}

نوافذ على اللّاشيء (2)

إميل سيوران 26 ديسمبر 2019
ترجمات نوافذ على اللّاشيء (2)
إميل سيوران
"نوافذ على اللّاشيء" (غاليمار، 2019) هو العنوان الذي اختاره المترجم نيكولاس كافاييس لتقديم آخر أعمال إميل سيوران (1911 -1995) التي كتبها باللغة الرومانية، قبل تحوّله نهائياً إلى الكتابة بالفرنسية، وهو عمل يُنشر له لأوّل مرّة نقلاً عن إحدى المخطوطات المحفوظة بعد وفاته، ويضم شذرات كتبها سيوران في ذروة أزمةٍ داخلية طويلة، ثمّ تخلّى عنها في صيغتها الخام، أو لم يهتمّ بمراجعتها ونشرها فيما بعد ذلك، وهي تعود إلى الفترة ما بين سنتي 1943-1945، وربّما كتبت في عام 1944، وهي فترة غزيرة الإنتاج، خصوصاً بين عامي 1940 و1946، كتب خلالها سيوران أربعة أعمال متتالية دون أن ينشر منها أيّ كتاب.

جمعت مخطوطةُ الكتاب 300 ورقة منفصلة، محفوظة في المكتبة الأدبية جاك- دوسي بباريس. والترقيم الذي وضعه سيوران على هذه الصفحات- وهو دليل على أنّه كان ينوي تأليف كتاب رغم غياب أيّ تقسيم للفصول أو الأجزاء - يمتدّ من الصفحة 1 إلى 314، ضاعت منها بعض الصفحات، أو مُزّقت وسُحبت من المجموعة. ومن المحتمل أن هذا الكتاب جاء بعد الانتهاء من تأليف "كتاب أدعية المهزومين" وكتاب "من فرنسا"، كما يبدو أنه كُتب قبل "هذيانات" الذي بدوره يطفح بخيبة الأمل، إذ يحضر فيه كثير من التأمّل، ويأخذ مسافة من الأشياء والعالم (بل هو أكثر قرباً من كتاب "رسالة في التحلّل"، 1949). باختصار، تمجّد هذه الشذرات الكتابة باعتبارها متنفَّساً وجودياً، وهي تحفر بكامل قوّتها في جميع الاتجاهات، بحيث تسمح للمؤلف بالتخفيف من هواجسه وتهدئة ضغائنه لحظة الكتابة.
لتقريب القارئ العربي من أجواء هذا الكتاب، نقدم في ما يلي الجزء الثاني من ترجمة بعض الشذرات:

 

الزمن طفلٌ لقيطٌ في قلوبنا البلهاء، جاء إلى العالم لتجفيفِ دمائنا.

*

في الأرق، الجسمُ ينفي الروح.

*

الزمن يمدّ خيطَ النفسِ من القرفِ إلى عبادة الأصنام.

*

لغةُ الرعب الصامتة هي اللغة الأمّ للصمت.

*

لو كنتُ أستطيع البكاء على وجودي، لأصبحتُ فيلسوفاً عقلانياً منذ زمنٍ طويل. لكنّ دموعاً غير مدرّبة تتوسّط بين أيِّ تكريمٍ للروح والأنا.

*

خارج موسيقى باخ، كلُّ الزخم الصوتيّ يشبهُ أغنيةً شائعة، قصيرةً وفارغة.

*

الأوقاتُ السعيدة هي تلك الّتي أقاوم خلالها الإغماءَ في الشعر بفضل تواضعِ المفهوم، بفضل النّظرية - إنّه فعلُ الحشمة، رفضُ الصّعداء...نحن نعرف ما يكفي من الفلسفة حتّى نصل إلى أن لا نكون أنفسَنا، ما فائدةُ الفكر باستثناء أن يكون آخراً؟

*

شخصٌ ما يجب أن يستغلّ لحظة صدقٍ وإخلاص لتأكيد التّالي:

كلُّ ما يفكّر به الآخرون يبدو لي عبثياً – نابعاً من لا شيء ولا أساس له. كلُّ ما يجعل المرء يعاني من كذا وكذا، يعاني من تفضيلاته، ومن قراراته، أنا لا أفهمه. الكونُ يتشكّل من جيرانٍ لا يمكن اختراقهم. الآخرون ضحّوا بحياتهم من أجل لا شيء. والأهمُّ، لم يكتشفه أحدٌ بعد، لا أحد كرّس نفسه له. من حولي، ألاحظ مصائرَ قابلةً للاستبدال. لا شيء حاسمٌ أو لا رجعة فيه.

الآخرُ مخطئ؛ الفاشلُ هو الجارُ. لماذا يفعل ما يفعل؟ لماذا لم يفهم، لماذا لم يستسلم؟ من داخل أعماقي، أظنُّ أنّ السعرات الحرارية للحماس أو اليأس الّتي يستهلكها الآخر هي مجرّد عبث. هل عَرفتُ مصيراً واحداً أُحسدُ عليه؟ نحن جميعاً نحسد قَدَرنا الخاصّ. لذلك دعونا نعيش، كيفما اتّفق، ومهما كان الثّمن. لأنّ الأنا هي الصّفر المطلق للكائن، لا يمكن تعويضها بأيّ أُلوهية.

*

يجد الإنسان خلاصَه اليومي في تأجيلِ الموت باعتباره مشكلة، كأنّه نعاسٌ لطيف لا مفرّ منه.

*

المرض هو أعلى قمّة يمكن أن يصلها جسدٌ موجّهٌ نحو الروح. درجة المقاومة لإغراءاته تشير إلى مستوى الوعي الذي بَلَغهُ، وأيضاً إلى كَمِّ "الإيجابية" القادر على منحها. أن تعرف كيف تستخرج فضائل الجسد المغلَّفِ بالموت، وأن تجني ثمرةَ فكرٍ مريض.

*

من المناظر الطبيعية للحياة لم أتذوّق سوى ملذّاتٍ غير شرعيّة. لم أعتبر نفسي قطُّ إلّا بمثابة ابنِها النذل.

*

الروح لم تعثر أبداً في حماسِها على القانون الّذي يجمع بين التّفاني وإطلاقِ العنان للحواس، والقلبُ يجد مكانه في الفضاء اللّامتناهي الّذي يفصل الكونَ عن النظام.

*

الذّهول – هو العامل الثابت في العزلة.

*

المخطّط الشكلي للقلب هو أقلّ صلاحية من هندسةِ طيف.

*

ذلك الذي نَشَأ حتّى وصل إلى الوعي بعدم ارتباطِ الفكر بالكلمة يَعتبر كلّ ما ليس أسلوباً مثل غذاءٍ روحيّ للقطيع. يجب إبرام "معاهدة التعبير"، كما في النصّ القديم: "في البدء كانت الكلمة"، لمنحِها المعنى الحرفي. بدءاً من اللّاهوت، وقَعنا في عالم الكلمات، العالمُ الوحيد الّذي يحمينا، من خلال تلميعاته الفاتنة، ضدّ التفاهة الّتي تجبرنا على المطلق، والإخلاص والذّوق السيّئ. الجهود اللّغوية الخالية من أيّ حادث حسِّيٍ تجرُّ "المعنى" خارج المَلل وعيوبه وتجعله "صعبَ الفهم"، بالتوازي مع وضاعةِ البداهة، أو لفترة أطول. ثمّ، من خلال هذه التمويهات التي نغطّي بها الكلمات، ننسى أنّها منفصلة عن الروح، تماماً مثلَ اشمئزازنا.

*

أن نشعر بتعفُّنِنا الداخلي، وأن نعيش ذلك كمرضٍ يُوهمنا بالعافية. ذلك لأنّ المرض نَشِطٌ، وله اسم، وله مصير، بينما المرضُ الجلديّ السلبيّ لأعضائنا يأخذُنا خارجَ نطاق الأفعال. أن نتقبّل شَرّاً "مفهوماً" يعني المشاركة في إيقاع المستقبل؛ أن نتحمّل شيئاً لا يمكن وصفه سوف يرمي بنا إلى الظّلمات المجهولة للمادّة. لهذا السبب ربّما يُعتبر المرضُ علاجاً فعّالاً ضدّ المَلل، بينما تعفُّننا الداخليّ يضمُّنا إليه.

*

الصحة مرضٌ غير مكتمل.

*

يظلّ سرُّ هذا العالم الشاسع غير قابلٍ للاختراق لأنّ أحداً لم يجد صيغةً لتحقيق تَوقِهِ الشديد إلى الاختفاء. العالمُ نفسه لم يجد هذه الصيغة أيضاً، هو الذي لا يعرف حتّى الآن كيف يختفي.

*

كلُّ قطرةِ فكرٍ تحفرُ في الفضاءِ قبراً لفكرةٍ أخرى.

*

علِّم نفسكَ حتى تصل إلى درجةٍ يبقى فيها كلُّ شيء خلفك - بدءاً من نفسك.

*

هذه النظرات الّتي تشعركَ بالحنين والأمومة، إذ تغرق فيها مبتهجاً، والتي تعزّيك عن القدر الذي تتحمَّله أو قد تتحمَّله... نظراتُ العينين - وليس الميتافيزيقيا – تشفينا من الألم الّذي  يهدِّد عدم توازننا الضروريّ.

*

رعشاتٌ تطفو كإجابةٍ غير متوقّعة عن القُوى التي خنَقت حماسَنا إلى إبادةِ الذات. هذا النوع من الزلازل يتجاوز مستملحاتِ الطبيعة، ويقلِّل من معنى ووزنِ أيِّ وباء. هي الأعماق الّتي يرثي فيها المنتحرُ نفسه ويصبُّ جام غضبه مثل خطيئةٍ غير قادرة على الوصولِ إلى شكلها الأخير.

*

منذ أن انتشلتني هزَّاتُ المثالِ المرير من سُبات الحياة، أصرخُ في جهاتِ الأرض الأربع بهذا اللّاشيء الذي يسكنني، إنّه الطبل الغامض لغيابي الخاصّ. النُّبل المشبوهُ لهذه الصحوة هو حدادٌ لن تستطيع الروح احتضانَه من دون أن تستسلم للنسيان. من هذا الموت الجميل، أنهض مكلَّلاً بهالةٍ نورانية كما في القيامة الملعونة. النَّوم مَهْرٌ، عندما يضيعُ لا يمكن تعويضه بسحرِ أيِّ شكلٍ من الإيمان، والكائنُ المضطَهد يقلبُ اضطهاده إلى مودّة، لأنّه غير معنيّ بتقديمِ الحساب لأحد.

ترجمها عن الفرنسية: نجيب مبارك

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
26 ديسمبر 2019
ترجمات
1 ديسمبر 2019

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.