}

"طال الشتات": استعادة مغامرة الشعر في تراجيديا فلسطين وأهلها

راسم المدهون 28 مارس 2024

في قراءة تجربة الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي تلمع مجموعته الشعرية الأهم، والتي أراها ساطعة الحضور ومفتوحة على قراءات واكتشافات دائمة التجدد وأعني "طال الشتات" التي صدرت عام 1987 وكانت انعطافة كبرى في مسيرته الشعرية بعد ذلك.

قبل "طال الشتات" توقفت أمام مجموعته "قصائد الرصيف" (صدرت عام 1980 في بيروت) وفيها تجواله الرهيف في الحياة اليومية والتفاتات حدقته للجزئيات والتفاصيل العابرة، ما شكل في تقديري حالة شعرية مختلفة بين أقرانه ومجايليه من الشعراء الفلسطينيين. البرغوثي ينتمي (زمنيًا) إلى جيل الستينيات، أي جيل التجربة الكفاحية الفلسطينية بانشغالاتها الوطنية الكبرى، لكنه (كما هي حال زميله الراحل محمد القيسي) نجح في ذروة التزامه بفلسطين وقضيتها في الإصغاء إلى هتاف الشعر ومرئياته اليومية وفي استحضار الذات وانفعالاتها ورؤاها في سياق ذلك الكفاح.

في "طال الشتات" يفتح الشعر نافذة كبرى على الروح. نرى هذا في العناوين والموضوعات بغزارات التفاتاتها وتنوع عوالمها، مثلما نراه في تنوع "أشكال" الكتابة الشعرية التي تنتقل بسلاسة ويسر بين الصيغة الكلاسيكية السبك وبين قصائد التفعيلة كما قصيدة النثر الحرة من أية قيود أو اشتراطات شكلية، ونلاحظ أن بعض ذلك يقع في سياق القصيدة الواحدة وكأنه يترك للمشاهد التي تبدعها مخيلته وموهبته أن تعبر عن حضورها كما تشاء، بطلاقة المشي دون عثرات هنا أو هناك. وفي "طال الشتات" تقترب القصائد في روحها ووقعها من "النشيد الخافت" مرّة وصرخة الغضب مرّة أخرى، فيما الشعر ذاته يلامس الدراما ويترك لها أن ترخي ظلالها على نصوص تحتفل بالحياة في المقام الأول:

"تريد لشهقة رائحة الثوم في الظهر

أن تجمع الغائبين

ويدهشها أن بامية الأم

أضعف من سطوة الحاكمين

وأن فطائرها في المساء تجف

على شرشف لا تنطنط فيه الأيادي"...

علاقة القصائد بالحياة تأتي من ولع بتفاصيلها الصغيرة التي ترى المفردات اليومية وجزئيات العيش في تواشجها البسيط والعميق في آن مع فتنة المشاهد الملتصقة بأرواح البشر وأحلامهم الكبرى والعابرة معًا. هي قصائد لا تبتغي "التسجيل" بل إنها تفارقه في صورة حيوية وتنتحي جانبا بقارئها لتهمس له عن اشتعالات ما هو "عابر" وعن أثره العميق الذي تتركه إدهاشات الشعر لكل ما حولنا وبالذات لما يحيط بنا من وقائع قليلة الأهمية من جدارة وقوة حضور تقول لنا أن تلك الجزئيات هي بالذات الحياة التي نحياها وقد لا نتحدث عنها في صورة مباشرة كثيرًا، فكثيرًا ما ارتحل الشعر عنها واختار المباشر الصاخب وصاحب العناوين الكبرى فقارب المناسبة مرة والتصق بها مرات كثيرة:

"وهل تسع الأرض قسوة أن

تصنع الأم فنجان قهوتها، مفردًا، في الصباح

وتسأل

هل يسع الدهر يومًا خصومتها للشتات؟".




لغة مريد البرغوثي تمتحن الشعرية في استلهام البسيط، المباشر، ولكن المكتنز والذي يضمر مشاهده الحيّة وينفتح على ولع أثير بالحياة في تجلياتها العادية، الفطرية، والمنسوجة من خيوط الآلام "الصغيرة"، فالقصائد السابقة تقارب لقطات موشاة بضوء ساخن ينير عتمة العادي والمألوف ويرفعهما إلى مقام التعبير الحي عن درامية تمنح الشعر قدرة التماسك في صياغة المشهد الذي يأتي ليستدرج ما يبدو عابرًا ويضعه في حدقة الشتات والغربة وتباعد المسافات بين الحبيب والحبيب وبين الحبيب والتراب، ويجعل المشهد الكثيف في بلاغته يقارب حزن الشاعر والمتلقي معا.

نرى هذا في "قصائد اللقطة" مثلما نراه في قصائد أخرى متعددة اللقطات التي تشكل كل واحدة منها قصيدة مستقلة بذاتها، أو بالأدق مشهدًا مستقلًا بذاته ولكنه في الوقت ذاته كينونة شعرية مكتملة الأبعاد ومفتوحة على التأويل أيضًا. هي لعبة فنية تراوغ المباشر في مشهده الخارجي، وتمنحه بعده الآخر، المضمر وشبه المضمر، والمفتوح على رؤى حيوية تأخذ صورتها وأبعادها من حدقة الشعر وحدقة الحياة معًا، وأعتقد أن مريد البرغوثي بهذه "اللقطات" و"المشاهد" الشعرية يصغي جيدًا لهتافات الروح ويستنطقها بعضًا من الألم العميق الذي يحمله الفلسطينيون في وطنهم وفي شتاتهم والذي يبدو في الشتات ألمًا مهاجرًا يحلم في قرارته أن يتألم هناك، قرب قهوة الأم وعتبات بيتها:

"وفي آخر الليل

يرتطم الجسم بالتعب المستطيل

تقولين لي

طاب يومك يا صاحبي

وأتمتم مرتبكًا

تصبحين على ألف خير

ونطفئ مصباحنا في امتثال لأمر النعاس الذي نشتهي

ثم

يرفعنا الموج من يومنا كله

فيبعثر عنا ملابسنا في جميع الزوايا

ويرمي بأجسادنا في هياج العناق"...

هكذا تتوحد دراما الشعر مع دراما الحياة على نحو بليغ يتقن سرد هياج الروح والجسد واكتمال الصعود إلى ذروة حميمية تراهن على الحياة كما تراهن على الشعر، في مقطع – مشهد يمنح الرغبة الإنسانية ألق حضورها وصخبها الذي ترسمه القصيدة هكذا ببساطته العميقة واسترساله الصاخب يقارب "البدائية" أو هو ينحو نحو بعض تفاصيلها ولكنه يعلو بها ومعها إلى مقام الشعر.

مريد البرغوثي يفارق أبناء جيله جيل الستينيات في الشعر الفلسطيني باعتنائه الكبير برؤية معادلة المقاومة كفعل إنساني– اجتماعي، وبين الرغبة في التعبير عن الروح الفردية التي لا يراها بعيدة عن الشأن الفلسطيني العام الذي تخلقه التراجيديا الفلسطينية غير المسبوقة في التاريخ الحديث بالذات. هو ابن التجربة الإنسانية، الفردية، والنابعة من الروح والملتصقة بها، ولعله في هذه المسألة بالذات نجح في القبض على "الحالة الفلسطينية" في وجوهها اليومية وما تخلقه من عذابات لأصحابها:

"أضع اليد اليمنى على الخد اليمين

وأود لو أني أرنُ الصوت في الساحات

لكني أعيد يدي إلى ورق القصيدة

صامتًا

وكأنني الراعي وقد ضاقت عليه الميجانا"...

هو حزن يسكن الروح ويستبد بالمشاعر وبالشعر معا لكنه يأخذ بعد ذلك "دور البطولة" في قصائد الشاعر التي تستعيد صور العالم كما تراه الروح وتكتبها بخيوط الألم واللوعة:

"نحن من لم نمت بعد

كم مرة سنسمي الخراب خرابًا

ونجعله واضحًا كالخراب؟

وكم مرة سنموت لنحيا

نفورين من كرم الصفح والمغفرة؟

ونحفظ ما شاهدته العيون

وما كابدته القلوب

وما زلزل الذاكرة

بماذا فكر الشيخ الذي ذبحوه قبل الذبح"...

في مكان آخر، أو لنقل في أمكنة أخرى، يختار مريد أن يذهب نحو عامود الشعر، فنراه يضع اللوعة في حيرة النشيد، أو أنه يضع النشيد في حيرة اللوعة: في تلك المقاطع الكلاسيكية تحتفل القصائد بلغة بهية، ناصعة، ومشغولة بما في الفخامة من سبك وبهاء ناصع يتكئ على جماليات اللغة في ارتفاع مقامها، وفي توظيف الوجع الإنساني في سياق "خطاب" عالي النبرة ولكن له ارتداداته، وصخبه الجميل، المتحلل من منبرية اللغة الكلاسيكية وإيقاعها الذي يختار الشاعر حميمية النداء بديلا عنه. وأعتقد أن "كلاسيكيات" مريد البرغوثي في "طال الشتات" هي أكثر ما في المجموعة تعبيرًا عن جمالياته اللغوية التي تختار من مفردات اللغة العربية أبسطها وأغناها تعبيرا، وهي مقاطع تنتمي في اختيارها واختيار شكلها الكلاسيكي إلى رغبة الشاعر في تحميل موشوراته الشعرية الأخرى إطارها ومنبرها الجمالي ليشكلا معًا قوام التجربة وتفاصيلها وتنوعها. يبدو هذا جليًا في قصيدة "طال الشتات" التي تحمل المجموعة اسمها:

"طال الشتات وعافت خطونا المدن   وأنت تمعن بعدًا أيها الوطن

كأن عشقك ركض نحو تهلكة   ونحن نركض لا نبطي ولا نهن

يقول من لم يجرب ما نكابده   كأن أجملهم بالموت قد فتنوا"...

مجموعة "طال الشتات" الشعرية تنتظم عقد تجربة مريد البرغوثي. هي ذروة فنية تطل على ما قبلها وتشير إلى ما بعدها... كيف لا وقد كانت قبلها "قصائد الرصيف" بانتباهاتها لما في اليومي العابر من مغارات وكهوف كان على الشعر أن يستقصيها، وأن يعود منها ببرق الشعر ومطره وصوره وفوضاه وغنائه وصمته، حيث التجربة حرثٌ في تربة الموهبة، وحيث الموهبة أرض خصبة للتجريب النابه والحرفية الواعية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.