}

أنسي الحاج: من الرفض المطلق إلى وليمة التناقضات


ترجمة: أحمد عبد اللطيف

 

[في الاحتفال بذكرى مرور عشر سنوات على رحيل الشاعر اللبناني أنسي الحاج، خصّصت له مجلة "بانيبال" في نسختها الإسبانية ملفًا للوقوف على تجربته الشعرية الفارقة وإعادة تناولها من مناظير أخرى. في هذا الإطار كتبت المستعربة والأكاديمية ماريا لويسا برييتو، المتخصصة في الأدب العربي، مقالًا حول نبرة التمرد في شعرية أنسي الحاج. نقدّم في هذه المساحة ترجمة له].
 

"عندما فجّرت أشكالي وعثرت على تعبيري، حاولت تأسيس نوعٍ من التوازن بين ما أريد قوله وكيفية ذلك"- أنسي الحاج.

في عام 1960، وقد تجاوز العشرين بقليل، فاجأ أنسي الحاج الجمهور العربي بنشر ديوانه الأول "لن"، الذي اعتبره النقاد العرب المعاصرون أول مجموعة قصائد نثرية باللغة العربية. بكلمة جازمة تنفي المستقبل، أراد الشاعر التعبير عن رفضه الراسخ للتقليد الشعري، ليطلق الزمام لأعمال تجريبية جديدة ولحساسيات جديدة، وليساهم بشكل قاطع في تغيير قِبلة الشعر العربي.

في مقدمة الكتاب، يخط مانيفستو لصالح قصيدة النثر (شكل شعري لم يكن موجودًا في المشهد الشعري العربي)، وقد ظهرت من الحاجة إلى تبني تيارات شعرية غربية جديدة، مرجعيتها الأولى الشعر الفرنسي. اعتبر الحاج قصيدة النثر "نوعًا مستقلًا"، وردًا على سؤاله المبدئي: "هل يمكن كتابة قصيدة في شكل نثري؟" يجيب: بالتأكيد، بشرط أن تكون عناصر النثر مستخدمة لغرض شعري صرف.

يخلق أنسي الحاج من قصيدة النثر شعارًا للحرية المطلقة، المنبثقة من إرادة التمرد على التقليد، وضد كل القيود الشكلية التي تقيّد الشاعر وتمنعه من التقدّم واكتشاف المجهول، وإبداع لغة فردية للتعبير عن انفعالات شعرية جديدة.

لقد كرّس أنسي حياته للكتابة، فكانت سلاحه الوحيد ليعبّر عن رغبته الصادقة في التغيير الأدبي والاجتماعي، مهمة صعبة حين يتوجه إلى جمهور عربي تقليدي، مشروط بالوزن والقافية وبفن شعري محدد، جمهور غير مستعد تمامًا لقبول تغيير شعري راديكالي تفرضه قصيدة النثر، المثيرة للجدل طوال هذه السنوات، حتى من جانب بعض الشعراء والنقاد العرب، باعتبارها خيانة لروح الشعر العربي وحقيقيته. لكن المفارقة أنها صارت اليوم القصيدة المهيمنة.

كصحافي وناقد أدبي وشاعر، ساهم أنسي الحاج بقوة في تأسيس مجلة "شعر"، الطليعية اللبنانية (1957-1969)، بجانب يوسف الخال وأدونيس، من بين شعراء آخرين بارزين في تلك الفترة. ورغم أن المجلة لم تستمر طويلًا، إلا إنها كانت علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي المعاصر، ووضعته في مصاف الشعر الأوروبي والعالمي.

كان اتساق أنسي الحاج وتحققه سببين لارتباطه بمسيرة المجلة والحفاظ على روحها الأصلية. وبالإضافة لنشر إبداعه الأدبي الخاص ومقالاته النقدية، عرّف، عبر ترجماته الرائعة، بمؤلفين غربيين، من بينهم كاتب ياسين، أندريه برتون، أنطونين أرتو، شكسبير، ستريندبرغ، دورنمان، يونسكو، كامو، بريخت وأربال.

ولد أنسي الحاج في السابع والعشرين من تموز/ يوليو لعام 1937، بجنوب لبنان، ابنًا للصحافي والمترجم لويس الحاج وماري عقل، وماتت أمه وهو في السابعة، خسارة خلّفت جرحًا في حياته وأعماله. يقول أنسي: "في البداية كنت متحفظًا وانطوائيًا. كل ما أتذكره لحظات عابرة عن تلك الفترة: طفل مشغول بأفكاره وأصواته الداخلية… طفل محبوب وفي الوقت ذاته تستنزفه المخاوف".

درس بمدرسة الليسيه الفرنسية، ثم التحق بمعهد الحكمة. بدأ نشر قصصه ومقالاته وقصائده في المجلات الأدبية منذ 1954، وكان حينها تلميذًا في الثانوية، وفي عام 1956 بدأ العمل الصحافي بجريدة "الحياة" كمسؤول عن الصفحة الأدبية، وما لبث أن عمل محررًا خلال سنوات بجريدة "النهار" حتى عام 2003، ثم شغل منصب مستشار مجلس التحرير.

في عام 1964 أسس الملحق الثقافي الأسبوعي بجريدة "النهار"، وظل يصدر حتى عام 1974، وفي الفترة الأولى عاونه شوقي أبو شقرا. تولى كذلك، بالإضافة لعمله في "النهار"، رئاسة تحرير مطبوعات أخرى، من بينها "الحسناء"، "الأخبار" و"النهار العربي والدولي".

لعب أنسي دورًا مؤثرًا في تطوير مسرح الطليعة اللبنانية، إذ نقل للعربية أعمالًا لكبار كُتّاب المسرح الغربي، عرضتها مدرسة التمثيل الحديث (مهرجان بعلبك) بإخراج مخرجين مسرحيين متنوعين.

صدرت لأنسي ست مجموعات شعرية: "لن" (1960)، وهيمن عليه المطالبة بالتعبير عن الآلام الحميمية، وتميز باستعراض التجربة الداخلية الخلابة التي ظل يحتفظ بها طوال مسيرته الشعرية. تميزت قصائد الديوان بفرادتها وبنبرة الرفض التي جعلتها صادمة ومثيرة لمن لم يعتد هذا الشكل الشعري، الذي يتجاوز الوزن والقافية نحو آفاق أكثر رحابة لم تُخترق من قبل.

في الديوان التالي "الرأس المقطوع" (1963) يواصل التمرد المضموني والشكلي، ليميل أكثر نحو موضوع الحب في "ماضي الأيام الآتية" (1965)، ويواصله بشكل أكثر عاطفية في "ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟" (1970). وفي القصيدة الطويلة "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" (1975) التي تحتل الديوان وتحمل عنوانه، تقوم المرأة بدور البطولة الخاصة، مشبّعة بروحانية المخلّص.

وبعد عشرين عامًا من الصمت، يأتي ديوان "الوليمة" (1994) ليعكس الألم الكثيف الناجم عن التراجيديا اللبنانية كعاقبة للحرب الأهلية والغزو الإسرائيلي. وعلى حافة الهاوية، متأملًا الغيوم، ينتزع الشاعر التناقضات المؤلمة والغائرة والتأملات حول الموت وعبثية الوجود.

نشر كذلك كتاب مقالات من ثلاثة أجزاء بعنوان "كلمات كلمات كلمات"، وكتابًا آخر في التأمل الفلسفي والوجداني بعنوان "خواتم".

تُرجمت بعض قصائده إلى عدة لغات، غير أن أعماله بالإسبانية كانت شحيحة، وحتى هذه اللحظة ما من مختارات شعرية أو ديوان كامل منشور لهذا الشاعر العظيم، أحد أهم شعراء الشعر العربي المعاصر، الذي رحل في 18 شباط/ فبراير 2014.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.