}

پيتر ڨيسِل ساپفَه: فيلسوفٌ لعتمةِ زمننا وكلّ الأزمنة

جورج كعدي جورج كعدي 27 يناير 2024
استعادات پيتر ڨيسِل ساپفَه: فيلسوفٌ لعتمةِ زمننا وكلّ الأزمنة
نشر ساپْفَه مؤلَّفه الفلسفيّ الأوّل "عن المأساويّ" عام 1941
في مستهلّ الكلام عن هذا الفيلسوف النرويجيّ المجهول في ثقافتنا العربية إضاءةً ودراسةً وترجمةً لمؤلّفاته، أودّ قبل التعريف به إدخال القارئ إلى فكره وعالمه من خلال مقاطع من نصّ بليغ ومشهور له يحمل عنوان "المسيح الأخير" ويعبّر إلى حدّ ما عن منحاه الفكريّ ونبرته الفلسفيّة الفريدة:
"ذات ليلةٍ في زمن سحيق، استيقظ رجلٌ ونظر إلى نفسه! رأى نفسه عاريًا تحت الكون، بلا مأوى، داخل جسده. كلّ الأشياء اضمحلّت أمام ناظريه. ذهولٌ فوق ذهول، ورعبٌ فوق رعب، تداعيا إلى خاطره. ثم استيقظت امرأةٌ أيضًا وقالت: لقد حان وقت الخروج والقتل. تناول قوسه وسهمه، ثمرةَ زواج الروح واليد، ومضى إلى الخارج تحت النجوم. ولكن عندما وفدت الحيوانات إلى أحواض مياهها، على مألوفها ومثلما توقع، لم يعد يشعر بوثبة النمر تسري في دمه، بل بأنشودة عن أخوّة المعاناة بين كل ما هو حي. يومذاك لم يعد بفريسة، وحين عُثر عليه في مطلع الهلال التالي، كان يجلس ميتًا عند حوض المياه.
إنّه، مهما حدث، خرقٌ في عمق نسيج الحياة، مفارقةٌ حيويّة، أمرٌ قبيح، حدثٌ عبثيّ، مبالغة كارثيّة. لقد تطرّفت الحياة في مبتغاها حتى فجّرت نفسها. سلّحت أحد أنواع الكائنات تسليحًا أثقل من اللازم، روحًا عظيمة قلقة، بيد أنّها بقَدْرِ عظمتها وبالٌ على راحة باله. سلاحه أشبه بسيف بلا مقبض، نصل ذي حدّين يشقّ كلّ شيء، لكن على من يستخدمه أن يقبض على النصل ويوجّهه إلى نفسه.
يأتي الإنسان إلى الطبيعة كضيف لم يدعه أحد. عبثًا يمدّ ذراعيه ليستعطف خالِقِه: الطبيعة لم تعد تبالي. أتت معه بمعجزة، لكنّها لم تعد تعرفه بعدئذٍ. لقد فَقَد حقِّه بالإقامة في الكون. يقف هناك هو ورؤاه، في تساؤل وخوف، بعدما خانه الكون. الحيوان أيضًا عرف الخوف، خلال العواصف الرعدية وبين مخالب الأسد. بيد أنّ الإنسان أضحى خائفًا من الحياة نفسها، من كينونته نفسها. المعاناة محدودة لدى الحيوان، أمّا لدى الإنسان فهي تثقب فيه خوفًا من العالم ويأسًا من الحياة.
حتى عندما يبدأ الطفل رحلته في نهر الحياة، يصدح هدير شلال الموت عاليًا في أرجاء الوادي. ينظر الإنسان إلى الأرض فيراها تتنفّس مثل رئة عملاقة كلّما زفرت تدفّقت الحياة بهيجةً من كلّ مسامها وبلغت عنان السماء، ولكنّها إذ تشهق فإنّ أنين التمزّق يسري في جموع الكائنات، وتتساقط الجثث على الأرض مثل زخّات المطر. إنّه لم يرَ نهايته فحسب، فقد تقلّبت القبور أمام عينيه وسمع نواح العصور الغابرة بين الأطلال البائدة وأحلام الأمهات التي خذلتها الأرض. رفع المستقبل ستاره ليكشف عن كابوس من التكرار الذي لا ينتهي. معاناة مليارات البشر تجد طريقها إليه من بوابة التعاطف، وممّا يحدث تنطلق ضحكة تسخر من طلب العدالة، أشدّ مبادئه إلحاحًا.




شعور الفزع الكونيّ. إنّه شعور محوريّ لكلّ عقل بشريّ. إذ يبدو حقًا أنّ الموت هو مصير الجنس البشريّ ما دام التوصل إلى أي طريقة فاعلة للحفاظ على الحياة وإدامتها أمرًا مستبعدًا في ظل استنفاد المرء كامل انتباهه وطاقته في تحمّل التوتر الكارثيّ بداخله أو تجنّبه.
إنّ مأساة تحوّل أحد الأنواع غير صالح للحياة، بسبب تطوّر فائض عن حدّه في قدرة واحدة لديه، ليست مقتصرة على النوع البشريّ. هناك على سبيل المثال نوع من الغزلان كان موجودًا في العصور القديمة قد انقرض إذ نَمَت لديه قرون أثقل من اللازم. يجب أن ننظر إلى الطفرات على أنّها عمياء، فطريقتها تطوّرًا وظهورًا ليست ذات صلة ببيئتها.
في حالات الاكتئاب لدى الإنسان، يمكن أن نرى العقل بصورة تلك القرون، في قمة بهائها تصرع حاملها.
لِمَ إذًا لم ينقرض الجنس البشري منذ زمن بعيد في نوبات الجنون الكبرى؟ لِمَ لا يموت سوى عدد قليل نسبيًّا من الأفراد بسبب عجزهم عن تحمّل وطأة الحياة إذ يحمّلهم الوعي أكثر مما يحتملون؟
يتيح لنا التاريخ المعرفيّ، كذلك ملاحظتنا لأنفسنا وللآخرين، الإجابة الآتية: يتعلّم معظم البشر إنقاذ أنفسهم بطرائق مصطنعة تخفّف من محتوى وعيهم.
لو استطاع الغزال الكبير أن يكسر أطراف قرونه كلّ فترة لبقي ربما مدة أطول، وإنّما كان عانى الحمّى والألم الدائمين لأنّه سيعيش في تلك الحال خائنًا فكرته الأساسية، جوهر تفرّده، إذ صاغته يد الخلق ليكون حامل القرن في دنيا البراري. ما كان ليجنيه من استمرار في الوجود كان ليخسره في المكانة.
إنّ التلازم بين المعنى والشقاء، في حالتي الغزال الكبير والإنسان على حدّ سواء، هو المفارقة المأساوية للحياة. ففي إخلاصه لذاته ونوعه وتوكيدًا لهما، حمل آخر غزال أيرلنديّ شارة المجد التي ورثها عن أسلافه حتى النهاية. في حين أن الكائن البشريّ ينقذ نفسه ويستمرّ في البقاء. يقوم بعملية كبت واعية إلى حد ما لفائض الوعي الذي يؤذيه. هذه العملية دائمة تقريبًا طوال ساعات صحونًا ونشاطنا، وهي شرط القدرة على التأقلم الاجتماعيّ وما يُشار إليه عامةً بأنّه الشكل الطبيعيّ والصحيّ للحياة.
إنّ الطب النفسي يقوم على افتراض أنّ ما هو ᾿صحيّ̔ وصالح للحياة هو نفسه ذروة الإنجاز الشخصيّ. أمّا الاكتئاب و᾿الخوف من الحياة̔ ورفض تناول الطعام وما إلى ذلك فيتمّ التعامل معها عادةً على أنها علامات حالة مرضيّة تعالج بعد ذلك. ولكن كثيرًا ما تكون تلك الظواهر رسائل إحساس عميق جدًا ومباشر جدًا بالحياة. إنّها الثمرات المرّة لرهافة الفكر أو الشعور، وهي في أصل الميول المضادة للحياة. ليست تعبيرًا عن روح مريضة، بل هي سبل الحماية عندما تفشل، أو عندما يرفضها المرء إذ يراها – صادقًا – خيانةً لأرقى إمكانات الأنا.
كلّ الحياة التي نراها أمام أعيننا اليوم معجونة، من أعمق أعماقها إلى أسطع مظاهرها، بآليات الكبت الفردية والاجتماعية التي يمكننا أن نرصدها حتى في أدقّ أشكال الحياة اليومية. ورغم اتخاذها أشكالًا عديدة ومتشعبة، يبدو أنّ في وسعنا تمييز أربعة أشكال رئيسية منها على الأقلّ هي: العزل والارتساء والإلهاء والتسامي. هذه الأساليب أو الميكانيزمات الدفاعية الأربعة تستخدم كردود أفعال على المفارقة البيولوجية  Biological Paradox ويلجأ إليها الإنسان لتحجيم وعيه الفائض وإحساسه بالفزع الكونيّ، سواء بطريقة واعية أو غير واعية.
بالنسبة إلى العزل، ثمة طريقتان لعزل الذات عن قسوة الوجود، العزل الجسدي الذي تختبئ فيه نفسك في الأماكن التي تجدها أكثر راحة، محاولةً تجنّب ما يتسبّب بالإزعاج أو الأذيين النفسي والجسدي. والعزل العقلي من خلال قمع وكبت أي نوع من الذكريات أو الأفكار المزعجة وجعل العالم يبدو كأنّه مكان سعيد وعادل وجيد.

پيتر ڨيسل ساپْفَه: لم يعد يؤلمني كالسابق التفكير في موتي

أمّا الارتساء (أي الرسوّ عند فكرة محددة والتمسك بها) فهو طريقتنا لمحاولة إيجاد نوع من نظام القيم أو مجموعة انتماءات نسقط هويتنا عليها مثل الدين والدولة والعادات والتقاليد والأصدقاء والزواج والعائلة والوظيفة، إلى ما هنالك من مناطق حماية. وتعمل آلية الارتساء منذ بواكير الطفولة، فالطفل يرى الوالدين والبيت والشارع كمسلّمات طبيعية ويمنحه ذلك شعورًا بالأمان. وحين يكتشف الطفل لاحقًا أن تلك النقاط الثابتة عشوائية وعابرة كغيرها، تتملّكه أزمة تشوّش وقلق فيبحث للتوّ عن شيء آخر يتشبث به.
قد يوصف الارتساء بأنّه نقاط تثبيت أو تشبّث داخل الوعي المضطرم. ورغم أنه يحصل في العادة بصورة غير واعية، فإنه قد يحصل أيضًا بصورة واعية تمامًا، فنحن نتبنّى أهدافًا. وينظر المجتمع إلى نقاط الارتساء المفيدة لدى المرء نظرة تعاطف ويقدّس من ضحّى بنفسه تضحية كاملة، في سبيل نقطة ارتسائه (المصنع، القضية ... إلخ)، فهو قد شيّد حصنًا عظيمًا في وجه تحلّل الحياة، ويلهم الآخرين بقوته عن طريق الإيحاء.
حينما يدرك الناس الطابع الخرافيّ للعناصر أو انعدام جدواها، يسعون إلى استبدالها بعناصر جديدة (الصلاحية المحدودة للحقائق). من هنا تنشأ القلاقل الروحية والثقافية التي تشكل، فضلًا عن التنافس الاقتصادي، المحتوى الديناميكيّ لتاريخ العالم.




إنّ السعي إلى امتلاك السلع المادية (السلطة أو النفوذ) ليس دافعه الأكبر المتع المباشرة التي توفرها الثروة، فلا أحد يمكنه أن يجلس على أكثر من كرسي ولا أن يأكل أكثر من طاقته. بل تكمن قيمة الثروة في ثراء فرص الارتساء والإلهاء التي توفرها لمالكها.
إنّنا نحبّ نقاط ارتسائنا لأنّها تنقذنا، لكنّنا نكرهها أيضًا لأنّها تقيّد إحساسنا بالحرية. وكلّما امتلكنا القوة استمتعنا بدفن إحدى القيم الميتة في جنازة مهيبة. وعندما يتخلّص المرء من نقاط ارتسائه ولا تبقى داخله سوى النقاط اللا واعية، يسمّي نفسه شخصية متحرّرة.
والإلهاء من أشهر طرائق الحماية. فمن دون إلهاء لا يطيق الطفل نفسه أيضًا وسيضجر قائلًا: ᾿أمّي، ماذا أفعل الآن؟̔ والإلهاء هو حيلة ᾿الطبقات العليا̔̔ وطريقتها في العيش. وحين تُتستنفد كلّ خيارات الإلهاء تحلّ الكآبة، بدءًا من اللا مبالاة الخفيفة إلى الاكتئاب القاتل. ولكون النساء عامةً أقلّ عرضةً للتملّك الفكريّ فهنّ في حياتهن أكثر أمانًا من الرجال، بفضل استخدامهنّ الإلهاء.
حين يقدم إنسان على الانتحار بسبب الاكتئاب يكون الأمر ᾿وفاة طبيعية̔ نتيجة أسباب فكريّة روحانيّة. إن البربرية الحديثة، بمحاولتها ᾿إنقاذ̔ المنتحرين، تنبع من سوء فهم شنيع لطبيعة الوجود.
إنّ التوق الإنسانيّ ليس مجرّد ᾿سعي نحو̔ بل هو بالقدر نفسه ᾿هربٌ من̔. ولو استخدمنا العبارة بمعناها الدينيّ لوجدنا أنّها تتحقّق بالمعنى الثاني حصرًا (الهرب من). ففي هذه الحياة، لا أحد يعرف على وجه الدقة ما الذي يتوق إليه، بل يعي المرء بوضوح ما الذي يهرب منه. إنّه تحديدًا وادي الدموع الأرضيّ، الوضع الإنسانيّ الذي لا يحتمل. فإذا كان وعي هذا المأزق هو أعمق طبقة في الروح، ندرك حينئذ لِمَ يُنظر إلى التوق الديني كخبرة وشعور بأنّه أمر لا يمكن التخلّي عنه. غير أنّ الأمل في أن يتجسّد موضوعه في صورة إلهية، وهذا احتمال سعيد بذاته، ينبع في ظل هذه الاعتبارات من رغبة حزينة حقًا.
أمّا التسامي، العلاج الرابع للذعر الكونيّ، فيمكن بواسطته، ومن خلال المواهب الفنية والأسلوبية، تحويل وجع الحياة إلى خبرات، ولا يحدث ذلك إلّا إذا خفّف المرء من لسعة المعاناة القاسية بوسائل أخرى، أو لم يترك لها زمام السيطرة على العقل. لكي يكتب المرء عملًا تراجيديًّا عليه أن يتخلّص إلى حدّ ما من إحساسه الشخصيّ بالمأساة – أن يخون هذا الإحساس – وينظر إليه من وجهة نظر خارجية، جمالية.
إنّ الحماية وحدها لا تخلق الحياة، بل تعوق تدهورها فحسب. لو ظلّ النوع البشريّ متمسكًا على نحو ساذج بوهمه المشؤوم أنّ الانتصار هو قدره الحيويّ، فلن يحصل أيّ تغيير جوهريّ. سيظلّ البشر يحلمون بالخلاص والتوكيد الذاتيّ وبمسيح جديد. وذات يوم، بعد أن يكون مخلصون كثر قد صُلبوا على جذوع الأشجار ورُجموا في ساحات المدن، حينئذٍ سيظهر المسيح الأخير.
حينئذٍ سيظهر الرجل الذي من تجرّأ على تعرية روحه وتقديمها قربانًا حيًّا لأعظم فكرة للنوع البشريّ، فكرة الموت. رجل سَبَرَ أغوار الحياة وأبعادها الكونيّة، وألمه هو بحجم الألم الجمعيّ للأرض. ولا مفرّ من أن تنطلق صرخات مسعورة من غوغاء كلّ الأمم مطالبةً بموته ألف مرة عندما يلفّ الأرض بصوته مثل عباءة وتصدح الرسالة الغريبة للمرة الأولى والأخيرة: 

-      حياة العوالم نهر هادر، لكنّ الأرض بركة وماءٌ آسنٌ.
-      آية الموت مكتوبة على جبينكم، إلامَ تصارعون المصائب الصغرى؟
-      ليس هناك غير نصر واحد وتاج واحد وخلاص واحد وحلّ واحد،
-      إعرفوا أنفسكم: كونوا عقيمين ولتتركوا الأرض صامتةً من بعدكم.
وعندما يقول المسيح الأخير كلمته، سيتكاثرون عليه، تقودهم القابلات وصنّاع السكّاتات، ويدفنونه بأظافرهم.
إنّه المسيح الأخير، وكما يأتي الابن من الأب، فهو من نسل ذلك الصيّاد الميت عند حوض المياه".
٭٭٭

كاتب هذا النصّ العميق الرهيف هو إذًا الفيلسوف النرويجيّ پيتر ڨيسل ساپْفَه  Peter Wessel Zapffe (راجعتُ اللفظ الصحيح لاسمه بلغة موطنه) المولود عام 1899 والمتوفى عام 1990. عاش طفولةً صعبة في كنف أب صارم، ما ولّد لديه لاحقًا نفورًا شديدًا من السلطة والتسلّط، وقد أرغمه والده على دراسة القانون في أوسلو في فترة ما بين الحربين. وخلال دراسته الجامعية "الإرغاميّة"، وتنفيسًا عن حرمانه من الحرية تدرّب على تسلّق الجبال الشاهقة وأضحى متسلّقًا محترفًا قبل عودته إلى مسقط رأسه ترومسو عام 1925 حيث عمل لفترة محاميًا، فضلًا عن مساهماته الأدبية ومزاولته هواية الرسم والتحاقه بمجتمع التسلّق النرويجي منجزًا أكثر من عشرين تسلّقًا. جمعته صداقة بالكاتب والفيلسوف النرويجيّ آرني نايس، وترافقا في هواية التسلّق وتخلّلت صداقتهما مناقشات فلسفية إذ كانت الفلسفة، مع الأدب والمسرح، محور الاهتمام الأصيل لدى ساپْفَه الذي أتى إلى عالم المحاماة مرغمًا. راح ينشر العديد من النصوص الأدبية والفلسفية في صحف ومجلات، ومن أشهرها نصّ "المسيح الأخير" (1933) ومن ثمّ مؤلَّفه الفلسفيّ الأوّل "عن المأساويّ" (1941) وصولًا إلى مؤلّفه الأخير "كيف أصبحتُ ذكيًا جدًا" (1986) الذي نال له جائزة  Fritt Ord (حرية التعبير) النرويجيّة، مرورًا بمسرحية "الإبن الضال" التي تتناول حياة المسيح من زاوية مأساويّة. ولم يُخْفِ ساپفه تأثّره بفلسفة شوبنهاور، خاصة أنّه أبرز الفلاسفة "اللا إنجابيين"، قبل سيوران و"مثالب الولادة" عنده. بيد أنّ قلقه واهتمامه بشخصية المسيح يردّاننا أيضًا إلى فلسفة كيركيغور مفترقًا عنها نحو عدميّة تشاؤميّة "لا رجائيّة" بيّنة، فهذا الوجود يجب أن يعود إلى سكينة العدم.
خيرُ اختتام لهذه الإضاءة على پيتر ساپْفَه وفكره وفلسفته بعض الأفكار الإضافية من نظرته إلى الوجود وتأمّلاته:
(مخاطبًا المسيح مصلوبًا): أنظروا إليه هناك. كان الشخص الموعود. الشخص الذي كان معدًّا للمجيء بالخلاص من الألم. وانتهى معلّقًا على الصليب، منبوذًا. إنّه بالنسبة إليّ الكائن الإنسانيّ الحقيقيّ الأوحد.
(مخاطبًا الجبل العالي): عملاق، مهيب. إبن الشيطان هذا.
الكائن البشريّ حيوان مأساويّ. ليس بسبب وضاعته، بل لأنّه مجهّز أكثر من اللازم (over-equipped). (يرمي ساپْفَه هنا إلى الوعي الفائض الذي ينقلب ضدّ مصلحة الإنسان).
نأتي من اللا شيئية غير المفهومة. نوجد لبرهة من الزمن داخل "شيء" يبدو أيضًا غير مفهوم. ونعود لنختفي في اللا مفهوم. نصبح مجدّدًا لا شيء.
كلّ جيل جديد يطرح السؤال: ما معنى الحياة؟ الأكثر فائدة أن نسأل: لِمَ تحتاج البشرية إلى معنى للحياة؟
لدينا آمال بعالم عادل وأخلاقيّ. الإنسان كائن يطلب معنى في عالم فاقد المعنى.
ينسجم مع نظرتي إلى الحياة أنّني لا أريد أن آتي بأبناء إلى العالم.
استحالة الحياة غير قابلة للحلّ، ولكن يمكن إنهاؤها.
كوكب غير مأهول ليس خسارة.
يجب أن تبلغ البشريّة نهايتها.
لم يعد يؤلمني كالسابق التفكير في موتي.
ينبغي التخلّي عن البحث عن معنى لغاية مبرّرة تمامًا. تاريخنا مليء بالمصادفة التي مات كثر من أجلها ولم يحصلوا على جواب عن سؤال حول ما إذا كان ممكنًا أن يكون هناك أي معنى على الإطلاق يدعمنا.
لِمَ يتباطأ الموت في المجيء لأخذي؟ لقد توقفت كل وظائف حياتي، لم أعد قادرًا على قول شيء يمكن أن يكون مفيدًا. 

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.