Skip to main content
"خبز الحصار": خلف كل باب يفتحه الهلع
عمر الشيخ
(من الفيلم)

شجرة وحيدة وسط الكادر، يحيط بها فراغ موحش، صوت لهاث امرأة هاربة من شخص يلاحقها، وما إن تظهر في المشهد الأول، حتى يُسمع صوت إطلاق نار. تصعد المرأة أعلى الشجرة لتختبئ، فتقع حقيبة يدها، وتسقط منها هواتف محمولة مستعملة. تحاول المرأة إخفاء ما سقط برمي بعض أغصان الشجر فوق حقيبتها.

بمشهد الهلع هذا، تفتتح المخرجة السورية سؤدد كعدان (1979) شريطها السينمائي القصير "خبز الحصار" (11 دقيقة)، الذي عُرِض للمرّة الأولى في مهرجان "فريبورغ السينمائي الدولي" الذي أقيم في سويسرا مؤخّراً.

نقرأ في شريط المخرجة أسئلة إنسانية قاسية يتركها أشخاص حشرتهم الحرب في جغرافيا الموت والرعب، هكذا نمرّ على مجموعة من التفاصيل الرمزية التي تبدأ من لحظة يهدأ فيها إطلاق النار، وتنزل المرأة من فوق الشجرة. يعود صوت الرصاص، ولكنه هذه المرّة صوت تسديد جنديين بندقيتيهما إلى الأشجار؛ ترصد الكاميرا لحظة اختراق الرصاص لجسد الشجرة، لينسلّ خيط ضوء حليبي كأن الجذوع تنزف. إنه الخوف، جنديان لم يتجاوزا العشرين من العمر، براءة وجهيهما تفضح تورّطهما مثل آلاف الجنود على خطوط التماس في حرب ضد الآخر الأعزل.

بالخطأ، يصيب الجندي زميله برصاصة في رأسه، فيموت. يقترب نحوه، يهزّه، وينادي باسمه عدّة مرّات، ثم يترك جثّته ويركض في الحرش، عبر مدىً موسيقي يرافق وجهة ضياعه المسرعة نحو المجهول. تأخذنا الكاميرا الراكضة إلى الأمكنة التي تقع عليها عيناه الخائفتان: على الأرض، إلى السماء، تَعثّر بالحجارة يسنده تنفّس، إلى الأغصان، وصولاً إلى الوقوف بحثاً عن مهرب.

على وقع هروب الجندي نسمع أصوات الهتاف، يبدو أن المنطقة في أحد أرياف المدن السورية، بينما تسير مجنزرات عسكرية وهي تطلق النار، فيختلط صوت الرصاص بالهتاف لينتهي إلى المسامع أحدهم وهو ينادي: "شهيد.. شهيد!" لمن سيكون يا ترى؟ هذا السؤال تتركه المخرجة مفتوحاً على الاحتمالات.

لاحقاً، تلتقي الفتاة الهاربة من حصار منطقتها، مع الجندي الهارب لأنه قتل زميله، وهو لا يعرف كيف يستخدم البندقية. كلاهما زجّتهما اللعنة السورية على خطوط التماس، هي تُهرّب الخبز تحت معطفها خوفاً من الحواجز، وهو عارِ من ثيابه العسكرية حتى لا يقبض عليه أحد الأطراف، هي دفنت الهواتف المحمولة التي كانت ستدخلها إلى المناطق المقطوعة من الاتصالات، وهو ترك سلاحه ودفن ثيابه المموّهة.

هكذا ندخل إلى لحظة مساعدة تقترحها "امرأة الخبز" على "الجندي الهارب" حتى لا ينكشفا، تخلع معطفها لتكشف عن الطريقة التي تلفّ بها الخبز حول خاصرتها بحبل لتهرّبه إلى المناطق الساخنة، وتقدّم إليه الخبز رغم حاجة أهلها في الداخل إليه، نراه يأكل وملامح الذقن التي لم تكتمل تكشف الوجه الطفولي الذي رفض الموت حين مسّ صديقه. ترى من هي الجثة التالية؟

تقارب المخرجة في العمل أسئلة عن ماهية الضياع العبثي الذي جرّ الجميع إلى هنا، فالصورة تقول إسقاطها الفني ببطء غير متوقّع، من هؤلاء الضحايا؟ كيف يلتقي القاتل وضحيته ثم لا يصبحان أصدقاء رغم أنهما أكلا معاً؟ ولماذا شعرنا في النهاية أنها ربما ستكون قصّة حب مؤجّلة؟ غادر الجندي لأن الأمور ليست بتلك السهولة والرومانسية التي نتخيّل.

في "خبز الحصار"، تنتصر الصورة برمزيتها العالية، وموسيقى الحدث مختلطة مع اللهاث وشيء من صخب الشارع المنتفض، ويبحث المشاهد عن إجابة للأبواب التي يقرعها شخوص الفيلم، في كل ردّة فعل وإيماءةٍ يتركون بعدها اللغة البصرية تتداعى إلى حصار قاتم تتوحّد فيه لغة الشجر مع ثياب الأرض الرمادية، كأنها حروفها المكسورة. إنها الحرب في صورة أخرى.