأخيره عن وظيفته. يصل آرمان متأخّرًا عن موعد المقابلة، ويكتشف أن هناك من سبقه.

يحاول بشتى السبل توضيح ما حدث، ويُبرهن على أحقيّته بالوظيفة، لكن من دون جدوى. تخبره المسؤولة أنه لم يأت سوى شخص واحد، لذا، فقد حصل عليها. هذا الشخص (إرمين سياميا) بالغ العنف. لاحقًا، يتبيّن أنه هو من اصطدم به آرمان عرضًا، بينما كان يهرول للحاق بالموعد. وبَّخه ذلك الشخص وعنَّفه وشتمه، رغم اعتذار آرمان منه. بعد مُحاولته اليائسة للتوضيح، يغادر المكان. يتعقّب الرجل الحاصل على وظيفته، ويعرف عنوان مسكنه. يكتشف أنه يُصلِح أجهزة كهربائية، وأن لديه ورشة، وأموره مُيسّرة. يتعقّبه، ويظلّ موضع تساؤل طول الوقت، ولا يتّضح شيءٌ إلا قبيل النهاية.

عن طريق شقيق زوجته الميكانيكي، الذي يحاول عبثًا إصلاح سيارته، يعثر آرمان على وظيفة في مسلخ. في الوقت نفسه، يواجه إيدن مشاكل عديدة، إذْ يعتدي بالضرب على زميل له، فيكتشف آرمان أن ابنه عنيف وعدواني جدًا في المدرسة، ومع هذا، يُمكن السيطرة على المسألة. لكن الأخصائية النفسية تُلمِّح إلى أنّ اللوم يقع عليه وعلى شخصيته، أو ربما على مشاكل ومشاجرات منزلية، ما ينفيه آرمان. لاحقًا، يُحطِّم إيدن لعبة زميل له، بعد أن يرفض إعطاءها له. آرمان مُضطر إلى حلّ المشكلة، لكن اللعبة باهظة الثمن، ويعجز عن دفع ثمنها. سيارته مُعطّلة لا يمكن إصلاحها، وثمنها بخس إن أراد بيعها. زوجته على وشك أن تضع المولود الجديد، والديون تحاصره.

في المسلخ، تتبدّل أموره: بعد فشله في ذبح العجول وسلخها، يُنقل آرمان إلى وظيفة إدارية، فيتحسن وضعه قليلاً، ولأيام معدودة. إذْ يكتشف سريعًا أن عاملين في المسلخ يسرقون اللحم. بداية، يُقنعوه بأن هدف السرقة إطعام عائلاتهم، فيعطونه بعض اللحم المسروق. يوافق على مضض، فهو غير مقتنع بصحّة ما يفعله. لاحقًا، يكتشف أن هدف السرقة بيع اللحم، فيهدّدونه. مع هذا، يُخبر صاحب المسلخ، فينفي العمّال التهمة. يصدّقهم صاحب العمل، ويصرف آرمان من الوظيفة. يوبّخه شقيق زوجته، لأنه ليس قدّيسًا، ولأن الناس جميعًا يفعلون هذا، ويسأله: ماذا يضيره لو صمت؟ تعلم زوجته بالأمر، فتلومه وتذكّره بأنّه لم يرغب في أن تحبل، وبأنّه يتعمّد إفساد الفرص كلّها التي تتاح لإنقاذهم من هذا الواقع البائس الذي يعيشونه.
أخيرًا، يُضطرّ آرمان لمقابلة من أخذ الوظيفة منه. يُقنعه بداية أن جهاز الراديو بحاجة إلى التصليح، وبأنه يُفضِّل إحضاره إلى منزله. يوافق الرجل. بعد مشاجرة مع زوجته ذات ليلة، يذهب إليه. وعندما ينفرد به، يستعطفه ـ بسذاجة وتهذيب ـ أن يترك له الوظيفة، فهو يعيش بمفرده، ولديه وسائل أخرى لكسب عيشه. يضحك الآخر منه، ويشتمه ويهينه بشكل لا يوصف. يسخر من أن زوجته لا تزال تعيش مع أحمق مُفلس مثله. يتأسف على أن لابنه أبًا فاشلاً مثله. يحاول آرمان أن يكظم غيظه، لكنه لا يستطيع، فيضرب الرجل على رأسه ضربات سريعة وقوية. عندما يتمالك نفسه ويدرك ما فعله، يذهب ويُسلِّم نفسه إلى الشرطة.