}

في غياب مارك رودِنْ: عودة إلى صورة المناضل الأمميّ

جورج كعدي جورج كعدي 7 مايو 2023
تغطيات في غياب مارك رودِنْ: عودة إلى صورة المناضل الأمميّ
مارك رودن (1945-2023)
مفهومٌ، ولا غرابة في الأمر واقعًا، أن يُناضلُ أبناءُ وطنٍ لوطنهم وقضيتهم، وأن يقاوموا من أجلهما بأساليب شتّى، وأن يتصدّوا للمحتلّ والمستعمر ويقاتلوه حتّى الشهادة، وأن يتوسّلوا الفكر والشعر والأدب والفنّ أدواتٍ لفعلٍ مقاوم ونضاليّ، معبّرٍ وتحريضيّ على التحرّر الوطنيّ... كلُّ ذلك مفهومٌ وطبيعيّ، بل لعلّه يقع في خانة الواجب. لكن أن يأتي امرؤٌ من أرض بعيدة للنضال، بل للاستشهاد أحيانًا في سبيل قضيّة بعيدةً عن وطنه وانتمائه المباشر (مثلما فعل، مثالًا لا حصرًا، الطبيب المغربيّ الشاب لسان بو خبزة لدى التحاقه بمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وسورية بعد الاجتياح الصهيوني عام 1982، قبل أن ينتهي المطاف شهيدًا في صفوف الثورة السلفادورية مطلع العام 1987 ولم يكن تجاوز الثلاثين من عمره، تاركًا وراءه صورة البطل النموذجيّ للمناضل الأمميّ ضدّ الإمبريالية الأميركية والقوى المستعمرة في كلّ مكان)، ففي حالة كهذه يسطع التميّز وتشعّ الروح الإنسانيّة العالية التي لا تشعر سوى بالانتماء إلى الإنسانيّة جمعاء، وإلى سائر القضايا المحقّة والعادلة في العالم.
السويسريّ مارك رودنْ/ Marc Rudin واحدٌ من المناضلين الأمميّين، الذين تشرّفت بهم فلسطين، شعبًا مقاومًا وقضيّة حيّةً حتى الساعة، وكانت محظوظة بأمثاله وهم كثر ومن مختلف الجنسيّات، ومن جهات العالم الأربع، وبخاصةٍ من الغرب، وتحديدًا من الولايات المتحدة نفسها راعية الإرهاب الصهيونيّ (من منّا ينسى تلك الشابة الأميركيّة البطلة ريتشل كورّي Rachel Corrie، التي من فرط تضامنها مع الشعب الفلسطينيّ المذبوح وقفت في وجه جرّافة عسكرية إسرائيلية لم يرتدع سائقها المجرم عن دهسها شابةً شجاعةً، بل خارقة الشجاعة وفائقة الإنسانية، وكانت في الرابعة والعشرين من العمر فقط يوم استشهادها، وردةً نديّة تفوح عطرًا إنسانيًّا وجمال طلعةٍ وروح)، وهل نغفل أسماء أخرى كثيرة، من بينها الصحافي والناشط الإيطاليّ فيتوريو أوريغوني، الذي ترك بلده ووالده المصاب بالسرطان للعيش في غزّة كي يضيء على أحوال أهلها تحت الحصار المستمرّ، وبخاصة خلال الحرب عليها مطلع عام 2009، إلّا أنه انتهى جثّة مشوّهة، ويا للأسف، على أيدي سلفيين جهلة لم يعوا قيمة هذا الشاب الذي أتى لمناصرة قضيّتهم! ويمكن أن نتذكّر أيضًا مواطنه، فرانكو فونتانا، المناضل الإيطاليّ الأمميّ الذي اختار دربًا أخرى لمناصرة القضية الفلسطينية، وبذل حياته لفلسطين منذ عام 1969، ملتحقًا بالجناح العسكري للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في بيروت، التي لم يغادرها عائدًا إلى موطنه الأوروبيّ إلّا في عام 1982 مع خروج منظمة التحرير من بيروت. وكان قد باع أملاك والده، وتبرّع بها للمخيّمات الفلسطينية، وبعد غياب طويل في إيطاليا عاد "جوزف إبراهيم" (وهذا اسمه الحركيّ) لزيارة الرفاق وتفقّد الأماكن، حيث "ترك قلبه" بحسب تعبيره، إلّا أنّه قضى في هذه العودة بجلطة دماغية أودت بحياته. ولدى تدخّل سفارة بلاده في لبنان حدثت المفاجأة إذ كان أوصى بأن يُدفن في مخيّم اليرموك، وإن تعذّر ذلك ففي مخيّم عين الحلوة. وقال ابنه في مراسم تشييعه: "سألتُ والدي يومًا عن الشعب الفلسطينيّ، وعن قضيّته، وعن سرّ هذا التأييد الواسع للشعب الفلسطينيّ في كلّ دول العالم، فأجابني: الظلم والعدالة والحرية (...)". وفرانكو هو القائل قبل رحيله: "قد أموت ولا أرى تحرير فلسطين، ولكنّ أبنائي أو أحفادي سيشهدون حتمًا تحريرها، وعندئذٍ سيعرفون قيمة ما قدّمتُهُ إلى هذه الأرض الطيبة، وإلى هذا الشعب الصلب". هذا ونحن نتوقّف عند هذه الأمثلة من الوجوه المناضلة، المقبولة والمضيئة لدى الرأي العام العالميّ، لاختلافها عن فئة أخرى، مناضلة أمميّة أيضًا، إنّما ظُهِّرت للرأي العام بكونها "إرهابيّة" لذهابها بعيدًا في العمليّات التي قامت بها ضدّ القوى الإمبريالية الغربية، أو ضدّ الصهيونيّة المتوحشة، وكانت بالنسبة إلى القائمين بها عمليّات ذات طابع نضاليّ وكفاحيّ محض، بينما كانت للمستهدفين عمليات محض إرهابيّة. لكنّه بحث آخر ليس هنا مجال مناقشته.






دفعني إلى هذه الاستعادة النضال الأمميّ، ومن ملهميه الكبار تشي غيفارا القائل: "إنّ الثورة تتجمّد وأهل الثورة ينتابهم الصقيع حين يجلسون على الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة متجمّدة في داخلي". كذلك فرانز فانون، الكاتب والمناضل الأمميّ الكبير من المارتينيك. والمناضل التونسيّ حسين التريكي، الذي اغتاله الموساد وكان تجاوز التسعين من العمر. أمّا فكريًّا، فيمكن ذكر أعلام نظّروا للنضال الأمميّ، مثل برودون، وباكونين، وإيمّا غولدمان، وألكسندر بيركمان، والمفكر الماركسي الكبير، اليهودي المعادي للصهيونية ولإسرائيل، إرنست ماندل.
النضال الأمميّ ليس نابعًا، بالضرورة، من الاشتراكيّة الأمميّة (التي يرى ريجيس دوبريه أنّها لم تبق موجودة لأن الحركة العمالية ما عادت موجودة)، أو من تأثير ماركس ولينين وماو وغرامشي... بل يمكن كثيرًا أن يكون دافعه تلك النزعة الإنسانيّة، ورفض الظلم واللاعدالة الواقعين على شعب، كما هي الحال بالنسبة إلى الشعب الفلسطينيّ الذي نال منذ بداية مأساته تعاطفًا مع قضيّته المحقّة ووجعه المستمرّ. فهل كانت ريتشل كورّي، الأميركية حلًّا ونسبًا، مناضلة "بلشفية" ماركسية أو لينينية، هي التي وُلدت في مجتمع رأسماليّ محض لا يشرّع للأحزاب اليساريّة ولا يسمح بها (نتذكّر جيدًا المكارثيّة المسعورة ضدّ الشيوعيين المفترضين)؟! ريتشل كورّي دفعها شعورها الإنسانيّ إلى مناصرة القضية الفلسطينيّة، ولا دافع سواه. إنّها إنسانيّة فرد تهبّ لنصرة إنسانيّة شعب. وهو شعور عارم يرفض الظلم والقهر والموت والقتل. فهل كانت مناهضةُ الشباب الأميركيّ لحرب فييتنام ذات منابع يساريّة؟ بل هو الإحساس الفطريّ برفض الحروب العبثيّة المرعبة التي لا تخلّف وراءها سوى الضحايا موتًا وإعاقةً ودمارًا وقهرًا واستعمارًا ونهبًا للشعوب، قبل أن تأتي الهزيمة الحتميّة للمحتلّ، أو الغازي لأوطان الآخرين، على نحو ما فعلت أوروبا طوال قرون، والولايات المتحدة طوال عقود في بقاع قريبة وبعيدة من العالم.




تهبّ ذات المناضل للآخرين فلا يرى نفسه إلّا فيهم، ولا يرونه إلّا غصنًا متفرّعًا من شجرتهم. ولا يمنُّ المناضل على الآخرين بنضاله، فهو يفعل ما ينبغي فعله. يجب أن ينتج الفعل الثوريّ عن حاجة الانتماء الكاملة. لا مجال فيه للتراجع أو للسكون، فالحاجة إلى النضال أعظم من أيّ مبرّر آخر.

"جهاد منصور"...
وهذا ما يقودنا إلى المناضل السويسريّ مارك رودِنْ، الذي توفّى في الثامن من الشهر الفائت عن ثمانية وسبعين عامًا، وقادنا إلى هذا التأمّل في مسألة النضال الأمميّ لنفهم ما الذي دفعه ويدفع أمثاله، قبله وبعده، إلى الانخراط في نضال بعيدًا عن جغرافيته، والتحامه المباشر مع مستوطن ومستعمر على أرض فلسطين، هو المولود في مدينة بيرن السويسرية عام 1945، والذي اختار بإرادة حرّة، وقرار حرّ، أن ينضمّ إلى العمل التحرّري الفلسطينيّ بواسطة فنّه، وتحديدًا فنّ رسم الملصق المعبّر عن القضيّة التي حرّكت وجدانه وحسّه الإنسانيّ العفويّ بعدالتها وعظمتها، فتولّى الدفاع عنها بأكثر من مئتي ملصق بديع الفكرة والتنفيذ، وقد عُرف باسمه الحركيّ "جهاد منصور"، الذي يحمل أيضًا رمزيّة الجهاد والنصر. وكان رودِنْ درس في بلاده فنّ التصميم الغرافيكيّ قبل انخراطه في الحياة السياسية عام 1968، والتحاقه برفاق النضال ضدّ العدو الصهيونيّ على خطوط الجبهات بين فلسطين وسورية ولبنان، وتعرّضه للاعتقال مرّات عديدة، وصدور حكم غيابيّ عليه بالسجن في سويسرا لأربع سنوات. وكان مارك (جهاد) يعي عميقًا السياسات الإمبريالية التي أفضت إلى نشوء الكيان الصهيونيّ، مؤمنًا من خلال رسومه بأنْ لا إمكان لتحرير الأرض إلّا من خلال النضال المسلّح. ومن أشهر رسومه، على سبيل المثال، ذاك الذي أنجزه عام 1980 لمجلة "الهدف"، النشرة الأسبوعية للجبهة الشعبية التي كان يحرّرها الكاتب الشهيد غسان كنفاني، ويظهر وجه كنفاني في خلفية خريطة فلسطين بألوان البحر والزيتون والأرض. وفي ملصق "انتفاضة الجليل تعانق انتفاضة الخليل" لمناسبة يوم الأرض يشقّ برعم زهرة فلسطينية نجمة العلم الإسرائيليّ... نموذجان بين نماذج كثيرة تدلّ على أسلوب رودِنْ وأفكاره المبدعة وتنفيذه المتقن الذي يحاكي، باللون، الإيقاع الموسيقيّ المضبوط، فالموسيقى هي الفن الآخر الذي مارسه. انتشرت ملصقاته وجدارياته في أزقّة المخيّمات، وأبرزها مخيّمات صيدا التي نزل في مينائها منذ البداية قادمًا من بلده الأوروبيّ. وعبر ملصقاته، أرّخ رودِنْ للثورة الفلسطينية بذاك الخليط من مواضيع الثورة والمقاومة، والإنسان والعائلة الفلسطينيين. ووصل حبّ فلسطين به إلى تخصيص شهيد فلسطين الخالد غسان كنفاني بجداريّة في ساحة بلدته السويسرية.



وتعرّض مرارًا للسجن والأسر، خاصةً بعد إلقاء الشرطة التركية القبض عليه عام 1991، حيث قبع في السجون هناك عامًا ونصف عام، قبل أن يسلّم إلى الدانمارك التي كانت تطارده بتهمة القيام بعمليات خطّطت لها الجبهة الشعبية، وسجن مرة ثانية لثمانية أعوام قبل عودته إلى سويسرا. لكنّ التزامه بالقضية الفلسطينية بقي ثابتًا في روحه حتى رحيله، هو القائل بعد خروجه من الأسر "لستُ نادمًا على شيء في فلسطين". ثمة قول لتشي غيفارا يعبّر عن لسان كلّ مناضل أمميّ: "لا يهمّني أين ومتى سأموت. ما يهمّني هو أن تبقى الثورة قائمة، والنضال مستمرًا، كي لا يميل العالم بكامل ثقله فوق أجساد الفقراء اليائسين والمظلومين". هذا القول لغيفارا ينطبق على كلّ مناضل أمميّ، وعلى مارك رودِنْ بالمثل، إذ مات وفلسطين في قلبه، على ما ظلّ يردّد بلا انقطاع. حرص طوال سنيّ النضال على ألّا تضيع رسالة ضمّنها ملصقاته الرائعة التي جُمعت في معرض أقيم في جنيف عام 2015 ضمن الفعاليّة السينمائية "فلسطين: تصوير فيلم يعني أن تكون موجودًا". وأصرّ مارك على أن يكون حاضرًا في معرض أعماله التي لطالما عبّر فيها بالأخضر والأحمر والأسود الكاليغرافيّ عن أرض فلسطين المسلوبة، إنّما الماضية بثبات نحو استعادة حرّيتها.

٭ناقد وأستاذ جامعيّ من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.