}

السر الضائع في موت يسينين(1)

فاليري بيريديرين 17 يناير 2020
ترجمات السر الضائع في موت يسينين(1)
سيرغي يسينين (1895 - 1925/ يوتيوب)
ليلة الثامن والعشرين من شهر كانون الأول/ ديسمبر 1925، أنهى الشاعر الفذّ سيرغي يسينين حياته في فندق "إنكلترا"، فهزّ موته جمهور القراء في روسيا بأكملها.
كتبت آغوستا ميكلاشيفسكايا، المرأة التي كرّس لها الشاعر أعظم أشعاره: "رأيت كم كان وضعه صعباً، وكم كان وحيداً. وأنا أيضاً، إلى جانب كثيرين ممن أحبّه، وعرف قيمته، أشعر بالذنب. لم يقدّم له أحدٌ المساعدة حقاً. وفي حين كان يتجه إلينا مادّاً يده طالباً المساعدة، تخلينا عنه، وتركناه وحيداً، في أوقاته الصعبة".
وأشارت غالينا بينيسلافسكايا، في مذكراتها، إلى أن وصول الشاعر إلى نهايته الحزينة "كان ناجماً عن أسباب عدة: المرض، والوحدة المطلقة، والانقطاع عن حياة البلاد العامّة، وضغوطات الحياة المادية القاسية. ونتيجة هذه العوامل مجتمعة، وفي هذه اللحظة، تراجعت غريزة البقاء أمام الرغبة بالخلاص والسكون... اليأس كان كاملاً..".
وفي الثالث من ديسمبر/ كانون الأول عام 1926، وأمام ضريح يسينين، وقبيل إطلاقها النار على نفسها، كتبت بينيسلافسكايا على علبة سجائر رسالة ما قبل الموت: "انتحرت هنا، مع أنني أعرف أنّه بعد الآن، سيلقي كثير من الكلاب اللوم على يسينين. بالنسبة له، ولي، الأمر سيّان". لم تجانب بينيسلافسكايا الحقيقة أبداً.
تناولت روايات عديدة موت يسينين. وردت إحداها في كتاب ألفّه إدوارد خليستالوف، العقيد السابق في وزارة الداخلية، بعنوان "سرّ فندق إنكلترا". وضع العقيد لنفسه مهمة "... رفع الستار نهائياً عن سرّ موت يسينين، وإزالة القذارة السوداء، التي لحقت بشرف ومكانة الشاعر القومي الروسي". يبدو الهدف نبيلاً، ولكن هل وفِّق العقيد في بلوغه؟ أعتقد أنّ الكتاب شكّل قذارة جديدة رُمِي بها الشاعر.
"تبدأ رواية سرّ الفندق إنكلترا بتسليط الضوء على صور فوتوغرافية لجثة يسينين الميت، التي حصل عليها العقيد من مصدر مجهول. وتعتمد رواية موت الشاعر على ما ورد في محضر المحقق الجنائي بمشاركة المفتش نيكولاي غوربوف في غرفة الفندق التي انتحر فيها الشاعر. وخلافاً لما ورد في محضر التحقيق، يقوم خليستالوف عامداً بوضع القضية في إطارٍ جريمة قتل سياسي، مستخدماً لهذا الغرض رواية الرسّام سفاروغ الذي كلِّف برسم صورة الميت. وتضمنت رواية الرسام: "في البداية، حصل تدافع... ومن ثمّ هناك ضربة بعقب مسدسٍ أعلى قصبة الأنف. ومن ثمّ لفّت الجثة بسجادة، إذ أراد الجاني إنزال الجثة من الشرفة، حيث كانت سيارة تنتظر عند الزاوية. غير أنّ باب الشرفة لم يُفتح بما يكفي، مما دفع الجناة إلى ترك
الجثة على الشرفة.....". وقد شوهت هذه الرواية ما توصل إليه خبير التشريح الجنائي، الذي قام بالتشريح، حيث توصل إلى التالي: "حدث موت يسينين بسبب الاختناق الناجم عن الضغط على المجاري التنفسية بسبب عملية الشنق"، كما لم تؤخذ بالاعتبار توصيفات وجود طبقات من الجبس على اليد اليمنى للمتوفى".
هذه النتيجة أكدتها عام 1993 لجنة يسينين المنبثقة عن اتحاد الكتاب المؤلفة من عدد من الأعضاء برئاسة كبير خبراء الطب الجنائي لدى وزارة الصحة الروسية، ومستشاري العدالة من الفئة العليا.
استمراراً لعمل الكاتب خليستالوف، تأتي رواية نيكولاي كوستريكين علم 1997، بعنوان مثير "ستالين من قتل يسينين"، حيث اعتبر المؤلّف أنّ ذلك كان: "جريمة سياسية، وأنّ من ارتكبها ليس أتباع تروتسكي، بل خصمهم السياسي - ستالين، الذي أوكل المهمة إلى تابعه المخلص في إدارة أمن الدولة "دزيرجينسكي".... حيث جروا يسينين إلى مصيدة وقتلوه في لحظة انعقاد المؤتمر الرابع عشر للحزب الشيوعي... وقام ستالين، عبر قنوات أمن الدولة ببث إشاعات حول العثور على برقية بحوزة يسينين تدين كامينييف(2) موجهة إلى شقيق القيصر، ميخائيل ألكسندروفيتش، ترحّب بتخلّيه عن المطالبة بالعرش... وبعد إنجاز الفعلة، غادر عملاء ستالين الفندق في سيارة كانت في انتظارهم... من جانبه، أبّنَ ستالين الشاعر تأبيناً لائقاً!".
أعتقد أن حبكة نظرية كوستريكين تناسب تماماً حقبة تسعينيات القرن الماضي، عندما كان كثير من الهراء ينشر كفضائح. ومن الغريب أنّ هذا النصّ لا يزال حتى الآن يتداول في بعض الدوائر.
تستدعي علاقة يسينين بأدوات السلطة كثيراً من وجهات النظر والتهيّؤات، إذ قدّم نيكولاي
فولكوف لمجموعة أعمال يسينين "سيرغي يسينين. مواد لسيرته الذاتية"، الصادرة عام 1992 في موسكو، قائلاً: "لا تتوافر لدينا حتى الآن سيرة ذاتية علمية لسيرغي يسينين. ويتضمن العمل الحالي مواد متنوعة عن سيرته الذاتية - بدءاً من الذكريات، وانتهاءً ببروتوكولات الـ(كي. جي. بي)، ورجال الأمن المشاركين في التحقيقات... وعندما نتمعّن بعلاقة يسينين بأجهزة السلطة، فإنّ وضع هذه العلاقة على صورة "الجلاد – الضحية" هو تبسيط للواقع، وبالنتيجة يكون تحريفاً للتاريخ. لم يكن يسينين يخشى الإدلاء برأيه في العديد من القضايا التي عاصرها، والتي غالباً ما كانت متعارضة مع الرؤية الرسمية. غير أنّ اعتباره معارضاً وعدواً للسلطة السوفييتية، بحيث يصبح هدفاً لأجهزتها القمعية، هو أمرٌ خاطئ تماماً...". ولنكون على بينة يتوجب علينا أن نتذكر أنّ يسينين كان قد تعرّض في صباه للحزن، وغالباً ما كان يبكي، مما يجعل الحزن يتجول بسهولة إلى حالة من الاكتئاب. في عام 1912، كتب يسينين رسالةً من رسائله إلى ماريا بالزمينوفا قال فيها: "حزن ثقيل بلا أمل! لا أعرف ما العمل. هل أكتم مشاعري؟ أم أقتل وجدي الحادّ بالمرح؟ هل كلُّ ما أفعله بنفسي غير مقبول؟ أم أغرق روحي بالشراب، أم أتوقف عن الحياة؟...... آآه يا مانيا آه. صعبٌ عليّ العيش على هذه المعمورة.....".
دفعه مثل هذا المزاج إلى أوّل تصرفاته المجنونة، فكتب للفتاة نفسها، مانيا: "أصبحت أخجل من نفسي. لم أتحمّل وجود ألسنة تافهة حولي.... عندما عاقرت الخمر، ولكن دون إسراف، شعرت بضيقٍ في صدري وبالزبد يخرج من جوفي...". أي أنّ الشاعر حاول إنهاء حياته منتحراً منذ ريعان الشباب. وبعدها تمدد على سكة القطار، وقطع شرايينه. وكان في كلّ مرة يخبر أصدقاءه ومعارفه بأنّه سيقتل نفسه.
ونحن نتحدث عن هذه الأحداث، علينا أن نتذكر أشعار يسينين المختارة، التي أكّد فيها، على سبيل المثال:

أنا ما جئت هذه الأرض،
إلّا لأغادرها بسرعة.

أو:

إسمع أيها القلب الفاسد،
أنت يا قلبي، يا قلب كلب.
أنا من أجلك، كما لو كنتَ لصاً،
خبّأت في يدي سكيناً.

عاجلاً أم آجلاً،
سأغرز في أضلاعي النصل البارد....

أو التالي:

ذات مساءٍ أخضر وتحت النافذة،
سأشنق نفسي بأكمامي.

في العشرينيات من القرن العشرين، كان يسينين في ذروة إبداعه. يزداد أسف المرء على شباب الشاعر المهدور مع الإحساس باقتراب الموت: "كانت أشعاره بمثابة مراتب جنائزية، يقترب من خلالها صوب نهايته الفاجعة التي تنبأ بها في كلّ موضوع طرقه، صارخاً بذلك في كلّ بيت شعرٍ خطّته يده".
ذكرت فلاديسلافا خاداسييفيتش في كتابها "مدينة الموتى": "منذ فترة بعيدة، كانت كلّ قصيدة من قصائده تقريباً تنتهي باقتراب موته:

يا صديقي، يا صديقي!. الموت وحده،
هو من يغلق الإيمان الناضج.

نضج يسينين بشكلٍ كامل، ولكنه عجز عن رؤية ما يجري حوله، فلم يتبق أمامه سوى خيار واحد - الموت".
في عام 1925، وصل الانهيار النفسي إلى ذروته. لم يجد يسينين السعادة والهدوء، كما لم يجدهما في زواجه من حفيدة ليف تولستوي، صوفيا. بعد الزفاف مباشرةً، بدأ معاقرة الخمر،

نقل بعدها إلى مستشفى الأمراض النفسية. بعد السماح بخروجه، أوصى الطبيب المشرف أقرباء يسينين: "لم تعد لدينا مبررات رسمية لمكوث يسينين في المستشفى، ولكن لزاماً عليَّ أن ألفت نظركم إلى أنّ نوبات الكآبة التي يعاني منها قد تدفعه إلى الانتحار".
على أمل الخروج من هذه الدائرة الخطرة، وعلى أمل بدء حياةٍ جديدة، سافر يسينين إلى لينينغراد. قبل مغادرته، قام بزيارة طفليه، قسطنطين وتاتيانا، وكذلك زوجته السابقة آنّا، التي نصحها بالاعتناء بابنه قائلاً: "أنا أهرب. سأسافر. أشعر بالسوء، وأعتقد أنني سأموت". كما التقى قبيل سفره بالأديب سيمون بوريسوف، الذي أشار إلى أنّ يسينين كان في حالة مزرية: "كان ممتقع الوجه، محطماً... كان يسكب النبيذ بيدٍ مرتعشة قائلاً إنّه مسافرٌ وسيقلع عن الشراب وسيبدأ العمل... وفجأة سأل: إذا متّ، هل ستحزن عليّ؟ كان يتحدث عن الحياة فقط، ولم يكن ممكناً أخذ كلامه على محمل الجدّ".
في لينينغراد، واصل يسينين معاقرة الخمور. في السابع والعشرين من شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 1925، وحيداً في غرفته، قطع شريان يده، وكتب بدمائه آخر أبياته: "وداعاً يا صديقي، وداعاً". بهذه الكلمات، ودّع الشاعر الحياة بهدوءٍ وفخامة، وهو على يقين أنّ معاصريه سيفهمون بشكلٍ صحيح سبب مغادرته الحياة طوعاً.
حول مسألة موت يسينين، قال أناتولي لوناتشارسكي(3): "لن نوجّه الاتهام له وحده. نحن جميعنا، معاصريه، مذنبون بدرجة، أو أُخرى. كان شخصاً فذّاً وثميناً. كان يجدر بنا التمسّك به على نحوٍ أفضل. كان علينا التعامل معه بصورةٍ أخوية أكثر".
بينما كتب أحد المقربين من الشاعر: "أظنّ أنّ سبب موت يسينين الرئيس يكمن في تمكنِّه من مشاهدة نفسه من الخارج، الأمر الذي أثار رعبه".
اللافت للنظر أنّ موت يسينين لم يفاجئ أحداً من معاصريه، أو من مقرّبيه، فقد بدوا جميعاً وكأنّهم يتوقعون هذه النهاية منذ زمنٍ بعيد، فلم يحاول أيّ منهم دحض رواية انتحار الشاعر. أمّا روايات قتله فقد ظهرت بعد وفاته بزمن طويل، وازدهرت أكثر زمن البيرسترويكا، عندما انحدر الناس إلى سفائف الأمور وأرخصها.


هوامش:
(1) سيرغي يسينين: من أشهر من كتب الشعر الغنائي الروس في القرن العشرين. بدأ كتابة الشعر في التاسعة من العمر. من أعماله: الوداع يا صديقي الوداع (1925)- اعترافات رجل أزعر (1924)- رسالة أمّي (1924) - لينين (1924) - متعةٌ تركتها (1923) - لست آسفاً، لا تنادِ، ولا تبكِ (1921) - أنا آخر شعراء الضيعة (1920) - اعترافات أزعر (1920) - هجرت بيتي (1918) - العاهرة (1915) - الخريف (1914) - شجرة البتولا (1913) - الفجر القرمزي (1910). على الرغم من التأبين الحكومي الرسمي، كانت معظم أعمال يسينين محظورة في الاتحاد السوفييتي زمن ستالين وخروشوف. وفقط في عام 1966، أعيد نشر مؤلفاته.
(2) كامينييف: ثوري بلشفي، عضو أول مكتب سياسي للحزب الشيوعي زمن لينين وستالين.
(3) أناتولي لوناتشارسكي (1875 - 1933): ثوري روسي، ورجل دولة وأكاديمي سوفييتي، كاتب ومترجم، ناقد.

***

اسم المقالة الأصلي: يسينين بدون فضائح/ Есенин без сенсаций.

الصحيفة: ليتراتورنايا غازيتا.

رابط المقالة:

https://lgz.ru/online/esenin-bez-sensatsiy/

ترجمها عن الروسية: سمير رمان.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
17 يناير 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.