}

في اقتفاء أثر القنب... بمناسبة مشروع تقنينه في ألمانيا

سوسن جميل حسن سوسن جميل حسن 1 أبريل 2024
تغطيات في اقتفاء أثر القنب... بمناسبة مشروع تقنينه في ألمانيا
في متحف القنب في أمستردام/ هولندا

صوّت البرلمان الألماني يوم 22 مارس/ آذار 2024 على تقنين جزئي للقنب، لتصبح ألمانيا بذلك الدولة الثالثة في أوروبا، بعد كل من مالطا ولوكسمبورغ، التي تقنن هذه المادة لأغراض ترفيهية. وتسمح مشاريع القوانين هذه بزراعة وحيازة كميات محددة (25 غرامًا) للاستهلاك الشخصي للبالغين، كما سيسمح لهم بزراعة ما يصل إلى ثلاث نبتات، ابتداءً من الأول من أبريل/ نيسان. أما أندية القنب فسيسمح لها ابتداء من أول يوليو/ تموز بزراعته لأغراض غير تجارية.
وفقًا للتقارير الرسمية، فإن عدد متعاطي الحشيش/ القنب يقدر بسبعة ملايين شخص في ألمانيا، والحجة التي يقوم عليها مشروع القانون أن الحكومة تهدف من ورائه إلى محاربة السوق السوداء، وحماية الشباب بشكل أفضل، وأن تجريم حيازة القنب قد فشل في معظم دول الاتحاد الأوروبي، لذلك فإن مواجهة المشكلة وكشفها للضوء أفضل بكثير من تجاهلها وعدم مواجهتها.

رحلة مع القنب عبر الزمن
القنب ("الماريحوانا"، "النرجيلة"، "الحشيشة"، "البانجو") هو المادة غير المشروعة الأكثر استخدامًا في العالم.
يعد القنب واحدًا من أقدم النباتات، ولقد استخدم كنبات مزروع وطبي منذ آلاف السنين، يتفق الباحثون على أنه نشأ في آسيا، إذ تظهر الحفريات الأثرية في اليابان على أنه تم جمع بذوره فيها قبل عشرة آلاف عام، كذلك في الهند وتايلاند وماليزيا، أما في الصين فقد كانوا يصنعون منه المنسوجات منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد، إلى أن صار في السنوات المئة الأخيرة ينظر إليه كمخدر غير قانوني، ولقد عقدت أولى النقاشات حول الحد من تجارته في مؤتمر الأفيون الدولي في عام 1912، وكانت الولايات المتحدة إحدى الدول الأعضاء الكبيرة في هذا المؤتمر، كما حظر قانون السموم في 1923 الماريحوانا في كاليفورنيا. وتلتها بقية الولايات، بما فيها واشنطن.
فتخيلوا لو لم يكن القنب، ولم يصنع من أليافه الخيوط والحبال ومنسوجات الأشرعة للسفن، هل كان كريستوفر كولومبوس وصل إلى أميركا أصلًا؟ على الأوراق المصنوعة منه حفظ كثير من المدونات والكتب البشرية، حتى إن أول نسخة مطبوعة لغوتنبرغ من الكتاب المقدس كانت على أوراقه في عام 1455. كذلك فإن المسودتين الأوليتين لإعلان الاستقلال الأميركي قد كتبتا على ورق القنب، أما النسخة النهائية فقد قرر الآباء المؤسسون كتابتها على الرق المصنوع من جلود الحيوانات.
إلى اليوم، لا يمكن أن تلتقي بـ"معلّم صحية"، كما يسمون العامل الذي يؤسس، أو يصلح أعطال المياه والتمديدات في البيوت، إلّا وتكون ألياف القنب من أهم موجودات حقيبته، فمن ألياف سيقانه تصنع الحبال والخيوط والمنسوجات، ومن بذوره يستخرج زيت يدخل في الطعام، ومن أوراقه وبتلاته يستخرج زيت عطري بالتقطير، أما الحشيش والماريحوانا فمن الأوراق المجففة والزهور والنورات. وهو نبات عشبي جميل، سنوي المواسم في الغالب، وذلك بحسب الظروف البيئية، إذا عمّر النبات فقد يصل إلى ارتفاعات عالية تقارب الخمسة أمتار، وبعضها لا يتجاوز العشرين سنتمترًا. ورقته تشبه الكف المبسوطة، بنهايات مدببة، ويتناقص عددها كلما اقتربت من الزهرة النهائية.




بعض أقدم المدونات عن القنب، كدواء، مكتوب باللغة الصينية، وتنسب المعرفة بمزاياه تلك إلى الإمبراطور الصيني شنونج، الذي أوصى بشرب منقوع القنب، وهو كتاب تم تجميعه من التقاليد الشفهية قبل ألف عام من الميلاد، إذ تم وصف تأثيره في الكتاب بأنه لا يسمح فحسب بالتواصل مع الأرواح، إنما يريح الجسم أيضًا، ويحذر من أن المغالاة في تناوله تعرّض الشخص لخطر رؤية الشيطان، وربما هذا ما يسمى اليوم طبيًا بالهلوسة.

السياسة وتشريع الحشيش في ألمانيا
لقد ناقش السياسيون الاستخدام الصحيح للقنب في المجتمع والاقتصاد لسنوات عديدة، وقررت ألمانيا في عام 1915 تنظيم استيراد طن ونصف الطن سنويًا للأغراض العلمية والدراسات والأبحاث الطبية. وعندما دخل قانون القنب حيز التنفيذ في عام 1917، الذي سمح للأطباء فيه بوصف الحشيش كدواء لمرضاهم المصابين بأمراض خطيرة في ظل ظروف محددة، ارتفع حجم الاستيراد بالتدريج إلى عشرة أطنان سنويًا، ثم وصل في عام 2020 إلى 28 طنًا. ويقدر المحللون أن يصل حجم سوق القنب إلى نحو ثمانية مليارات يورو بحلول عام 2028، فالطلب مستمر بالارتفاع.
ودائمًا تترافق الحروب بتهديد سلع مطلوبة عالميًا، مثلما وقع بالنسبة إلى القمح والزيوت مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية الحالية، كذلك خلال الحرب العالمية الثانية تعرضت أسواق المواد الخام للتهديد، لذلك تم سحب الحظر عن القنب في البداية، وهذا كان يعني أنه يمكن تجهيز الجيوش بملابس القنب، فتم الترويج لزراعته مرة أخرى في الولايات المتحدة، حيث راج فيلم "القنب من أجل النصر". ليس في الولايات المتحدة فحسب، إنما تم سحب الحظر عنه والترويج لزراعته في ألمانيا أيضًا. ومع نهاية الحرب، وصَمت المدافع، خفّ الضجيج حوله من جديد، ليزداد الجدل حوله بعد حين، ما أدى في النهاية إلى اتفاقية الأمم المتحدة الوحيدة بشأن المخدرات في عام 1961، التي أطلقت رصاصة الرحمة على القنب.
ومع هذا، فمنذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي عاد القنب إلى دائرة الضوء في ألمانيا، وتم السماح بزراعة القنب الصناعي مرة أخرى في عام 1995، ويتم اليوم صناعة بعض المواد المستخدمة حاليًا من أليافه، فهو أساس لعديد من السلع، كالورق والمنسوجات، والألياف المرنة والمقاومة للتمزق التي تدخل في صناعة الألواح الداخلية للسيارات، وهناك بعض الصناعات الغذائية، كزيت القنب، وبذور القنب.

القنب في الطعام
مزارعون من جنوب إيطاليا يفاخرون بمأكولاتهم المصنوعة من القنب كمادة أساسية، ويشاركون في مهرجانات الطعام في العالم، يعرضون الفطائر المصنوعة من الحشيش والزيت والطحين، وتشكل بديلًا صحيًا طيب المذاق، كما يقولون، بل يشيدون بالقنب كونه صديقًا للبيئة إلى حد ما، فهو لا يحتاج إلى المبيدات، لكونه نادرًا ما يصاب بالطفيليات، أو الآفات الحيوية الأخرى، كما أنه يكتفي بتربة رطبة، ولا يحتاج إلى مزيد من الماء، أو سقاية، لأنه يمد جذوره عميقًا في التربة، لذلك ترى أطباقهم المتنوعة بين الفطائر والسباغيتي والبسكويت المملح المصنوع في جنوب إيطاليا من زيت القنب، تزدهي أمام زوار المهرجانات.

متاحف الحشيش/ القنب

يعرض متحف القنب في أمستردام أكثر من 9000 قطعة أثرية من القنب 


المتحف هو مؤسسة دائمة غير ربحية تخدم المجتمع، وتقوم بالبحث في التراث الإنساني المادي وغير المادي، وجمعه والحفاظ عليه وتفسيره وعرضه. تعمل المتاحف العامة على تعزيز التنوع والاستدامة، فتعمل وتتواصل مع المجتمعات بشكل أخلاقي ومهني وتشاركي. تتيح المتاحف مجموعة متنوعة من الخبرات من حيث التعليم والاستمتاع والتأمل وتبادل المعرفة.
وانطلاقًا من تاريخية القنب، ومكانته القديمة في الحياة البشرية، فقد أنشئت ثلاثة متاحف له في أوروبا، في برشلونة، وأمستردام، وبرلين، وربما يعد متحف أمستردام الأكثر شهرة والأكثر زوارًا في العالم، فهذه المدينة أيضًا تعد رمزًا لاستهلاك القنب المسموح به إلى حد كبير. يوثق المتحف تطور نبات القنب في ثقافات العالم المختلفة، ويعرف باستخدامه في كل مكان، وأكثر الغرف إثارة وتحظى باهتمام الزوار هي غرفة النمو المدمجة، حيث تزرع بعض النباتات الكبيرة لغرض العرض، وتنظم الجولات الجماعية على شكل عشرة أشخاص في كل مجموعة.
أمّا متحف برلين في منطقة نيكولايفيرتل، وهو الوحيد في جمهورية ألمانيا الاتحادية، فتبلغ مساحته ثلاثمئة متر مربع، وموزع على ثماني قاعات، يقدم معلومات عن تاريخية النبات، مثل أصله وتطوره وشيوعه واستخدامه على مر القرون، والدور الذي يلعبه ولعبه في ثقافات العالم، ومراحل الزراعة كاملة، بدءًا من البذور حتى الإنبات والرعاية والحصاد النهائي، وله قواعد جادة يحمي القاصرين ويقدم جولات تعليمية في قاعات العرض.




تعد زيارة متحف القنب بمنزلة زيارة مثيرة إلى ماضي أحد أشهر النباتات وأكثرها فائدة للإنسانية، فيما لو تم استخدامها بالشكل الأمثل، ويقدم متحف القنب ما يشبه الرحلة عبر الزمن لاقتفاء مراحل هذه النبتة وطريقة زراعتها وحصادها وأنواعها المختلفة، لكن، على عكس ما قد يرد إلى ذهن بعضهم، بأن يتخيلوا تجربة استخدام لهذا الصنف في المتحف، فإنه ممنوع على الزوار التدخين بكل أنواعه، وعلى الزوار الالتزام بالقوانين واللوائح، ومن حين إلى آخر يتم عرض أعمال فنية متنوعة في المتحف، بما في ذلك منحوتات ولوحات وصور وأفلام وملابس ومجوهرات وأدوات قديمة، بالإضافة إلى تنظيم ندوات تتناول مواضيع لها علاقة بالقنب مثل التأثير الثقافي والاجتماعي.

ثقافة القنب
تتعلق بالطقوس الجماعية والسلوكيات المعتمدة على استهلاك القنب، وهي حصيلة تراكم تاريخي ترافقت مع التجارب الروحانية لدى عديد من الشعوب، خاصة في جنوب آسيا، والهند، والصين القديمة، وبعض القبائل الجرمانية. وأصبح لثقافة القنب لغتها وأدبها وفنونها الخاصة. وتعد فترة ستينيات القرن الماضي الفترة الذهبية لثقافة القنب، إذ برزت ظاهرة الهيبيز في أميركا، وراجت هذه الثقافة في السينما والموسيقى، وحتى بعض المجلات، مثل مجلة ثقافة القنبيين في كندا.
أما في ثقافتنا العربية والإسلامية، فكان للقنب مكانة، ولجلساته آدابها وطقوسها، وكان له شعراء ومهتمون، بل وعاشقون له، وكان يدور سجال أو نزال بين أنصار الخمرة وأنصار الحشيش، كما جاء على لسان محمد بن علي بن الأعمى: دع الخمر من مدامة حيدر/ معنبرة خضراء مثل الزبرجد. وكان لها صناع طعام أيضًا، وفي الحكايات المتداولة كثير من الطرائف عن متعاطيه. من يرجع إلى كتاب "منهاج البيان في ما يستعمله الإنسان"، من تأليف علي بن عيسى بن جزلة، سيجد ما يشبع فضوله حول هذا الأمر، أو كتاب تقي الدين البدري الدمشقي ورسالته "راحة الأرواح في الحشيش والراح". هذا إضافة إلى غزارة الطرائف والنكات التي يتداولها الناس حاليًا في مجتمعاتنا عن الأشخاص الواقعين تحت تأثير المزاج المرتبط بتعاطيه، وغالبًا ما تبدأ النكات بكلمة "محشش"، وهنا لا بد من القول إن الحشيش شائع في بلداننا من دون وجود إحصائيات رسمية يمكن الوثوق بها، فهو كأي ظاهرة تتفشى في المجتمع يتم تجاهلها من الجهات الرسمية، وتكتفي بسن التشريعات حولها، والتي غالبًا ما يتم اختراقها أو تمييعها، بدلًا من دراستها وتقنينها.
غالبًا ما يتم الاستثمار في المتاحف لزيادة المكانة الدولية للمدن، فما هي الإضافة التي تقدمها متاحف القنب إلى المدن التي تهتم به كونه جزءًا من التراث المادي وغير المادي للبشرية؟ من الطبيعي الاهتمام بهذا النبات، فهو ليس نباتًا فحسب بالنسبة إلى البشرية في قديمها وحاضرها، لما له من مكانة في الاقتصاد والتجارة وضرورة في الحياة، هذا النبات الذي لا يمكن حصر دوره بمفعوله المخدر وبناء منظومة قيمية وأخلاقية بشأنه، بل من المجدي تعريف الأجيال به تعريفًا صحيحًا موضوعيًّا، عن طريق تجارب ممتعة ومفيدة، ترفيهية وتعليمية، في المتاحف المقامة باسم القنب.
للمتاحف دور كبير لناحية إبراز التجارب البشرية بكل صفاتها القبيحة والمشرقة، فلا بد من تسليط الضوء على السقطات التي وقعت بها البشرية كي تبقى حاضرة في وعي الشعوب حتى تكون دروسًا من الماضي فلا تتكرر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.