}

حذارِ شهود العيان: محمد العلي واستقصاء مأساة تل الزعتر

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 10 يناير 2024
استعادات حذارِ شهود العيان: محمد العلي واستقصاء مأساة تل الزعتر
جرافة تحمل جثث الضحايا (تل الزعتر، 13/8/1976 Getty)

"الحقيقة هي الضحية الأولى في أي حرب"؛ هذا ما كان يردده الشاعر الإنكليزي المولود في الهند روديارد كيبلينغ. وكيبلينغ هذا هو نفسه صاحب عبارة "الشرق شرقٌ والغرب غربٌ ولن يلتقيا أبدًا". وقليلون يعرفون أن كيبلينغ هو مؤلف "كتاب الأدغال" المشهور جدًا The Jungle Book (1894). وإذا كانت عبارة "الشرق شرق والغرب غرب" تنتمي إلى عصور الاستعمار القديم، والتي ما عادت صحيحة اليوم، فإن عبارته القائلة إن "الحقيقة هي الضحية الأولى في أي حرب" ما برحت صحيحة حتى الآن وفي كل آن وفي كل حرب. وفي خضم الحرب الهمجية الإسرائيلية التي شُنّت على غزة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 عاد اسم "تل الزعتر"، وهو حي من أحياء مخيم جباليا، ليحيي ذكرى مخيم تل الزعتر الأصلي في لبنان، والذي دُمّر بأكمله في سنة 1976. وتاريخ فلسطين المعاصر لا ينضب من المجازر ووقائعها المروّعة، لكن إهالة الركام على الحقيقة صارت من المحال، وما عاد ممكنًا البتة طمس الحقائق خصوصًا إذا توفر باحث مجتهد على إزالة الأستار وكشف ما تخفيه من أسرار. وفي هذا السياق تصدى الدكتور محمد العلي لهذه الغاية فأصدر كتابًا مهمًا عن مخيم تل الزعتر أعاد الاعتبار فيه إلى تاريخ ذلك المخيم وإلى سكانه الذين دفعوا ضريبة دم هائلة قبل ثمانية وأربعين عامًا، مثلما يدفع حي تل الزعتر في قطاع غزة ضرائب دم جارية منذ شهور.

كانت مأساة مخيم تل الزعتر التي حلّت على سكانه في 12/8/1976 أحد الفصول التراجيدية في مسار الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في 13/4/1975، وكذلك في تاريخ المنافي الفلسطينية. وقد كُتب عن تل الزعتر فيض من الكتب والقصائد والأغاني، فضلًا عن اللوحات والرسوم والملصقات. غير أن معظم ما كُتب اقتصر على الوصف، أي تقرير ما حدث للمخيم منذ بداية حصاره حتى سقوطه المدوي، علاوة على عدد الضحايا التي لم يُتفق عليه، تمامًا مثل عدد ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا في سنة 1982. والكتاب الجديد للدكتور محمد العلي عنوانه مخيم تل الزعتر: وقائع المجزرة المنسية (بيروت- الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022، 463 صفحة). وهذا الكتاب يختلف إلى حد بعيد عن معظم الكتب التي سبقته في الصدور، فقد سعى المؤلف إلى الإحاطة بالمأساة التي مرّ على وقائعها ثمانية وأربعين عامًا حتى اليوم، وأراد أن يكون كتابه شاملًا بقدر المستطاع، فاستعان لهذه الغاية بروايات سردها شهود عيان مختارون، وحكايات رواها بعض الذين عاشوا تلك التجربة المؤلمة. وبهذا المعنى فإن الكتاب هو بحث في التاريخ الاستقصائي يهدف إلى استكشاف بعض الزوايا الظليلة في ذلك الحدث الدامي الذي ترك ندوبًا غائرة في حياة الفلسطينيين في لبنان. ولا ريب عندي في أن هذا الكتاب سيكون مرجعًا لكل باحث يريد أن يؤرخ تلك الحقبة السوداء من تاريخ الحياة السياسية في لبنان وفلسطين معًا. ويتناول الكتاب محطات من التاريخ السياسي للبنان الحديث، وأوضاع الفلسطينيين الذين لجأوا إليه في سنة 1948، والمشكلات التي واجهتهم، خصوصًا بعد حرب 1967. ويعرج الكاتب على انتفاضة أهالي المخيمات ضد عسف الاستخبارات العسكرية في سنة 1969، وكذلك اتفاق القاهرة الذي وُقّع في ذلك العام برعاية الرئيس جمال عبد الناصر (ص 49-50)، ثم المواقف الطائفية التي رافقت التحولات الاجتماعية والسياسية التي عصفت بلبنان في تلك الحقبة. ويدرس الكاتب مكانة مخيم تل الزعتر في سياق إعادة صوغ الهوية الفلسطينية واندماج هوية الشتات بثقافة التحرر الوطني، الأمر الذي أدى إلى الالتحاق المكثف للشبان الفلسطينيين بالمنظمات التي رفعت شعار الكفاح المسلح (ص59-74). ثم يعرض الكتاب لحصار تل الزعتر والدخول العسكري السوري إلى لبنان لوقف الحرب الأهلية بالتفاهم مع حكومة الولايات المتحدة الأميركية ما أدى، بحسب الكاتب، إلى هزيمة مشروع كمال جنبلاط، زعيم الحركة الوطنية اللبنانية اليسارية (ص 382). وقد استغل اليمين اللبناني اللحظة السياسية التي تنافر فيها كمال جنبلاط وياسر عرفات مع الموقف السوري ليشن معركة تل الزعتر التي انتهت إلى مجزرة مروّعة. ويتضمن الكتاب وقائع ما جرى لمخيم تل الزعتر آنذاك، وشهادات بعض الذين عاشوا تجربة القتال والحصار. ولا يغفل الكتاب عما حلّ بمن بقي من سكان المخيم، وأين صاروا، والمفقودين أيضًا.
 


إحذروا شهود العيان

التاريخ كعلم، على الرغم من اختلاف مدارسه ومناهجه، يُبنى، بالدرجة الأولى، على الاستقصاء والتحقق والمقارنات لا على الروايات الظنية. ويفرّق علم التاريخ المؤرخَ عن كاتب التواريخ؛ فكاتب التواريخ هو الذي يكتب الروايات التي يعثر عليها في بطون الكتب، أو يلتقطها من أفواه الناس بعد وقوع الحوادث بعشرات أو مئات السنين. أما المؤرخ الحصيف فهو الذي يحلل الوقائع، ويربط النتائج بالأسباب، ويقف على العلل والدوافع، ويحيط بالواقعة التاريخية بشمول وإدراك ودراية، ويلفظ الروايات الكاذبة ورُواتها. والتاريخ الاستقصائي يعتمد، أولًا وأخيرًا، على الوقائع الثابتة ثم على الوثائق الصحيحة. وعلى سبيل المثال هناك عبارة متواترة ومشهورة جدًا جدًا لغاليليو حين خرج من المحاكمة بعد أن تراجع عن أفكاره في شأن دوران الأرض حول الشمس، وهي قوله: "ومع ذلك فإنها تدور". فلو أن غاليليو نطق بتلك العبارة على الملأ لأُعيد إلى قاعة المحكمة البابوية لمحاكمته مجددًا. ولو أنه همس بها لنفسه أو لأحد أصدقائه، فما هو برهان صحتها؟ لا شيء. أي أن تلك الرواية، على شيوعها ومغزاها، لا قيمة علمية لها.

لنحاذر شهود العيان، فالعين لا تُفسر الوقائع تفسيرًا يمكن الركون إليه دائمًا لأنها إحدى الحواس الخمس. والحواس مخادعة جدًا. فجميعنا يقول: "أشرقت الشمس" إذا ظهرت من الشرق، و"غربت الشمس" حين تغرب في المساء؛ هكذا ترى العينُ الشمسَ. لكن الحقيقة هي أن الشمس لا تشرق ولا تغرب، فالأرض هي التي تدور حول محورها في دورتها الصغرى. وقد اشتُهرت في عالم الصحافة حادثة ذات دلالة عميقة حين نشرت جريدة "نيويورك تايمز" في أحد أعدادها في سنة 1964 مقالة كان لها صدى هائل في الولايات المتحدة الأميركية آنذاك بعنوان "37 شخصًا شاهدوا الجريمة ولم يتصلوا بالشرطة". وفي التفصيلات أن امرأة في حي كوينز في نيويورك راحت تصرخ في منتصف الليل طالبة النجدة لأن ثمة مَن يتربص بها ويحاول قتلها. وصحا الناس على صراخ تلك المرأة، وأضاءوا أنوار شققهم، وشاهدوا القاتل وهو يطعن المرأة ثلاث مرات فيما كانت تستنجد بالجيران، فلم ينجدوها حتى خرّت صريعة، ولم يتصل أحد بالشرطة إلا بعد نصف ساعة. وهزت المقالة مشاعر المواطنين، وراح المواطنون يتحدثون عن انحلال أخلاق الناس وعن تبلد مشاعرهم أمام جريمة من ذلك العيار. وتبين لاحقًا، من خلال التحقيق الجنائي، لا من خلال الشهود، أن السبعة والثلاثين شخصًا الذين ذكرت "نيويورك تايمز" أنهم شاهدوا الجريمة ولم يتخذوا أي إجراء لمنعها، لم يشاهد أيُّ واحد منهم الجريمة، والسبعة والثلاثين شخصًا هم مَن حققت الشرطة معهم، وهم سكان المبنى. واتضح، من خلال الاعترافات، أن بعض مَن سمع صوت المرأة اعتقد أنه صراخ امرأة مخمورة. وهناك مَن لم يسمع ولم يشاهد شيئًا لأنه كان يغط عميقًا في نومه، وأنه روى ما روى اعتمادًا على ما سمع من الجيران. وتبين أن المرأة قُتلت بطعنتين لا بثلاث طعنات. ومع ذلك رفضت "نيويورك تايمز" تصحيح ما جاء في المقالة بحجة أن الشهود العيان هم الذين كذبوا وليس الجريدة، ولأن من شأن نقض المقالة والوقائع الواردة فيها انهيار الرواية التي أيقظت الحس الأخلاقي للسكان، وهو أمر حسن في نهاية المطاف.

استنادًا إلى القواعد المنهجية المذكورة أعلاه ما كان يجوز في هذا الكتاب منح شهادة بلال حسن (اسمه الكامل: بلال حسن دياب شحرور) تلك المساحة من الرواية لأنه غير موثوق في تفصيلات روايته البتة، فهو يقول على سبيل المثال إن القوات السورية قصفت مخيم تل الزعتر بصواريخ غراد ومدافع الهاون من عيار 120 من مرابضها في بلدة سعدنايل في البقاع الغربي (ص 176، الهامش 148)، وهذه رواية مضحكة ولا يصدقها فتى جاهل لأن المدى المجدي لصاروخ الغراد لا يتعدى العشرين كلم، وهو لا يصيب الأهداف بدقة بل يدمر المساحات التي يكون الهدف فيها. أما مدفع الهاون 120 فمداه، بعد التحسين، 12 كلم، بينما تبعد بلدة سعدنايل عن بيروت نحو خمسين كيلومترًا. ولو أن القوات السورية قصفت آنذاك تل الزعتر من بلدة سعدنايل لتساقطت الصواريخ في البلدات اللبنانية التي تقع في المدى المجدي أو الفعّال لتلك القذائف. وتحدث بلال حسن عن كتيبة دبابات سورية عند دوار مار روكز في محيط تل الزعتر قبل سقوط المخيم. والحقيقة أن لا أحد برهن أو أكّد صحة هذه الحكاية، حتى إن صاحبها، أي بلال حسن، نفى بنفسه تلك الحكاية في مؤتمر صحافي عُقد في بلدة مكسة البقاعية، ثم زعم في ما بعد أن زهير محسن، قائد منظمة الصاعقة التي ينتمي إليها بلال حسن، هو الذي طلب منه أن يقول ذلك. والمؤكد أن كتيبة الدبابات تلك ما هي إلا مجموعة من دبابات ت 54 و ت 55 قدمتها إسرائيل لحزبي الكتائب والوطنيين الأحرار، وهي من غنائم حرب 1973 (راجع: يزيد صايغ، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002، ص 571). وكان قادة الميليشيات اليمينية "أقروا بأنهم قاتلوا بأسلحة سوفياتية الصنع كانت إسرائيل غنمتها من الجيوش العربية في حروبها السابقة" (ص 196).

أما رواية الموسيقي زياد الرحباني (ص173- الهامش 140) فلا قيمة تاريخية لها لأنها، بكل بساطة، غير صحيحة، إذ زعم أن الضباط السوريين كانوا يجتمعون في منزله الوالدي الكائن في ضاحية الرابية المواجهة لمخيم تل الزعتر ويديرون منه عمليات إسقاط المخيم. وهذه الرواية مثل "المنامات المخربطة"، فمنزل ذوي زياد الرحباني لا يقع في الضاحية المواجهة للمخيم بل في ضاحية انطلياس البعيدة ما لا يقل عن عشرة كيلومترات عن المخيم. ومن المؤكد أن بعض الضباط السوريين كانوا يترددون على منزل عاصي الرحباني وفيروز لمكانة عاصي وفيروز لدى السوريين، أو للتفاخر بتلك الزيارات. ولعلهم كانوا يتحدثون عما يجري في تل الزعتر. أما أن يكونوا قد حوّلوا منزل عاصي وفيروز إلى غرفة عمليات لإسقاط تل الزعتر، فهو أمر من نوع "التحليق" الذي يعقب الخَدَر. وفي أي حال، فإن الشهادات المشكوك فيها أو المبالغ فيها، أو الهذيانية أو الكاذبة، إنما تُضعف القوة البرهانية لأي بحث أو دراسة أو استقصاء.

دمار وشهداء في مخيم تل الزعتر ( 13/8/1976 Getty)


الدور الاسرائيلي

هل نجح الكتاب في كشف الدور الاسرائيلي في مذبحة تل الزعتر وفي عملية اجتياحه؟ إن كشف ذلك الدور الذي أمسى مكشوفًا تمامًا منذ زمن بعيد من شأنه أن ينير كثيرًا من الزوايا المظلمة في أدوار الآخرين أيضًا بما في ذلك الدور السوري. غير أن الكتاب لم يمنح الدور الإسرائيلي غير ستة سطور (ص 382) وبعض الشذرات المنثورة هنا وهناك. والمعروف أن يتسحاق رابين عقد اجتماعًا فوق بارجة حربية إسرائيلية قبالة مدينة جونية في آب/ أغسطس 1976 حضره بيار الجميل وكميل شمعون، وسارعت إسرائيل آنذاك إلى تزويد حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار بدبابات سوبر تشيرمان وناقلات من جند طراز M3 وآليات كانت غنمتها من سورية ومصر في حرب 1973، واستُخدمت تلك الأسلحة بكثافة في تدمير تل الزعتر (أنظر: اللواء مازن عز الدين، قتال العمالقة، رام الله: وزارة الاعلام الفلسطينية، 2014). وكانت الأسلحة تتدفق على الميليشيات اليمينية منذ نيسان/ أبريل 1976 (ص187). ومنذ بداية حصار مخيم تل الزعتر جاء إلى بيروت العقيد بنيامين بن إليعيزر (فؤاد)، ثم راح يتردد على لبنان مرارًا، وكان يترأس مجموعة من أربعة ضباط من الاستخبارات العسكرية (أمان). وهؤلاء تابعوا بالمناظير مراحل الهجوم على تل الزعتر خطوة خطوة. وحين اطمأنوا إلى خطة الهجوم وإلى عناصر نجاحها، عاد بنيامين بن إليعيزر إلى إسرائيل قبل المجزرة بخمسة عشر يومًا (يديعوت أحرونوت، 24/9/1982)، وأكدت صحة هذه المعلومات هيلينا كوبان في مقالة لها في جريدة "الحياة" (9/4/2001). ثم جاء رؤوفين ميرحاف، مساعد دافيد كيمحي من الموساد، لمتابعة تطور المعارك وتقديم السلاح والذخيرة والمشورة القتالية، والتحق به العقيد شاخان ملّا. وفي أثناء حصار تل الزعتر كان الاسرائيليون ينظمون جسرًا بحريًا لتزويد ميليشيات حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار بالسلاح (أنظر: ألان مينارغ، أسرار حرب لبنان، بيروت: المكتبة الدولية، 2006، ص 71-72).

هل شارك السوريون حقًا في قتال تل الزعتر؟

معظم الذين تحدثوا عن مشاركة القوات السورية في معارك تل الزعتر فعلوا ذلك بدوافع سياسية معارِضة للسياسة السورية في لبنان آنذاك. واستند أحد أشهر الدلائل على رواية تقول إن المبعوث المصري حسن صبري الخولي التقى العقيد السوري علي المدني في غرفة عمليات حزب الكتائب في منطقة الجديدة (ص 306، الهامش 8). وهذه الرواية كررها، من دون تبصر أو دراية، الطبيب يوسف العراقي. وأساس هذه الرواية هو ما ورد في جريدة "السفير" (13/8/1976)، أي غداة سقوط تل الزعتر مباشرة، وفحواها أن علي المدني جاء إلى مقر حزب الكتائب في سن الفيل ليصطحب معه كريم بقرادوني وميشال سماحة. أين مكمن الغرابة في هذه "الخبرية"؟. فما كان يفعله العقيد على المدني في مقر حزب الكتائب هو ما كان يفعله تمامًا حسن صبري الخولي في المكان نفسه. لنتذكر اللجنة الأمنية المشتركة التي كانت مؤلفة من زهير محسن والعميد سعد صايل (عن منظمة التحرير الفلسطينية) والعقيد علي المدني والعقيد محمد الخولي (عن الجيش السوري) والعميد موسى كنعان والعقيد ديب كمال (عن الجيش اللبناني)، وكانت مهمة تلك اللجنة، وعديدها نحو 70 ضابطًا فضلًا عن ضباط الصف والجنود، التنقل بين مواقع الأطراف المتقاتلة لوقف القتال كلما اندلع هنا أو هناك. ووجود علي المدني في أحد مقرات حزب الكتائب كان مسألة طبيعية في أحوال ذلك الزمان.

يقول مريد الدجاني: "إن المعلومات التي وردتنا [عن مشاركة القوات السورية في الهجوم على تل الزعتر] ليست موثقة بأوراق، بل كانت معلومات شخصية من أشخاص في المنطقة الشرقية، من المسيحيين الموارنة غير المؤيدين للميليشيات اليمينية والمتعاونين مع [حركة] فتح" (ص 177). وفي تحقيق صحافي أجراه إبراهيم برهوم عنوانه "قادة تل الزعتر يتحدثون عن تجربة الصمود" عرض كل من سلمان وأدهم ثابت ومحمد شحادة وعبد الله عامر (أدهم) تجربة الحصار والصمود والقتال والخروج. وعلى امتداد ست صفحات لم يتطرق أي واحد منهم إلى المشاركة السورية في الهجوم على المخيم ("فلسطين الثورة"، 22/8/1976). وفي حديث مع أبو نضال، قائد وحدة الاسناد المدفعي في تل الزعتر، لم يتحدث البتة عن وجود سوري بالقرب من المخيم، أو قصف سوري على المخيم ("فلسطين الثورة"، 29/8/1976، ص 15). وفي حوار مستقل مع أدهم ثابت، وهو أحد مؤسسي "صقور التل"، ولم يرد على لسانه أي إشارة إلى الجيش السوري إطلاقًا (منذر عامر، "فلسطين الثورة"، 5/9/1976). وفي حوار مع محمد شحادة، وهو قائد المجموعة الأولى التي دخلت إلى تل الزعتر في أثناء الحصار، لم يتحدث قط عن الدور المزعوم للجيش السوري في معارك المخيم ("فلسطين الثورة"، 5/9/1976). وحتى صلاح خلف (أبو إياد) لم يتهم السوريين بإسقاط تل الزعتر، بل اتهم حزب الكتائب وحلفاءه الذين استغلوا دخول الجيش السوري إلى لبنان لتنفيذ هجومهم على المخيم (راجع كتابه فلسطين بلا هوية، 1978). وفي الميدان نفسه لم يذكر كريم بقرادوني أي شيء عن الدور العسكري السوري في سقوط المخيم (أنظر كتابه السلام المفقود، بيروت: عبر الشرق للمنشورات، 1984). وعلى غراره روبرت فيسك (أنظر كتابه ويلات وطن، بيروت: شركة المطبوعات، 1990)، وإيغور تيموفييف (أنظر كتابه كمال جنبلاط: الرجل والأسطورة، بيروت: دار النهار، 2000)، ويزيد صايغ (راجع: الكفاح المسلح والبحث عن الدولة، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002). وعلى المنوال نفسه لم يتهم ياسر عرفات من قريب أو بعيد الجيش السوري في المشاركة في إسقاط تل الزعتر (راجع سيرته التي أملاها على أمنون كابليوك وصدرت بعنوان عرفات الذي لا يُقهر، رام الله: وزارة الثقافة الفلسطينية، 2005)، وكذلك سمير قصير في كتابه تاريخ بيروت (بيروت: دار النهار، 2006).


بالتأكيد يمكن إلقاء اللوم الشديد على السياسة السورية آنذاك التي تحالفت مع حزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار وحلفائهم اليمينيين، وكان من شأن ذلك إضعاف القدرة القتالية للقوات الفلسطينية وقوات الحركة الوطنية اللبنانية، وهو ما أشار إليه اللواء مازن عز الدين (راجع: مازن عز الدين، قتال العمالقة، رام الله: وزارة الاعلام الفلسطينية، 2014). لكن، ما أضعف القدرة القتالية الفلسطينية حقًا هو رفض نمر صالح (أبو صالح)، نائب القائد العام لقوات العاصفة، نجدة تل الزعتر لأنه ظل يختزن حقدًا على كوادر حركة فتح في المخيم الذين وقفوا ضده في سنة 1972، وناصروا يحيى عاشور (حمدان) في إحدى محطات الخلاف الداخلي. وكذلك رفض موسى العملة (أبو خالد) زج قواته في معركة تل الزعتر بذريعة حاجته إلى تلك القوات في مواجهة الجيش السوري في صنين وعينطورة (أنظر: يزيد صايغ، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة، مصدر سبق ذكره، ص 567). وينقل أنيس النقاش عن خليل الوزير (أبو جهاد) قوله: الكلب [أي أبو خالد العملة] كان لديه مئتا مدفع من جميع العيارات ولم يكلف خاطره خوض المعركة بل هرب وسلم الجبهة التي سقطت وتضعضعت وأثّرت في محور بحمدون – عاليه (راجع: أنيس النقاش، المذكرات، بيروت: بيسان للطباعة والنشر، 2022).

من المحال أن تكون القوات السورية قد شاركت في معارك تل الزعتر الذي حوصر تمامًا في 1/3/1976 وسقط في 12/8/1976، لأنها لم تكن قد وصلت إلى المنطقة التي يقع تل الزعتر في نطاقها الجغرافي، بل كانت ما زالت بعيدة جدًا، وهي لم تبدأ في التحرك من بلدة رويسات صوفر نحو بلدة بحمدون إلا في 10/10/1976 (راجع: شفيق الغبرا، حياة غير آمنة، بيروت: دار الساقي، 2012، ص 200). وفي 12/10/1976 بدأت معركة بحمدون، الأمر الذي يعني أنها لم تكن قد وصلت آنذاك إلى منطقة المتن التي وصلتها فعلًا، لكن بعد شهرين من سقوط تل الزعتر (راجع ص 345 من هذا الكتاب نقلًا عن يزيد صايغ، المصدر السابق).

المقريزي والزعتر

يقول المؤرخ المقريزي في إحدى التماعاته: "إذا كان للكذب قدمان يهرب بهما منك، فإن للحقيقة أقدام تسعى بها إليك". وفي بلاد الشام مثل شائع يقول: "ما أكذب من شاب تغرّب إلا شايب ماتت أجياله". وأضيف إلى الشاب والشايب الجندي العائد من الحرب؛ فالجندي الرابض في تحصيناته على الجبهة مثلًا لا يرى غير القطاع الواقع أمامه، أي نحو مئتي متر أو أزيد. وضابط الصف ربما يستطيع أن يراقب مدى أوسع قليلًا، أي نحو ثلاثمئة متر لأنه يقود مجموعة. أما الملازم فيرى قطاعًا أعرض لأنه يقود فصيلًا، فيما النقيب يرى أبعد من هذا الشعاع لأنه يقود سرية... وهكذا حتى الرتب الأعلى. وكل واحد من هؤلاء في أثناء المعارك لا يعرف ما يجري في المنطقة المجاورة إلا في حدود ضيقة. أما الذي يعرف ما يجري على طول الجبهة وعرضها وحركات الفيالق وسير المعارك فهو غير الموجود في الميدان بل في غرفة العمليات. لذلك لا يكتب تواريخ الحروب والمعارك مَن كان في الميدان، بل مَن كان قابعًا في الخلف، أي في غرف العمليات المحصّنة. فحذارِ روايات الآحاد وشهود العيان إلا إذا أُخضعت رواياتهم وشهاداتهم للتحقق العلمي وللغربلة وللجرح ثم التعديل. حذارِ كي لا تضيع الحقائق في مأساة تل الزعتر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.