}

رمضان بفلسطين قبل النكبة: عادات وتقاليد زيّنت حياة الصائمين

أوس يعقوب 3 أبريل 2024
استعادات رمضان بفلسطين قبل النكبة: عادات وتقاليد زيّنت حياة الصائمين
إطلاق مدفع رمضان في القدس (فيسبوك: وجوه من فلسطين)

 

لكلّ مجتمع عاداته وتقاليده التي يحافظ عليها، وتصبح مع مرور الزمان من التراث الثقافيّ الذي لا يقبل التنازل عنها، ولقد كانت للشعب الفلسطينيّ قبل عام النكبة 1948 عاداته وتقاليده الخاصّة في شهر رمضان، وهي عادات وتقاليد تتشابه مع العادات والتقاليد في بلاد الشام بشكلٍ خاصّ بحكم التقارب الجغرافيّ، وباقي الدول العربيّة بشكلٍ عامّ.

في هذه المقالة، نسلّط الأضواء على جوانب من مظاهر شهر رمضان في فلسطين في النصف الأوّل من القرن العشرين.

مدفع رمضان... هدية بريطانيا إلى مسلمي فلسطين

كان الفلسطينيّون يعرفون موعد حلول شهر رمضان قبل دخول جهاز الراديو إلى بيوتهم الفلسطينيّين، إمّا من خلال مراقبة القمر من المناطق العالية وإمّا بالصدفة. أمّا موعد الإفطار، فلم يكن للآذان قديمًا هذا الحضورُ المسموعُ في الفضاء العامّ الذي بات عليه اليوم. فالناسُ في أيّ مدينةٍ أو قريةٍ من البلاد، كانوا قبل وجود ساعات الجيب التي كانت تقتصر على جيوب قِلّة من الناس خاصّة في القرى، ومُكبّرات الصوت بعد أن حلّت الكهرباء بفلسطين عام 1914، بالكاد قادرين على سماع آذان الفجر من بيوتهم.

بينما كان يقتصرُ سماعُ آذان الظُهر أو العَصر أو المَغْرب أو العِشاء على المُصلين المتواجدين في الجامع، لذا كان الناس يرسلون أولادهم كلّ يوم خلال الشهر الفضيل للانتظار بالقرب من الجامع حتّى يسمعوا الآذان، ليخبروا بدورهم عائلاتهم ببدء موعد الإفطار، فينطلق الخبر من بيت إلى آخر.

ووفقًا لمصادر فلسطينيّة كانت مساحةُ سماعِ الآذان ضيّقة قبل وجود مُكبّرات الصوت - كما ذكرنا سابقًا -، فجرى ابتكار تقنية "طلقة المدفع" كإشارةٍ للصائمين تُحِلُّ الإفطار وتَأذنُ بتناول الشراب والطعام.

وممّا يتّضح من الصحف الفلسطينيّة التي كانت تصدر في منتصف أربعينيات القرن الماضي، فإنّ جيش الاحتلال البريطانيّ كان يحاول التقرّب من سكّان المدن الفلسطينيّة، فعمل على منحهم مدافع للإفطار. من ذلك ما نشرته صحيفة "الدفاع" في 7 تشرين الثاني/ أكتوبر 1945، وهو خبر ذكر أنّ حفلًا نُظّم بحضور الجنرال جي كي دارسي، قائد الجيش البريطانيّ في فلسطين وشرق الأردن آنذاك، لتسليم "مدفع رمضان" هدية إلى مسلمي مدينة القدس.

وفي عكا، نُظم حفل مماثل يوم 2 تمّوز/ يوليو 1947 لتسليم الجيش البريطانيّ مدفع رمضان، بحضور الجنرال ماكميلان، قائد الجيش البريطانيّ في فلسطين وشرق الأردن حينها. كما يتّضح أنّ غالبية المدن في تلك الفترة، مثل: القدس، وغزّة، ويافا، وحيفا، وعكا، ونابلس، وطولكرم، وجنين، باتت تمتلك مدافع للإفطار.

وكانت السلطات البريطانيّة تقوم بتسليم المدفع لرئيس البلدية أو للمجلس الإسلاميّ الأعلى، في أثناء احتفالات تتخلّلها خطابات، ويرتل فيها القرآن الكريم، وتوزع حلويات. وظلّ يُعمل بتقليدِ مدفع رمضان في هذه المدن إلى أن احتلّها الجيش الإسرائيلي ومنع هذا التقليد، باستثناء بعض المدن مثل طولكرم، وكذلك القدس التي لا يزال مدفع رمضان يُضرب فيها إلى يوم المقدسيّين هذا رغم قيود الاحتلال وسطوته عليه.

أمّا المدن الفلسطينيّة الصغيرة، مثل صفد، وبيسان، والناصرة، فكان يُستخدم الخرطوش أو الجفت ليؤذّن للصائمين بالإفطار.

وفي المدن والبلدات والقرى الفلسطينيّة التي توطنها تاريخيًّا مسلمون ومسيحيّون، لم تتوانَ الكنائس عبر أجراسها من القيام بمهمة التوقيت والإذن بالإفطار، خصوصًا وأنّ جيوب الخوارنة والرهبان كانت أوّل ما تسلّلت إليها ساعةُ الجيب التقليديّة، لاعتمادهم عليها في مواقيت دقّ جرس الكنيسة.

"الشعبونيّة" وأشهر أكلات الإفطار التقليديّة

اعتاد الآباء والأبناء والأحفاد تناول طعام الإفطار في منزل الأب أو أحد الأبناء بشكلٍ دوري، وبعض الأسر اعتاد الأبناء نقل طعام إفطارهم إلى بيت والدهم، كما اعتادوا دعوة الأقارب والأرحام والأصدقاء مرّة على الأقلّ في هذه الأيّام المباركة لمشاركتهم وجبة الإفطار.

كما كانت العديد من العائلات تدعو أرحامها وأطفالهنّ في هذا الشهر للاجتماع على مائدة واحدة. وسُمِّيت هذه العادة "الشعبونيّة" نسبةً إلى شهر شعبان وهو الشهر الثامن في التقويم الهجريّ. وهي عادة منتشرة في بعض المدن الفلسطينيّة وخاصّة في مدينة نابلس.

خباز في عكا عام 1920 


و"الشعبونيّة" عادة ما تستمرّ لمدة ثلاثة أيام وثلث اليوم؛ وفي اليوم الأخير يستضاف الأزواج وأولادهم البالغون. وتقام السهرات الليليّة والحفلات العائليّة، ويستمع المدعوّون إلى الطرائف والنوادر من بعضهم البعض، ويستمتعون بالعزف على العود والطبل بمصاحبة الأناشيد والأهازيج الشعبيّة. وتعيش تلك الأسرة الكبيرة في هناء وسرور في ساعات قد تمتدّ من المساء إلى الفجر.

ومن أشهر الأكلات التقليديّة التي كانت تحضر للإفطار: المسخن- يتكوّن من دجاج مطهو في الفرن مع الخبز والبصل وزيت الزيتون والسمّاق؛ المقلوبة- طبقات من الرز واللحم والخضار المقلية أو المسلوقة؛ المحشي- خضار محشوّة بالأرز مع أو بدون اللحم؛ القدرة- لحم أرز، مع الحمص والتوابل تطهى في جرة نحاسيّة في الفرن؛ المنسف- أرز مطبوخ مع اللبن ولحم الخروف، والمنسف ليس طبقًا عاديًّا، وإنّما وليمة لها طقوسها الاحتفاليّة الخاصّة بها؛ المجـدرة التي تتكوّن من العدس والبرغـل أو الأرز (القمح المسلوق) وزيت الزيـتون، والبصل المقلي المحمّر.

ولا تخلو موائد الإفطار الفلسطينيّة من المتبلات والمخلّلات بأنواعها والسلطات المختلفة لفتح الشهية والزيتون.

ومن أشهر المشروبات الشعبيّة في عموم فلسطين في رمضان؛ العرقسوس الذي يحضر من تصفية مادة العرقسوس التي توضع في شاش نظيف يصب عليه الماء بعد تخميره مع مادة بيكربونات الصوديوم (كربونة الطبخ) لعدّة ساعات في مكان دافئ مشمس. وقمر الدين ويصنع بإذابة عصير المشمش المحلّى والمجفّف مع الماء. والتمر هندي وهو مشروب حمضي المذاق أحمر يميل إلى السواد قليلًا. والخروب الذي يُنقع في الماء لمدة 12 ساعة أو طوال الليل، ثم يُغلى قبل أن يصفّى وتزال منه قطع الخروب، ويضاف إليه السكر، ثمّ يبرّد ويشرب.

أمّا السحور ففي أغلب المدن والقرى كان هناك المسحّراتي، الذي يبدأ بالتجوّل قبل آذان الفجر حتّى انطلاقه، وكان ينادي: "قومْ يا نايِمْ وَحِّدِ الدايِمْ، قومْ تْسَحَّرْ يا صايِمْ".

من الحلويات الّتي كانت شائعة أيّام زمان في فلسطين، القطايف المحشوّة إمّا بالقشطة أو الجبنة أو الجوز أو اللوز أو السمسم أو الفول السودانيّ، والكنافة بنوّعيها الخشنة والناعمة؛ وهي عبارة عن جبنة بيضاء مصنوعة محلّيًّا مطبوخة تحت طبقة من سميد القمح المصبوغ باللون البرتقاليّ المحلّى بالقطر، والعوامة (لقمة القاضي) وهي حلوى كرويّة الشكل، سهلة التحضير وغير مكلفة، تقتصر مكوّناتها على: الدقيق المنخول مع الخميرة، الماء، خميرة البيرة المذابة في الماء الدافئ؛ ثمّ تقلى هذه العجينة بإلقائها في الزيت الساخن وتركها مع التقليب المستمرّ حتى تكتسب اللون المحمّر؛ ويتمّ تشريبها بالقطر حسب الرغبة. ومعظم هذه الحلويات يصنع في البيوت.

وقد اعتاد الفلسطينيّون على الإكثار من الصدقات والإحسان وإرسال صحون الطعام إلى الجيران والأصدقاء والأسر المحتاجة فقبل موعد آذان المَغْرب تبدأ الصحون تنقل بين المنازل.

عيد الفطر... كعك وبهجة وملابس جديدة

قبيل عيد الفطر تبدأ العائلات بالتزيين والتجهيز لاستقبال العيد الذي يتميّز عن باقي الأيّام بالبهجة والملابس الجديدة، خاصّة للأبناء والنساء، فتعجّ الأسواق بالمتسوقين لشراء مستلزمات العيد من ملابس وأطعمة وفواكه وحلويات.

وتجتمع النساء في اليوم الأخير من رمضان لصناعة كعك العيد الذي يتمّ حشوه بالتمر أو الجوز أو الفستق، وتظهر كلّ منهنّ حذاقتها وبراعتها في ابتكار طرق جديدة لصناعة أصناف الحلويات.

ومن أشهر تلك الحلويات التي كانت تُعدها العائلات الفلسطينيّة إلى جانب كعك العيد؛ البقلاوة وهي طبقات من العجينة مع فستق محلاة بالقطر.

وفي الصباح الباكر من يوم عيد الفطر، وقبل طلوع الشمس؛ يسارع الناس لارتداء ملابسهم الجديدة فرحين بطاعتهم التي أدّوها في رمضان، ويخرجون للصلاة في المساجد أو في الساحات العامّة، فيؤدّون الصلاة ويستمعون إلى خطبة العيد. وما أن تنتهي هذه الشعيرة حتى يقبل الجميع على بعضهم مهنئين وداعين الله أن يتقبل طاعتهم، ويقولون: "تقبل الله طاعتكم" و"كلّ عام وأنتم بخير".

وبعد خروجهم من المساجد؛ يذهب العديد منهم إلى المقابر؛ فيقرؤون القرآن لإيصال ثوابه إلى موتاهم وشهدائهم ويترحمون عليهم، ويوزعون المال والحلوى والكعك عن أرواحهم.

وفي طريق عودتهم إلى بيوتهم؛ يسلمون على كلّ من يمرّ بهم، وبعد العودة إلى البيت يجتمع أبناء العائلة معًا ويزورون بناتهنّ كي يفخرنّ بهم أمام عائلاتهنّ، خاصّة إذا كنّ متزوجات من أناس من عائلات أخرى، أو في بلدان أخرى (غرايب)؛ فهم (سندهنّ وعزوتهنّ). ويحمل الزائرون الهدايا والحلويات لأرحامهم، تعبيرًا عن صلة القرابة التي تربطهم بهنّ، وطلبًا للأجر والثواب من الله.

وقد جرت العادة أن يذهب (يسيِّر) أبناء الحمولة إلى بيت من فقد ابنه أو زوجته أو ابنته أو أيّ قريب من الدرجة الأولى في ذلك العام، تعبيرًا عن شعورهم معه. غير أنّ تحيتهم له تختلف عن غيره من الناس؛ فيقولون له: "تقبل الله طاعتكم" فقط، ولا يقولون: "كلّ عام وأنتم بخير". وبعد الانتهاء من زيارة الأرحام يتوجّه الناس لتهنئة جيرانهم وأصدقائهم.


م
صادر:

  • ياسر البنا، مقالة بعنوان: "أبو جِلدة" و"مدافع بريطانية" و"إفطار بروتستانتي"... مشاهد من رمضان بفلسطين قبل النكبة، موقع "الجزيرة نت"، 19 نيسان/ أبريل 2023.
  • علي حبيب الله، مقالة بعنوان: رمضان بلا مآذن... عن توقيت الإفطار قبل النكبة، موقع "متراس"، 3 نيسان/ أبريل 2022.
  • مجموعة مقالات نشرت في المواقع الإلكترونية التالية: وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينيّة "وفا"، المركز الفلسطيني للإعلام، فلسطين أونلاين، فلسطيننا، عربي 21، والعين الإخباريّة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.