}

الإمامُ الشافعيّ: ابن غزّة وعالمُها وعاشقُها وشاعرُها

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 4 مايو 2024
استعادات الإمامُ الشافعيّ: ابن غزّة وعالمُها وعاشقُها وشاعرُها
قبة الإمام الشافعي - القاهرة
إنه الإمامُ صاحبُ المذهب... تاريخٌ حافلٌ بالعطاء... سجلٌ زاخرٌ وبحرٌ فيّاض ونبعٌ لأْلاء... وهُو النهر الذي لا ينضب... إنه محمد ابن إدريس ابن العباس ابن العثمان ابن شافع القرشيّ المطّلبيّ، الذي يلتقي مع نبي الإسلام في أن كليهما من بني عبد مناف... هو، إذًا، شريف النسب والأصلِ والحَسب... وهو بعد كل هذا وذاك، أو قبله، أو في قلبِهِ، ابن غزّة التي ولد فيها، على أشهر الروايات وَأكثرها، عام 150 للهجرة (على الأرجح في خلافة العباسيّ أبي جعفر المنصور)... وإلّا فإن ولادته كانت في عسقلان... ولا أرى فرقًا جوهريًّا بين غزّة وعسقلان، ولكنه، على الغالب المرجّح، ابن غزّة التي قال فيها "وإنّي لَمشتاقٌ إلى أرض غزّةٍ/ وإنْ خانني بعد التفرّق كِتماني". يشتاق إليها شوقًا يسكن أعماق قلبه ويفشلُ في كتْمانه، رغم أنه لم يقِمْ فيها سوى سنتيْن، حين حملته أمّه ورحلت به إلى مكّة لتحفظ له نسبه الهاشميّ الشريف. وَكما هي حال معظم أبنائها اليوم بعد الحصار والقتْل والتدْمير والتهْجير والتجْويع، عاش الإمام الشاعر في غزّة يتيمًا فقيرًا معوزًا ذا حاجة، وقضى حياته في كدٍّ وَتعب... مات أبوه فور ولادته وعاش في كنف أمّه التي انطلقت به نحو أبواب الفَرَجِ والعلمِ والفَرادة، ثم أكمل ما ربّته عليه أمّه، فانطلق، بِدوره، في رحلة طلب العلم من مكة المكرمة، إلى المدينة المنوّرة، إلى العراق، إلى اليمن، وإلى مصر، فإذا به يضع بصمتَهُ في كلِّ أرضٍ نَزَلَ بها... كيف لا وهو الحاذقُ، اللبيبُ، الذكيُّ، شديدُ الفِطنةِ، سيّال الذّهن، كثيرُ الحفظِ سريعُهُ، حاضرُ البديهةِ، عميقُ الفراسةِ؟ بالنسبةِ لِمسألةِ سرعة حفظه فقد قيل فيها ما قيل، وأذكر عندما كنّا فتيةً نرتاد المساجد، نلبّي مجسّات الفضول، ونجوسُ في هواجسِ اليقين، كان يقول لنا مشايخُنا إن الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كان يخفي الصفحة اليسار من الكتاب بين يديه كي لا يحفظها قبل الصفحة اليمين التي بين يديه يقرأ فيها، فإذا به يحفظها من أوّل قراءةٍ لها، فهو كان يحفظ، كما قال مجايلوه، من دون أن يقصد الحفظ.
بدأ مسيرته العلمية والفقهية والموسوعية بسرعةٍ مكّوكية، فحفظ القرآن وهو في السابعة من عمره، و"موطّأ" ابن مالك في العاشرة، وأُذِن له بالفتوى شابًا عندما أقام في مكّة، كما حفظ آلاف الأحاديث النبوية، وتتلْمذ على أكابر العلماء في عصره.
أمّا شِعره فهو بابٌ واسع من أبواب تناول سيرته ومسيرته، فُتحت أبوابه له مبكرًا شأنها شأن مختلف أبواب الفَرادة التي هيّئت له وهو في عمر اليافعين وفي ميعان الشباب. يقول عن نفسه حول شعريته وتميّزها: "ولولا الشعر بالعلماء يُزري/ لكنتُ اليوم أشعرَ من لبيدِ". صحيح أن نتاجه الشعريّ لم يكن غزيرًا في كمّه وعدد القصائد المنسوبة إليه، ولكنّه القليلُ المتوّجُ بالمعنى والقيمةِ والجزالةِ والحكمةِ والنصحِ والاعتدادِ بالنفسِ.

مضربُ الأمثال

كثيرٌ من شعر الشافعي يجري حتى يومنا هذا مجرى الحكم على ألسنِ الناس: "وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى/ ذَرعًا وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ... ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها/ فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ"، فالبيت الثاني "ضاقت..." يرد على ألستنا جميعًا، من دون أن يعرف معظمنا، ربما، أن هذا البيت هو من شعر الإمام صاحب المذهب. وهنالك الأبيات التي يجري تداولها حتى يومنا هذا، حتى إن بعضهم غنّاها غناء (غنّاها، مثلًا، المؤدي البحريني خالد الشرفي من دون موسيقى): "دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ/ وَطِب نَفسًا إِذا حَكَمَ القَضاءُ... وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي/ فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ". أو بيتاه الشهيران: "تَموتُ الأُسدُ في الغاباتِ جوعًا/ وَلَحمُ الضَأنِ تَأكُلُهُ الكِلابُ... وَعَبدٌ قَد يَنامُ عَلى حَريرٍ/ وَذو نَسَبٍ مَفارِشُهُ التُرابُ". ومنها قوله: "وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ/ وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا".

ضريح الإمام الشافعي  في القاهرة

ومن أبياته الشهيرة التي يرددها إلى يومنا هذا الفقهاء والصوفيون وأصحاب الألباب النيّرة:
"إِنَّ لِلَّهِ عِبادًا فُطَنا        تَرَكوا الدُنيا وَخافوا الفِتَنا
نَظَروا فيها فَلَمّا عَلِموا       أَنَّها لَيسَت لِحَيٍّ وَطَنا
جَعَلوها لُجَّةً وَاِتَّخَذوا    صالِحَ الأَعمالِ فيها سُفُنا".
اللافت أن كثيرًا من أشعار الشافعيّ التي جرت على ألسن الناس مضرب أمثال ومنابع حكمة هي مما يجري تداوله من دون أن يعرف المقتبسون لها، المتّكئون عليها لِتعزيز فكرة، أو إيضاح مسألة، أنها من أشعار إمام كان مقلًا في شعره، ولكن هذا القليل الذي وصلنا ينطبق عليه المثل الشعبي (قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ منقطِع)، ومنه:
"نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا           وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ     وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ     وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضًا عَيانا".




ويكفي أن بيتَه "ما طار طيرٌ وارتفع/ إلّا كما طار وقع" مما قد يسمعه المرءُ، ومن دون أدنى مبالغة، يوميًا، إنْ من باب الدعوة إلى عدم الغرور، أو من باب التعامل بواقعيةٍ من تقلّبات الزمان، وحتى أنه قد يقال من باب الشماتة.

عزّة غزّة

هذا هو شعر الإمام الزاهد العابد الطالع من وعودِ غزّة؛ شعرٌ يقْطُرُ حِكمةً وَبلاغةً وكرامةَ نفس: "وَالعودُ لَو لَم تَطِب مِنهُ رَوائِحُهُ/ لَم يَفرِقِ الناسُ بَينَ العودِ وَالحَطَبِ"، أو: "وَأَحسِن إِلى الأَحرارِ تَملِك رِقابَهُم/ فَخَيرُ تِجاراتِ الكِرامِ اِكتِسابُها"، أو: "وَلَكِنَّني أَسعى لِأَنفَعَ صاحِبي/ وَعارٌ عَلى الشَبعانِ إِن جاعَ صاحِبُه"، أو: "يُخاطِبُني السَفيهُ بِكُلِّ قُبحٍ/ فَأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مُجيبا... يَزيدُ سَفاهَةً فَأَزيدُ حِلمًا/ كَعودٍ زادَهُ الإِحراقُ طيبا"، أو: "وَمِنَ البَلِيَّةِ أَن تُحِـ/ ـبَّ وَلا يُحِبُّكَ مَن تُّحِبُهُ... وَيَصُدُّ عَنكَ بِوَجهِهِ/ وَتُلِحُّ أَنتَ فَلا تُغِبُّهُ".
حتى نثره فإنه يشعّ، كما شعره، بالعزّة وَالمروءةِ: "لو علمت أن شرب الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته إلّا حارّا".
ومن شعره الذي يؤكد عزّته واعتدادَه بنفسِه: "إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا/ فدعه ولا تُكثر عليه التأسّفا". ومنها: "زِن من وَزَنْكَ بِما وَزَنكَ/ وما وَزَنكَ بهِ فَزِنْهُ... من جا إليكَ فرُحْ إليهِ/ وَمن جَفاكَ فَصُدَّ عنهُ... من ظنَّ أنّك دونهُ/ فاتْركْ هواهُ، إذًا، وَهِنْهُ... وارجِعْ إلى ربِّ العِباد/ فكلُّ ما يأتيكَ مِنْهُ".
وهل من عزّة أوضح من الواردةِ في البيتِ الآتي: "أَمَتُّ مَطامِعي فَأَرَحتُ نَفسي/ فَإِنَّ النَفسَ ما طَمِعَت تَهونُ"؟
عزّةُ نفسٍ صنعتها الشّدائد: "جزى الله الشدائدَ كلَّ خيرٍ/ وإن كانت تُغَصْغِصُني بِريقي... وما شكري لها إلا لأنّي/ عرفتُ بها عدوّي من صديقي". وهل عرفت غزّة التي ولد فيها وعشقها وهو غائب عنها، عدوّها من صديقها إلى بعد أعظم شدائد الزمن المعاصر وربّما القديم: شدّة القتل فيها، واستهداف أطفالِها قبلَ كبارها، وإلقاء أشرس مقذوفات الغرب اللئيم وفي مقدمته راعية القتل الأممي أميركا فوق رؤوسِ أهْليها؟
وفي العزّة، وفي نفسِهِ الحُرَّةُ أيضًا، وأيضًا، يقول:
"أمطري لؤلؤًا سماء سرنْدي/ ــ بَ وَفيضي آبارُ تَكرورَ تِبرا... أَنا إِنْ عِشتُ لَستُ أَعدَمُ خبزًا/ وَإِذا مُتُّ لَستُ أَعدَمُ قَبرا... هِمَّتي هِمَّةُ المُلوكِ وَنَفسي/ نَفسُ حُرٍّ تَرى المَذَلَّةَ كُفرا... وَإِذا ما قَنِعتُ بِالقوتِ عُمري/ فَلِماذا أَزورُ زَيدًا وَعَمرا".
والملاحظ هنا، من خلال ذكره اسم مدينتيْن ليستا من المدن العربية (سرنْديب الآسيوية، وتِكرور الأفريقية) سعة اطّلاعه وعميق معرفته.
وهي عزّةٌ قادته إلى الابتعاد عن أبواب الملوك وَالسلاطين ترفّعًا وحفظَ كرامة:
"إِنَّ المُلوكَ بَلاءٌ حَيثُما حَلّوا           فَلا يَكُن لَكَ في أَبوابِهِم ظِلُّ
ماذا تُؤَمِّلُ مِن قَومٍ إِذا غَضِبوا   جاروا عَلَيكَ وَإِن أَرضَيتَهُم مَلّوا
فَاِستَغنِ بِاللَهِ عَن أَبوابِهِم كَرَمًا        إِنَّ الوقوفَ عَلى أَبوابِهِم ذُلُّ".

الممثل خالد النبوي جسد شخصية الإمام الشافعي في مسلسل تلفزيوني 

السعيُ في مناكِبها

أكثر الشافعيّ من الأشعار الحاضَة على السعي في مناكبِ الأرض طلبًا للعلم، أو الرزق، أو التعرّف على بلاد الله الواسعة، وكأني به يستشرف ما سوف يحلّ بأهل غزّته من تضييقٍ وحصارٍ، وإغلاقِ منافذَ ونوافذَ ومعابِر. يقول في نموذجِ من شعره التجوّليّ:
"ما في المَقامِ لِذي عَقلٍ وَذي أَدَبِ... مِن راحَةٍ فَدَعِ الأَوطان وَاِغتَرِبِ
سافِر تَجِد عِوَضًا عَمَّن تُفارِقُهُ... وَاِنصَب فَإِنَّ لَذيذَ العَيشِ في النَصَبِ
إِنّي رَأَيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُهُ...  إِن ساحَ طابَ وَإِن لَم يَجرِ لَم يَطِبِ
وَالأُسدُ لَولا فِراقُ الأَرضِ ما افْتَرَسَت... وَالسَهمُ لَولا فِراقُ القَوسِ لَم يُصِبِ
وَالشَمسُ لَو وَقَفَت في الفُلكِ دائِمَةً... لَمَلَّها الناسُ مِن عُجمٍ وَمِن عَرَبِ
وَالتِبرُ كَالتُربِ مُلقىً في أَماكِنِهِ...  وَالعودُ في أَرضِهِ نَوعٌ مِنَ الحَطَبِ
فَإِن تَغَرَّبَ هَذا عَزَّ مَطلَبُهُ...        وَإِن تَغَرَّبَ ذاكَ عَزَّ كَالذَهَبِ".
وفي السياق نفسِه قوله:
"سَأَضرِبُ في طولِ البِلادِ وَعَرضِها... أَنالُ مُرادي أَو أَموتُ غَريبا... فَإِن تَلِفَت نَفسي فَلِلَّهِ دَرُّها... وَإِن سَلِمَت كانَ الرُجوعُ قَريبا".

حبيبُ آلِ النّبي

ربّما بسبب ما زرعته أمّه في وجدانهِ مُذ كان طفلًا، كبُر الشافعيّ متعلقًا بآلِ بيتِ النبيّ المصطفى، خصوصًا علي بن أبي طالب. تَعُلُقٌ لم يصلْ بهِ إلى أبواب الرافضية، كما يقول في الأبيات الآتية: "قالوا تَرَفَّضتَ قُلتُ: كَلّا/ مَا الرَّفْضُ دِيني وَلاَ اعْتِقَادِي... لكنْ تَوَلَّيتُ من غير شكٍّ/ خيرَ إمامٍ وخيرَ هادي... إنْ كانَ حُبُّ الْوَلِيِّ رَفْضًا/ فإنَّ رفضي إلى العبادِ". وكذلك قوله: "يا آلَ بَيتِ رَسولِ اللَهِ حُبَّكُمُ/ فَرضٌ مِنَ اللَهِ في القُرآنِ أَنزَلَهُ... يَكفيكُمُ مِن عَظيمِ الفَخرِ أَنَّكُمُ/ مَن لَم يُصَلِّ عَلَيكُم لا صَلاةَ لَهُ". أمّا ذروة تعلّقه بهم فتعلنها الأبيات الآتية:
"إِذا في مَجلِسٍ نَذكُر عَلِيًّا          وَسِبطَيهِ وَفاطِمَةَ الزَكِيَّه
يُقالُ تَجاوَزوا يا قَومُ هَذا          فَهَذا مِن حَديثِ الرافِضِيَّه
بَرِئتُ إِلى المُهَيمِنِ مِن أُناسٍ  يَرَونَ الرَّفضَ حُبَّ الفاطِمِيَّة".

وظيفةُ الشعر

رأى الشافعيّ في الشعر وظيفةً كبرى تحصّنه من قول الله تعالى في سورة الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)}.




فالشعر لا بدّ له لِكي يدخل في خانة الاستثناء من الغواية، والهوى "فخَالِفْ هَوَاكَ فإنَّ الهوَى/ يقودُ النفوسَ إلى ما يعابُ"، والتّهويم، أن يقْتصر على قول الحكمة، وَيُفضي إلى نصيحة، ويعزّز أركان الإيمان، وَينحاز إلى المعاني الكبرى حول الحقِّ والحقيقةِ والكرامةِ وَالوفاءِ والفِداءِ وحفظِ أعراضِ الناس واحترام عقولهم. لنتأمّل، على سبيل المثال أبيات الإمام الشاعر الآتية:
"إِذا رُمتَ أَن تَحيا سَليمًا مِنَ الرَدى  وَدينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ
فَلا يَنطِقَن مِنكَ اللِسانُ بِسَوأَةٍ             فَكُلُّكَ سَوءاتٌ وَلِلناسِ أَلسُنُ
وَعَيناكَ إِن أَبدَت إِلَيكَ مَعائِبًا            فدَعها وَقُل يا عَينُ لِلناسِ أَعيُنُ
وَعاشِر بِمَعروفٍ وَسامِح مَنِ اِعتَدى  وادفع وَلَكِن بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ".
يريد للشعر أن يفيض بالقيمِ الغَوالي، ويسهم في تفقيهِ الناس بأرقى معاني الوجود: "الناس بالناسِ ما دام الحياء بهم/ والسعد لا شك تارات وهباتُ... وأفضل الناس ما بين الورى رجلٌ/ تقضى علي يده للناس حاجاتُ".
الشعر كما يرى إما أن ينطق بالحكمة، أو أنه قد يقع في حشو الكلام: "لا خَيرَ في حَشوِ الكَلا/ مِ إِذا اِهتَدَيتَ إِلى عُيونِهِ... وَالصَمتُ أَجمَلُ بِالفَتى/ مِن مَنطِقٍ في غَيرِ حينِهِ".
ولا بدّ أن يكون بحق، شعرٌ يوسّع الصدور، ويستوطن الصبر:
"سيفتح باب إذا سدَّ بابُ/ نعم وتهون الأمور الصعابُ... ويتسع الحال من بعد ما/ تضيقُ المذاهبُ فيها الرِّحابُ... مَعَ الهَمِّ يُسْرَانِ هَوِّنْ عَلَيْكَ/ فَلاَ الْهَمُّ يُجْدِي، وَلاَ الاكْتِئَابُ".
شعرٌ يدعو إلى العِلْم منذ الصِّغَرِ: "وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ وَقْتَ شَبَابِهِ... فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا لِوَفَاتِهِ".
وَيرى أن العلمَ يرفعُ من قدرِ أصحابِه:
"رَأَيتُ العِلمَ صاحِبُهُ كَريمٌ               وَلَو وَلَدَتهُ آباءٌ لِئامُ
لَيسَ يزالُ يَرفَعُهُ إِلى أَن            يُعَظِّمَ أَمرَهُ القَومُ الكِرامُ
وَيَتَّبِعونَهُ في كُلِّ حالٍ          كَراعي الضَأنِ تَتبَعُهُ السَوامُ
فَلَولا العِلمُ ما سَعِدَت رِجالٌ   وَلا عُرِفَ الحَلالُ وَلا الحَرامُ".
دعوته إلى العلم تصل إلى حدِّ الأمر كما في البيت الآتي: "تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا/ وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ".
يريده شعرًا يطالبُ بالترفّع عن مجاراة السّفيه: "إِذا نَطَقَ السَفيهُ فَلا تَجِبهُ/ فَخَيرٌ مِن إِجابَتِهِ السُكوتُ... فَإِن كَلَّمتَهُ فَرَّجتَ عَنهُ/ وَإِن خَلَّيتَهُ كَمَدًا يَموتُ".
شعرٌ يظهر فيه حكيمًا ممتلئًا بِسعةِ الصدر وعظيمِ الحُلْم ورجاحةِ العقل:
"قالوا سَكَتَّ وَقَد خُوصِمتَ قُلتُ لَهُم/  إِنَّ الجَوابَ لِبابِ الشَرِّ مِفتاحُ
والصمَّتُ عَن جاهِلٍ أَو أَحمَقٍ شَرَفٌ/  وَفيهِ أَيضًا لِصَونِ العِرضِ إِصلاحُ
أَما تَرى الأُسدَ تُخشى وَهِيَ صامِتَةٌ/ وَالكَلبُ يخسى لَعَمري وَهوَ نَبّاحُ".
هو يريده شعرًا يقرّ فلا يفرّ، ويعزّز في النفوس مكامن الشجاعة والإقدام. شعرٌ مشبعٌ بِاليقين والتسليم بقضاء الله وقدره: "وَما مَوتُ مَن قَد ماتَ قَبلي بِضائِري/ وَلا عَيشُ مَن قَد عاشَ بَعدي بِمُخلِدي".
ويريدهُ شعرًا يشبههُ هو نفسَه، فَهو كريمُ النّفس كان، معطاءٌ بلا حدود: "أجودُ بِمَوجودٍ وَلَو بِتُ طاوِيًا/ عَلى الجوعِ كَشحًا وَالحَشا يَتَأَلَّمُ".
ولا نبالغ إن رأينا أن من أهم وظائفِ شعره كشفِهِ عن بعض منهجهِ الحياتيّ الجامع بين الفقه العليم والعِبادة المتعلقة بالله حبًا خالصًا، قوله:
"فقيهًا وصوفيًا فكن ليسَ واحدًا/ فَإني وَحَقِّ اللَّهِ إيَّاكَ أَنْصَحُ... فذلك قاسٍ، لم يذق قلبه تقىً/ وهذا جَهولٌ، كَيفَ ذو الجَهلِ يَصلُحُ؟".
شعرٌ يحرّضُ على رفضِ منَّةَ المُمَنِّن: "رَأَيتُكَ تَكويني بِمَيسَمِ مِنَّةٍ/ كَأَنَّكَ كُنتَ الأَصلَ في يَومِ تَكويني... فَدَعني مِنَ المَنِّ الوَخيمِ فَلُقمَةٌ/ مِنَ العَيشِ تَكفيني إِلى يَومِ تَكفيني".
حتى أن الحكمة في شعره وصلت إلى حدِّ الفراسة واستشرافِ ما هو آت، ففي أبياتٍ له، كما لو أنه يقرأ ما سوف يحلّ بأهل غزة التي أحب من خِذلانٍ وانفضاضٍ وغدْر ذوي القٌربى: "إنِّي صَحِبْتُ أناسًا مَا لَهُمْ عَدَدُ/ وَكُنْتُ أَحْسبُ أنِّي قَدْ مَلأَتُ يدِي... لَمَّا بَلَوْتُ أخِلّائي وَجَدْتُهُمُ/ كالدَّهرِ في الغَدرِ لَم يُبقوا على أحدِ".
رحم الله الشافعيّ، صاحب المذهب، الإمام الشاعر، ابن غزّة وعاشقها:
"وإني لمشتاق إلى أرضِ غزَّةَ **       وإنْ خانَني بعد التفرّق كِتْماني
سقى الله أرضًا لو ظفرتُ بِتُرْبها ** كحَّلْتُ بهِ من شدَّةِ الشوقِ أجْفاني".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.