"العربي الجديد" يحاور أبطال "متحف باردو" المجهولين
وليد التليلي ــ تونس

مريع هو حجم الكارثة وصور الضحايا والقصص الحزينة التي رافقت مأساة متحف باردو التونسي، ومنها قصة الجنرال الكولومبي الذي كان يقاوم الاٍرهاب في بلاده، وجاء إلى تونس في زيارة ترفيهية برفقة زوجته وابنه، وعاد وحيدا بعد مقتلهما في المتحف.

رغم هذه القصص التي أحزنت التونسيين، ودفعت أكثرهم للبكاء في لقاء الجرحى وأمام صور الضحايا، رغم كل هذا السواد، برزت إشراقات خافتة لم تستطع الواقعة منعها من البروز وانتشارها بين الناس.

وسجلت لحظات المواجهة مع الإرهابيين في متحف باردو، استبسال مواطنين عاديين، لم يكن واردا لولا الظروف المختلفة أن يتحولوا إلى أبطال. خاصة وأن المتحف قرر أن يعيد فتح أبوابه الثلاثاء، مع الإبقاء على آثار الهجوم.

وجمع "العربي الجديد" شهادات من أشخاص ألقت بهم الصدفة إلى قلب المواجهة، وحرّكهم الدافع الإنساني الفطري إلى محاولة الفعل، في مواجهة الرصاص والقنابل اليدوية التي ألقاها الإرهابيان عشوائيا في وجه الجميع.

"رضا" موظف في مجلس نواب الشعب، وجد نفسه مع رئيس نقابة موظفي المجلس "أحمد" ومديره العام "الهذيلي" أمام حالة الفزع الكبيرة التي رافقت أولى طلقات النار، وفرار السياح والتونسيين من هول المفاجأة.

يقول أحمد الذي أصابته شظايا قنبلة يدوية لـ"العربي الجديد" إنه تحرك تلقائيا لإنقاذ السياح الهاربين، وعندما شاهد مجموعة أخرى في شرفة الطابق الأول يستغيثون، بادر بصحبة أحمد والهذيلي إلى البحث عن "سلّم" لمحاولة إنقاذهم عبر النافذة، لكن الإرهابيين فطنوا إلى المحاولة، وعاجلوهم بقنبلة يدوية أصابتهم شظاياها في مواقع مختلفة من أجسادهم.

ويؤكد أحمد بدوره لـ"العربي الجديد" أن ما أنقذهم من الموت المحقق أن القنبلة كانت مساحة انفجارها محدودة، ويضيف أنه لم يكن يفكر سوى في إنقاذ السياح الذين كانوا يهربون من وابل الرصاص بالعشرات.

رضا قال إن العائلة لم تعلم بإصابته وذهابه إلى المستشفى في البداية، وأطفاله كانوا سعداء بدوره البسيط في الإنقاذ، لكنه كان حزينا على ما وقع أمام عينيه من دمار أصاب البلاد كلها.

في جانب آخر من القصة، نقل التلفزيون الرسمي صورا خالها الجميع مباشرة للمعركة الدائرة بين الإرهابيين وأعوان الأمن قبل التحاق فرق المساندة والهجوم على الإرهابيين.

الصور نقلها الزميل الصحافي قيس الجويني بشجاعة كبيرة، حيث كان يقف على خط المواجهة وتمكن من نقل الصور التي جابت أرجاء العالم، ويقول قيس لـ"العربي الجديد" إنه كان يقوم بعمله في لجنة التشريع العام بشكل طبيعي، حيث حضر وزير العدل محمد صالح بن عيسى، وعندما وصل خبر الاعتداء تصور أنها حركة احتجاجية عادية، وخرج لتصويرها كما يفعل كل يوم، غير أنه فوجئ بصوت الرصاص فتوجه دون تفكير إلى حيث تدور المعركة، وبشكل تلقائي حمل الكاميرا، وشرع في تصوير الواقعة بكل تفاصيلها رفقة زميله فؤاد المساكني، وحال انتهاء الشريط الأول أرسل إلى التلفزيون سريعا، وتتابعت الأشرطة حتى تصور الجميع أنها مباشرة.

ويضيف قيس أن ما حدث كان هائلا بكل المقاييس، وأن تحركه الفطري لم يترك له الفرصة للتفكير، ولكنه كان أمام حتمية القيام بواجبه كصحافي مصور، عليه أن ينقل الحقيقة إلى الناس، مع مجموعة صغيرة من الصحافيين الإذاعيين الذين كانوا بعيدين عن المجموعة التي تم إجلاؤها.

ويشير قيس إلى أنه كان يصور الأحداث الأليمة، عندما فطن إلى سيل الدموع الصامتة التي جعلته يمزج في لحظة غريبة بين المشاعر الإنسانية والمهمة الصحافية.

ويقول المستشار الصحافي لمجلس نواب الشعب، الزميل حسان الفطحلي لـ"العربي الجديد" إنه بقي مع المجموعة الصغيرة من الصحافيين لحمايتهم، بعدما تولى مهمة إجلاء النواب، وكل الموجودين داخل المجلس.

وفي زاوية أخرى تحرك بعض النواب الأطباء لإسعاف المصابين بما يمليه الواجب الطبي قبل السياسي، ويقول النائب عن حركة النهضة، وزير الصحة السابق، الدكتور عبد اللطيف المكي لـ"العربي الجديد" إنهم كانوا يتابعون أعمالهم بشكل عادي داخل لجنة "تنظيم الإدارة والقوات الحاملة للسلاح"، عندما وصلهم خبر بداية الاشتباكات، فسارع عدد من النواب إلى التثبت والتباحث في الأمر، والدعوة إلى جلسة عامة، واجتماع طارئ مرتجل في بهو المجلس.

وأضاف أنهم بدؤوا في تهدئة بعض الحالات الهستيرية بين بعض العاملات، ثم إسعاف بعض الأعوان الذين طالتهم شظايا القنابل اليدوية، ويؤكد أن دوره كطبيب يحتم عليه التدخل سريعا، ولكنه واجب إنساني هبٰ إليه النواب القليلون الباقون في المجلس، ما حوّلهم إلى أسرة واحدة تناست انتماءاتها السياسية وتوحدت في مواجهة الطارئ، ثم تحولت هذه المجموعة من النواب إلى المتحف، حال انتهاء العملية لمعاينة الأضرار والوقوف على ما حدث.

وأوضح المكي أن العملية كانت تنطوي على بعض المخاطر، لأن وجودهم في المكان سبب إزعاجا للأمنيين الذين كانوا يخشون تسلل إرهابي إلى المجلس، ووجودهم قد يجعلهم عرضة للنيران المتبادلة، لكن النواب أصروا بشكل تلقائي على البقاء والتحدث إلى الصحافيين، ومحاولة تقديم المساعدة بما توفر من إمكانات.

ولم تقتصر إشراقات باردو على النواب والصحافيين والعاملين، لكنها شملت أبطالا من الأمنيين الذين يُمنع الحديث عن أسمائهم وصفاتهم، ولكنْ التونسيون تابعوا في صور الزميل قيس الجويني مشهدا لضابط كان يعرج بفعل إصابة في رجله، ولكنه رفض الإجلاء للإسعاف وبقي يطلق النار في اتجاه عدوِّه، وشاهد التونسيون أيضا مشهد عنصر الأمن الذي كان يحمي عائلة تونسية بجسده، ويطلق النار باتجاه الطابق العلوي حيث كان الإرهابيان.