}
عروض

خليل حاوي ومحمود شريح: التسكع في شوارع المدينة

صقر أبو فخر

8 أبريل 2024


شُغِفتُ منذ فتوّتي بقصائد خليل حاوي، وحفظتُ عن ظهر قلب قصيدته المشهورة "الجسر"، مع أنني ما كنتُ أطيق حفظ القصائد. وكان أستاذي الشاعر كميل سعادة أعفاني من دروس الاستظهار لتفوقي في قواعد اللغة والإنشاء وتحليل النصوص، ونصحني بأن أنسخ على ورقة مفردة أيَّ قصيدة تعجبني، وأضعها في جيبي. وكلما رغبتُ في تلاوتها، وحيدًا، أو بين أصدقاء، أسحب الورقة وأقرأ. وبهذه الطريقة المتكررة تمكنت من أن أحفظ غيبًا القصائد المحببة إليّ، ومنها قصيدة "الجسر". أما في مرحلة الشباب فقلما التقيت خليل حاوي إلا مصادفة، ومن بعيد، في شارع بْلِسّ، أو في مكتبة رأس بيروت التي اندثرت بعدما أسسها في سنة 1949 أنطون غطاس كرم، ثم آلت إلى عبد الأحد بركات وشفيق جحا. أما صديقنا محمود شريح الذي ترافقنا في دروب الحياة، ومشينا طويلًا في أشواط ممتدة من العمر، سياسيًا وإنسانيًا، فقد كان نصيبه من خليل حاوي أكبر من نصيبي بكثير، إذ درس عليه في الجامعة الأميركية بين 1979 و1982، وكان يتمشى معه في حدائق الجامعة عشية كل أربعاء بعد فراغه من محاضراته، ويرافقه ليلًا في بعض أزقة محلة رأس بيروت، كشارع المكحول، حيث يقطن الشاعر. وقد دأب "المشّاء" محمود شريح، حتى بعد اثنتين وأربعين سنة على رحيل حاوي، على تكرار هذه "الخصلة" يوميًا تقريبًا، فهو يغادر منزله في التاسعة مساء إلى الجامعة، ويصرف نحو ساعة، أو أكثر، في المشي، ثم يلوذ بمكتبتها إذا كان يحتاج إلى بعض المراجع أو المعلومات، ثم يخرج في الحادية عشرة ليلًا نحو مقهى "تاء مربوطة"، فيستذكر في طريقه منزل خليل حاوي، أو منزل أنطون سعادة، أو هشام شرابي. وفي "تاء مربوطة" يرتاح ويلتقي أصدقاءه قبل أن ينصرف بعد منتصف الليل إلى منزله. ومؤخرًا، أصدر محمود شريح كتابًا صغيرًا وَسَمَه بعنوان "العودة إلى حاوي" (بيروت: دار الفرات، 2024)، وقد زيّنه بصورة لخليل حاوي التقطها له في سنة 1981 في مكتبة رأس بيروت. ويبدو حاوي في الصورة وهو يتصفح مجلة "الكرمل" التي كان يصدرها محمود درويش، ويضع تحت إبطه مجلة "الفكر العربي المعاصِر" التي أصدرها في بيروت المفكر السوري مطاع صفدي. وهذا الكتاب ليس الأول لمحمود شريح عن خليل حاوي، بل الثاني؛ إذ أصدر قبل نحو ثلاثين سنة كتابًا عنوانه "خليل حاوي وأنطون سعادة" (بيروت: دار نلسن، 1995).

الذاكرة والتاريخ
الذاكرة هي "مشكلة" محمود شريح؛ فهو لا ينسى أصدقاءه قطّ، فكيف إذا كان الصديق من عيار خليل حاوي؟ وكان محمود أصدر منذ نحو سنتين كتابًا جعل له العنوان التالي: "عن أهلي وصحبي وأساتذتي في بيروت" (بيروت: شركة المطبوعات للنشر، 2022). وسبقه كتاب "الفردوس المفقود: بيروت كما عرفتها" (بيروت: دار الفرات، 2018)، وهو استعادة لذاكرته عن المدينة، وعن أصدقائه من ساكني المدينة التي تألقت في يوم من الأيام، وزَهَتْ على غيرها من مدائن العرب، ثم ذوت وركدت ورقدت. ولم يتورع محمود شريح عن إهداء صديقه محمد الدجاني كتابًا عنوانه "من الراديكالية إلى الاعتدالية" (بيروت: دار نلسن، 2023). ومحمد الدجاني، نزيل القدس اليوم، كان رئيسًا لمجلس الطلبة في الجامعة الأميركية في بيروت بين 1971 و1973، ومسؤولًا عن التنظيم الطالبي لحركة فتح، وأول مسؤول طالبي فلسطيني يتحدث في الأمم المتحدة في عام 1970 إبان مؤتمر الشباب العالمي.




في كتابه "العودة إلى حاوي"، نقع على جولة أنيقة في عالم خليل حاوي تبدأ بمقدمة عنوانها "أستاذي حاوي"، ومجموعة فصول عن انضمام حاوي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في سنة 1934، وعن تحوله إلى القومية العربية وزعامة جمال عبد الناصر. ثم ينبري الكاتب إلى تحليل بعض قصائد خليل حاوي المنشورة في "الديوان الأخير" الذي صدر بعد رحيل الشاعر (أنظر: خليل حاوي: "الديوان الأخير"، بيروت: دار نلسن، 2022)، وتحليل قصيدة "مناخ" التي ألقاها في مهرجان المربد في العراق في سنة 1978. وقد أسهب المؤلف في قراءته الجديدة لدواوين الشاعر (من ص 25 إلى ص 51)، ثم ألحق بها فصلين: الأول عن خليل حاوي وأنطون سعادة، والثاني دَمَغَهُ بعنوان: "من جبران وسعادة إلى خليل حاوي وألفرد خوري: سلسلة نهضوية قومية". وختم الكتاب بنبذة من نحو 300 كلمة عن "حاوي نهضويًا".

بلقيس الراوي وديزي الأمير وحاوي
أيقظ كتاب محمود شريح "العودة إلى حاوي" بعض ذكرياتنا القديمة، وها أنا أسجلها هنا في محاولة لمماشاة محمود في تذكر المدينة وعوالمها. فحين كنا طلابًا في الجامعة اعتدنا أن نعرّج على المركز الثقافي العراقي في أحد متفرعات شارع الحمراء في بيروت، لننتقي بعض الكتب الآتية من بغداد. وفي المركز كانت ديزي الأمير تستقبلنا بوجه شمعي، فيما كانت بلقيس الراوي تستقبلنا بجمالها العراقي وببشاشة وأريحية، ولا تتردد في إبداء النصح لنا لتسهيل اختيارنا هذا الكتاب، أو ذاك.
بلقيس الراوي، زوجة الدمشقي نزار قباني، قتلها "المجاهدون المؤمنون" العراقيون من ماركة "الدعويين" الذي صاروا، بقوة الإرهاب، قادة للعراق الطائفي. وديزي الأمير رحلت في هيوستن بعيدة عن "البلد البعيد الذي تحب". وكنتُ نفرتُ من ديزي الأمير، لا لأي سبب، بل لأن خليل حاوي نفر منها بعدما حطم بيده ذلك الحب الذي نشأ بينهما، ولم تتورع هي أيضًا عن حملها معولًا لتحطيم تجربتها الغرامية.





عاش خليل حاوي أيام حياته كمن يطحن الصوّان بأضراسه. ولا عجب في ذلك، فهو امتهن "تقصيب" الحجر الغشيم ليصنع من حجارته منازل للناس. والمعروف أنه من مواليد قرية "الهويّا" في جبل الدروز في جنوب سورية (عائلته من بلدة الشوير في قلب جبل لبنان التي امتهنت بناء البيوت، وكانت تتنقل بين قرى جبل الدروز والجولان لهذه الغاية). هناك في قرية "الهويّا"، بين الصخور السود والصقيع ولد خليل حاوي، فكانت حياته قاسية كصخر البازلت، وقارسة كصقيع الجرود الجرداء. ومع أن عواطفه ظلت مشبوبة وفائرة خلافًا للبراكين الخامدة في تلك البلاد، إلا أنه ما كان ليتردد في إطفائها كلما اشتعلت (أنظر: صقر أبو فخر، خليل حاوي الصياد الذي اصطاد نفسه، ضفة ثالثة، 26/7/2020).

تراجيديا البدايات والنهايات

مدخل الجامعة الأميركية في بيروت حيث تتلمذ الكاتب محمود شريح على يدي الشاعر خليل حاوي


تحوّل حاوي إلى القومية العربية بالتدريج جرّاء نكبة فلسطين. ولم يتردد في الانسحاب من الحزب السوري القومي الاجتماعي غداة تورط رئيس الحزب جورج عبد المسيح في اغتيال عدنان المالكي في دمشق في سنة 1955. ثم جاءت حرب السويس (العدوان الثلاثي على مصر) في سنة 1956، والصعود المدوّي لجمال عبد الناصر، ولا سيما بعد إعلان الوحدة السورية ـ المصرية في عام 1958، ليُطلق ذلك كله في نفسه يقظة جديدة، عربية هذه المرة، مع أنه ظل في جذوره وفي فكره سوريًا قوميًا (ص 10 و11). ومنذ سنة 1958 راح يختلف إلى دمشق، ويُلقي قصائده في النادي العربي، ويتكوكب حوله عدد من المثقفين البارزين في دمشق آنذاك أمثال زكي الأرسوزي، ومطاع صفدي، والشاعر خليل الخوري. ولم يلبث خليل حاوي أن صُدم بانفكاك الوحدة في سنة 1961، وكان يبكي جراء الانفصال بكاءً مرًّا. وفي خضم ذلك الهول الوجودي كتب قصيدته المشهورة "لعازر" في سنة 1962، وكان جمال عبد الناصر لديه هو لعازر العربي. غير أن الانتقال من الفكرة القومية السورية إلى الفكرة القومية العربية أدى به إلى رضّة جديدة، وبالتحديد بعد هزيمة 1967 التي لوّعته وأصابته بالقنوط، وحطمت آخر أمل لديه بقيامة العرب كما قام لعازر من بين الأموات على يدي المسيح (راجع: صقر أبو فخر، خليل حاوي الصياد الذي اصطاد نفسه، مرجع سبق ذكره).
بين هزيمة 1967، والاجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 1982، عاش خليل حاوي حياة غاضبة ومتوترة، وغمرت نفسَه آلامٌ شتى، وحاول أن يخرج من حرائقه بالانتحار، وكان يفشل دائمًا في محاولاته، إلى أن تمكنت بندقيته من طراز سانتتيان في 6/ 6/ 1982 من نجدته في الخروج من تلك الحياة المضنية. وها هو محمود شريح يعود لكي يتذكر أستاذه خليل حاوي، ولكي يستعيد مسيرته الحياتية والشعرية، ويعيده إلينا نضرًا كما لو أنه لم يغادرنا منذ 42 عامًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.