}

بورخيس والأعمال الشعرية الكاملة: الحداثة جدّدت الآداب

علاء رشيدي 7 أغسطس 2023
استعادات بورخيس والأعمال الشعرية الكاملة: الحداثة جدّدت الآداب
خورخي لويس بورخيس (Getty)

تكتسب أهمية ترجمة الأعمال الشعرية الكاملة للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس من إصدارها في طبعة واحدة تشمل الدواوين الشعرية كلها للشاعر، وكذلك التعلقيات والتدوينات والمقدمات التي كتبها لهذه الدواوين كلًا على حدة، ولمجموع إصدارها، حيث أضاف بورخيس في الستينيات بعض النصوص التقديمية التي عرف فيها عن أسلوبه، موضوعاته، آرائه الشعرية والفنية والجمالية، لتضاف إلى الطبعات المصدرة من أعماله الشعرية، هذه النصوص أضيفت إلى الطبعة الحالية من الأعمال الشعرية. كما تم اختيار مقدمة بقلم مختص/ة في المجال الشعري والأدبي لتقدم كل جزء من الأجزاء الثلاثة التي تشكل المجلدات الشعرية الكاملة، فكانت الدراسات الإضافية التالية: الجزء الأول (1923 ـ 1960): (بورخيس وإدامة الغامض، خالد بلقاسم)، الجزء الثاني (1964 ـ 1972): (متاهة لا مخرج منها، وهي فقرة مترجمة من كتاب شغف اللغة مقاربات لشعر خورخي لويس بورخيس، ماوريسيو بينيا دافيدسون)، الجزء الثالث (1975 ـ 1985): (بورخيس المتصوف: الإشراق، ماريكا كوداما).



المزاوجة بين الشعر والنثر في الكتابة النصية
في مقدمة الجزء الأول بعنوان (بورخيس وإدامة الغامض) يتوقف الناقد خالد بلقاسم عند العلاقة بين الشعر والنثر في منتج بورخيس الإبداعي التي يراها بلقاسم قد حققت وحدة مضمرة في المزاوجة بين الشعر والنثر، فبين مجموعة بورخيس الشعرية الأولى (حماس بوينس أيريس، 1923)، ومجموعته الشعرية الأخيرة (المتآمرون، 1985) مسار شعري متشابك مع مسار سردي. تشابك تغذى دومًا من روافد فكرية كانت سارية في موجهات المسارين اللذين ظلت العلاقة بينهما منطوية على أسئلتها. لم يفرط بورخيس في الخيوط الناسجة لهذه الوشائج الواصلة ضمنيًا بين الحكي القصصي والشعر، بوصفهما الشكلين اللذين مارس بورخيس، على امتداد حياته، الكتابة اعتمادًا عليهما. وفي عام 1978، أدلى بورخيس بتصريح صحافي جاء فيه: "شخصيًا أؤمن بأنني شاعر. أحس بأنني قريب جدًا مما أكتبه في علاقة شبه فورية، فيما القصصي شيءٌ معد سلفًا مع سبق الإصرار. إنها تتطلب اشتغالًا طويلًا، وبمجرد كتابتها أراها بعيدة جدًا، لكن الجميع يميلون إلى النظر إليّ بوصفي كاتب نثر". وهذا ما يدفع الباحث بلقاسم للاستنتاج: "الافتتان بالأدب إذن هو المرجح، في البدء، لاستيعاب المزاوجة بين الشعر والنثر قبل أي تأمل لتفرعات هذه المزاوجة ولما يترتب عليها من أسئلة تمس ممارسة بورخيس النصية. اعتبارًا لما تقدم، يبدو استحضار كتابة بورخيس من موقع الوحدة الصامتة فيها بين الشعر والحكي القصصي، ومن موقع وحدة الأدب بالفكر، أساس تأويل حيوي لا يستبعد تآويل أخرى".

التخييل... مضاعفة الذات... ونظرية وحدة الوجود
يتوقف الناقد بلقاسم أيضًا في دراسته عند مجموعة من العناصر الموضوعية والأسلوبية التي تشكل مميزات للتجربة الشعرية لبورخيس، ومنها عنصري الخيال والحلم: "الكتابة الأدبية عند بورخيس تقتات الخيال، الذي ظل هذا الأديب وفيًا له منذ أن صار الحلم عادته على حد تعبيره، وتنتج فكرًا قادمًا من مناطق قد لا يبلغها الخطاب الفكري ذاته. بالأدب صار الحلم عادة بورخيس. حلم تشكل في الشعر كما تشكل في النثر، بل إنه تماهى بالحياة نفسها، التي عدها بورخيس حلمًا أيضًا. وقد كان الحلم في الشكلين الكتابيين امتدادًا لعمل المخيلة التي عليها تقوم الكتابة. لذلك كانت صلة الشعر بالتخيل أحد موجهات تصور بورخيس لمعنى الكتابة بوجه عام، ولفهم الشعر بوجه خاص".
ويذكر بلقاسم أن مضاعفة الذات من أبرز التقنيات أو التيمات التي تميز الأعمال الشعرية لبورخيس، مضاعفة الذات كتب عنها نثرًا وشعرًا، نصه الشهير (أنا وبورخيس)، كما كتب عنها شعرًا تبدى في أكثر من قصيدة، بل لقد سمي، استنادًا إلى أحد أمكنة هذه المضاعفة، إحدى مجاميعه الشعرية، التي عنونها (الآخر هو ذاته). ذك أن المضاعفة، بمختلف تجلياتها، لا تتقيد بأحد الشكلين الكتابيين عنده، بل هي حقيقة الحياة التي عاشها وحقيقة الكتابة التي إليها انتسب، وحقيقة الذات التي عثرت في التجربة على الآخر فيها، وتوغلت إلى أن لامست أن لآخر الذات صيغة الجمع لا صيغة المفرد. وكذلك هناك موضوعة رؤية الكون بتعقد قوانينه في كائن متناهي الصغر يكشف طاقة التكثيف التي تمتلكها العين التي رأى بها بورخيس ما رآه، وبها ظل يرى، استنادًا إلى نظام خيالي متشعب.

لربما تكون كل نملة
ندعسها متفردة أمام الرب الذي يعيّنها
لأجل تنفيذ القوانين
الدقيقة التي تحكم عالمه الغريب.
لو لم يكن الأمر كذلك، سوف يكون الكون بكامله
خطأ وفوضى مرهقة.
                 من قصيدة (الكم).

القصيدة بين الفعل الجمالي والأثر الفيزيقي
يفتتح بورخيس نصوصه في الجزء الأول بنص يحمل عنوان (استهلال جمالية بيركلي) ستتركز فيه عدد من العناصر الأدبية والجمالية التي سيخصص لها بورخيس مقدمة مستقلة لكل منها في الدواوين التالية، ومن موضوعاتها دور القارئ، الرؤية الجمالية، والقصائد التي يرغب بورخيس أن يذكر في تاريخ الأدب من خلالها: "إن الشعر يوجد في تجارة القصيدة مع القارئ، وليس في سلسلة الرموز التي تدون على صفحات الكتاب. الأساسي هو الفعل الجمالي، الإثارة، التعديل الفيزيقي الذي تحدثه كل قراءة. يفرض الأدب سحره عبر مهارات، ينتهي القارئ بالتعرف عليها وازدرائها، ومن هنا تأتي الحاجة المستمرة إلى الحد الأدنى، أو الأقصى من التنويعات، والتي يمكنها أن تستعيد الماضي، أو أن تتمثل قبليًا الآتي. أنا أريد أن تخلدني (قصيدة حدسية)، و(قصيدة الهبات)، وEverness، أي الأبدية، و(الغوليم)، و(حدود)".




يشرح بورخيس في المقدمة التي يخصصها لديوانه الأول "حماس بوينس أيريس" (1923) التعديلات التي أدخلها على ديوانه الأول بعد أن كون تجربته الشعرية، لقد خفف من تجاوزاته المفرطة في الباروكية، وشذب بعض التعابير الخشنة، وشطب بعض الإفراط في التظاهر بالرقة والغموض، وخلال التعاقب الزمني لهذه المهمة السارة أحيانًا والمزعجة أحيانًا أخرى، أحس أن ذلك الفتى الذي كتبه في عام 1923 قد صار في الأساس السيد الذي يستسلم، أو يصحح الآن، يكتب بورخيس: "نحن متماثلان، نحن الاثنان نكفر بالفشل والنجاح، وبالمدارس الأدبية وعقائدها، كلانا تابع وفي لشوبنهاور وستيفنسون وويتمان". وتظهر في مقدمة هذا الديوان أولى بوادر اللعب بين المؤلف والقارئ التي ستصبح لاحقًا واحدة من تيمات بورخيس المفضلة أدبيًا وتنظيريًا، فيكتب: "إلى من سيقرأ: إذا كانت صفحات هذا الكتاب تسمح ببيت شعري سعيد، فليغفر لي القارئ مسبقًا وقاحتي في انتحاله. فأشياء العدم لدينا لا تختلف إلا قليلًا، إنه لأمر مبتذل وعرضي أن تكون أنت قارئ هذه التمرينات، وأن أكون أنا محررها".

اقتباسات من التراث الأدبي العربي والإسلامي
أما في مقدمة ديوانه الثاني "القمر المقابل" (1925) فيعترف بورخيس بأنه وفي أثناء فترة كتابته، فرض على نفسه أن يكون حداثيًا، وأن يكون حداثيًا يعني بالنسبة له أن يكون معاصرًا، وأن يكون راهنًا. وفي رأيه أن الكل بشكل قدري كذلك، لأنه لا يوجد عمل لا ينتمي إلى زمنه. وكذلك يبين أنه لجأ عند كتابة هذا الديوان إلى القاموس ليمده بالمفردات التي يرغب من خلالها أن يظهر انتماء منتجه الشعري إلى الثقافة الأرجنتينية: "متناسيًا أنني كنت بالفعل كذلك، رغبت أن أكون أرجنتينيًا، دخلت في عملية مجازفة باقتناء قاموس، أو قاموسين، للألفاظ والعبارات الأرجنتينية، التي أمدتني بكلمات لا يمكنني فك شيفرتها إلى الآن". ويكتب بورخيس للمرة الأولى عن موضوعة ستغلف بشكل أساسي نظريته الأدبية والجمالية، وهي العلاقة بين الشعر والفكر، بين الشعر الغنائي والشعر الذهني، وذلك في مقدمة ديوانه "دفتر سان مارتن" (1929): "لقد تحدثت كثيرًا عن الشعر باعتباره هبة مفاجئة للروح، وعن الفكر باعتباره نشاطًا للذهن. لقد رأيت في فيرلين مثال الشعر الغنائي الخالص، وفي إيمرسون الشاعر المثقف. أعتقد الآن أن لدى كل الشعراء الذين يستحقون أن تُعاد قراءتهم يتعايش كلا العنصرين".
تبدأ الاقتباسات من التراث الأدبي العربي والإسلامي وتحضر في أعمال بورخيس الشعرية بدءًا من ديوانه "الخالق" (1960)، حيث تحضر قصيدة من ديوان "المعتصم المغربي"، من القرن السابع عشر، وقصيدة "الشاعر يعلن شهرته"، من ديوان أبو القاسم الحضرمي القرن السابع عشر:

قد مات آخرون، لكن ذلك حدث في الماضي
الذي هو الموسم.. لا أحد يجهل ذلك الأجدر بالموت
أممكن أن يكون مصيري أنا، أحد رعايا يعقوب المنصور
أن أموت كما كان الموت واجبًا على الورود وعلى أرسطوطاليس؟

                  (من ديوان المعتصم المغربي، القرن السابع عشر).

الشاعر يعلن شهرته
محيط السماء يقيس مجدي،
كتابات الشرق تتهافت على أشعاري،
الأمراء يبحثون عني ليملأوا فمي ذهبًا
الملائكة قد حفظت عن ظهر قلب آخر أزجالي
أدوات اشتغالي المُذلة والغمّ
فيا ليتني ولدت ميتًا.

                  (من ديوان أبو القاسم الحضرمي القرن السابع عشر).

إمكانية المعرفة... وعلاقة الذات والوعي
يفتتح الجزء الثاني من المجلدات الثلاثة، والذي يتضمن القصائد المكتوبة بين عامي (1964 ـ 1972) بنص يحمل عنوان "متاهة لا مخرج منها"، وهي فقرة مترجمة من كتاب "شغف اللغة.. مقاربات لشعر خورخي لويس بورخيس"، للناقد ماوريسيو بينيا دافيدسون. اختارها المترجم لغاية إضاءة جانب من عالم بورخيس الشعري. وهي تتعلق بالتحديد بالجانب الفكري الذي يميز حصيلة بورخيس الشعرية، ويرى فيه الكاتب أن بورخيس يمارس إبهارًا دائمًا على قرائه، وهو تأثير يصدر عن رؤيته المتفردة للكون، وطريقة استيعابه له، تلك الرؤية التي تجسدها جميع أعماله، وتبدو أكثر تجليًا وبروزًا في أعماله الشعرية. لأن ما يثير ويأسر في بورخيس أكثر هو عقليته، والعالم الداخلي الذي تعكسه كتاباته. وأمام الصعوبة التي ينطوي عليها اكتشاف وتحديد المعتقد الشخصي لبورخيس، يقترح أندرسون إمبيرت، في البدء، إثبات ما ينفيه بورخيس: إن ما ينفيه هو إمكان المعرفة. ويركز هذا النص على علاقة الذات والوجود والوعي في كتابات بورخيس: "تؤكد نظرية وحدة الذات على فكرة أن الأنا توجد وحدها، ولا يوجد شيء خارج الوعي، والكون سيكون مرآة، حلمًا، ابتداعًا. لكن بورخيس يسلم بوجود واقع خارجي، في كتاب "محاكمات أخرى": "العالم، للأسف، حقيقي، وأنا، وللأسف، هو بورخيس". لذلك، فهو ليس مؤمنًا بنظرية وحدة الذات، لكنه مثالي ذاتي". وكذلك يتوقف النص على حضور عنصر المتاهة في كتابات بورخيس، لكن من الناحية الفكرية هذه المرة: "قلق بورخيس مثل قلق الوجوديين، يفضل أن يبرر ارتيابه وشكوكه. وشكه الأكبر يتمثل في أن العالم فوضى، وداخل تلك الفوضى يضيع الإنسان كما لو كان في متاهة. المتاهة رمز نموذجي للكون البورخيسي، فلا مخرج لها، لأنها لا نهائية".
ويحلل النص، تحت عنوان "الفراديس المفقودة والجحم الواجبة.. حضور مفهومي الفردوس والجحيم في الكتابة الشعرية عند بورخيس":

ليس ثمة لحظة لا يمكن أن تكون فوهة الجحيم.
ليس ثمة لحظة لا يمكن أن تكون ماء الفردوس.

                  (قصيدة يوم القيامة، ديوان المتآمرون).

سوف تزعجك إلى ما لا نهاية
الذكريات المقدسة والمبتذلة
التي هي قدرنا. تلك الكائنات الفانية
ذاكرات شاسعة مثل قارة.

                  (قصيدة النهاية، من ديوان القطعة النقدية الحديدية).

أحيانًا تخيفني الذاكرة
في كهوفها وقصورها المقعرة
قال سان أوغسطين ثمة أشياء كثيرة،
والجحيم والجنة من بينها.

                  (قصيدة النقش، من ديوان تاريخ الليل).

نحمد الكابوس الذي يكشف لنا
أننا نستطيع أن نخلق الجحيم.

                  (قصيدة السعادة، من ديوان الشيفرة).

الشعر والموسيقى.. الفنون والموسيقى
يكتب بورخيس عن دور الموسيقى في الشعر في مقدمة ديوانه المميز "الآخر هو ذاته" (1964)، مستشهدًا بوالتر بيتر: "كتب والتر بيتر أن جميع الفنون تنزع إلى حالة الموسيقى، لربما لأن الخلفية فيها هي الشكل، ما دام لا يمكننا الرجوع إلى اللحن كما يمكننا الرجوع إلى الخطوط العامة لحكاية ما. والشعر سيكون فنًا هجينًا، إخضاع نظام تجريدي من الرموز واللغة للأغراض الموسيقية"، كما يمتد أثر عنصر الموسيقى إلى عنوان ديوانه التالي "لأجل الأوتار الستة" (1965)، والذي يتطرق في مقدمته لأول مرة، وبوضوح، إلى دور القارئ في استخراج الموسيقى من النص الشعري: "تفترض كل قراءة تعاونًا وتوطؤًا تقريبًا. في الحالة المتواضعة للميلونغات الخاصة بي، يجب على القارئ أن يستبدل بالموسيقى الغائبة صورة رجل يدندن، على عتبة رواق، أو في مستودع، تصاحبه القيثارة. اليد تمكث في مهل على الأوتار لكن الكلمات تهم بشكل أقل من الأنغام". لكن على الباحث عن نظرية جمالية متكاملة، عليه الانتظار حتى المقدمة التي خصصها بورخيس لديوانه "مديح العتمة" (1969)، حيث يوضح العناصر الشعرية التي تشكل رؤيته وأسلوبه الأدبي الجمالي، في الآن عينه الذي ينفي، كما سينفي قادمًا في مقدمات دواوينه عدم انتمائه لمدرسة جمالية محددة، وصولًا إلى عدم إيمانه بالجماليات على الإطلاق: "أنا لست مالك جمالية. علمني الزمن بعض الاحتيالات، تجنب المترادفات، التي لها مساوئ الإيحاء باختلافات خيالية، وتجنب العبارات ذات الأصول الإسبانية والأرجنتينية والعبارات القديمة المهجورة والعبارات المستحدثة، وتفضيل الكلمات المعتادة على الكلمات المدهشة، إدخال الملامح الظرفية في قصة، يطالب بها الآن القارئ. تذكر القواعد المذكورة سالفًا ليست واجبات، وأن الزمن كفيل بإلغائها. مثل هذه الاحتيالات، أو العادات، لا تشكل بالتأكيد جمالية. وأنا لا أؤمن بالجماليات. هي ليست أكثر من كونها تجريدات عديمة المعنى، تختلف بالنسبة إلى كل كاتب، بل إلى كل نص، ولا يمكن أن تكون شيئًا آخر عدا أنها محفزات، أو أدوات عرضية".





تبدأ نبرة من الحكمة الحياتية، وكذلك الأدبية والشعرية، تظهر في مقدمات دواوين بورخيس منذ ديوانه "مديح العتمة" (1969): "دون أن أنوي القيام بذلك في البداية، فقد كرست حياتي الطويلة بالفعل للآداب، ولأستاذية كرسي الآداب، ولأوقات الفراغ، وللمغامرات الهادئة للحوار، وللفيلولوجيا، التي أجهلها، وللعادة الملغزة لبوينس أيريس، ولحالات الحيرة التي لا تخلو من بعض الشموخ المترفع التي يطلق عليها ميتافيزيقا". لكنها تتطور رويدًا رويدًا، وخصوصًا في مقدمة ديوانه "ذهب النمور" (1972): "بالنسبة إلى شاعر حقيقي، كل لحظة في الحياة، وكل حدث يجب أن يكون شعريًا ما دام هو كذلك في العمق. على حد علمي، لا أحد حتى اليوم بلغ تلك اليقظة العالية. لا أؤمن بالمدارس الأدبية، التي أرى فيها محاكاة صورية تعليمية زائفة لتبسيط ما تقوم بتعليمه. لكن إذا أجبروني على إعلان المصدر الذي أتت منه أشعاري، فسوف أقول من الحداثة، تلك الحرية العظيمة التي جددت عددًا من الآداب التي كانت أداتها المشتركة هي اللغة القشتالية، والتي بلغت بلا شك حتى إسبانيا".

الإشراق الصوفي والألف التي تحتوي الكون
يركز نص الباحثة ماريكا كوداما بعنوان "بورخيس المتصوف: الإشراق"، والذي يفتتح الجزء الثالث من المجلدات الشعرية على الجانب الديني، أو الميتافيزيقي، في قصائد بورخيس: "يمكن الحديث في اعتقادي عن الحالة التي يمثلها بورخيس باعتبارها حالة إبداعية صوفية. فإذا كان طريق المتصوفة يقتضي قسوة المجاهدة لبلوغ حالة الإشراق التي تنتهي بالفناء في الذات الإلهية، أمكن القول إن بورخيس بقي في هذه التجربة حبيس الإشراق". فيذكر بورخيس ذلك الوجه الذي يبدو له أنه يومض في الفردوس من كتاب الخالق نفسه: "ربما يكون أحد ملامح الوجه المصلوب يتجسس في كل مرآة، وربما مات الوجه وامحى، ليحل الإله في الجميع"، ويتذكر بورخيس، العارف المتعمق بالأديان الشرقية، فريد الدين العطار الفارسي من جماعة المتصوفة، الذي تصور السيمورغ الغريب ثلاثين طائرًا، إذ يحكي عنه بورخيس في (السيمورغ). أما رمز (الألف) فهو هذه الدائرة التي تحتوي الكون. يحيلنا بورخيس، في هذا النص، على إحباطه بوصفه كاتبًا، أمام استحالة وصف بالكلمات للتطابق الزمني الذي رأته عيناه، لأن الكلمات تعاقبية، ولأن الإنسان زمني في تكوينه، هذا الزمن الذي هو تعاقبي إنسانيًا. يصر بورخيس في هذه الحكاية على استحالة تحديد الألف اللامتناهي. يمنح المتصوفة الإله رموزًا عديدة للدلالة على الألوهية.
ويتطرق بورخيس للمرة الأولى إلى نظريته في تطور الأدب الإنساني من الشعر إلى النثر في مقدمة ديوانه "الوردة العميقة" (1975)، وفيها أيضًا يوضح للمرة الأولى رؤيته عن ضرورة أن يحدث الشعر في القارئ ردَّ فعل فيزيائيًا، يشبِّهه بتأثر اللقاء مع البحر. وأخيرًا، يؤكد عدم تبنيه أية رؤية لمذهب جمالي، فيكتب: "الأدب ينطلق من الشعر، ويمكن أن يستغرق تأخره قرونًا لكي يدرك إمكان النثر. الكلمة كانت ستصير في البدء رمزًا سحريًا، ستبدده مرآة الزمن. إن مهمة الشاعر كانت ستصير هي أن يستعيد، وإن في شكل جزئي، الكلمة، وفضيلتها البدئية والخفية الآن. واجبان يتعين أن يشتمل عليهما كل شعر، وهما: إيصال حدث دقيق، وملامستنا والتأثير فينا جسديًا، مثل الدنو من البحر. مع انقضاء أعوام عديدة من ممارسة الأدب، لا أتبنى جمالية ما. النظريات مثل القناعات ذات البعد السياسي، أو الديني، ليست أكثر من محفزات، تختلف وتتنوع بالنسبة إلى كل كاتب". ويؤكد مجددًا في مقدمة ديوانه التالي "القطعة النقدية الحديدية" (1976) بأن النظريات الجمالية ليست إلا تجريدات ذهنية لأعمال فنية لا تخلق إلا الوهم: "الجمالية المجردة ليست إلا وهم، او هي تيمة ممتعة لليالي الطويلة في تجمع للنخبة، أو مصدر للتحفيزات والعوائق. لو كانت واحدة، لكان الفن واحدًا. إنها بالتأكيد ليست كذلك".

الشعر الذهني... الشعر الحكائي... والأدب
يعود بورخيس إلى الإشكالية التي شغلت كتاباته النقدية والشعرية، وهي تلك الجدلية بين الشعر الغنائي الوجداني والشعر الذهني العقلاني، فهو يعترض على تصنيف أعماله الشعرية ضمن إطار الشعر الذهني، عادًا أن الذهن يعمل من خلال المجردات، أما الشعر فقوامه الحكاية والأساطير والأحلام: "لقد ارتبط حظي بما يسمى بالشعر الذهني. إن الكلمة تكاد تحمل تناقضًا ظاهريًا. الذهن اليقظ يفكر من خلال تجريدات، الشعر الأحلام من خلال صور وأساطير وحكايات. يجب أن يربط الشعر الذهني بشكل متناغم بين هاتين العمليتين". ويقدم بورخيس في هذه المقدمة أمثلة نموذجية لما يراه مثالًا في الشعر الغنائي، وآخر في الشعر الذهني، ليعلن في النهاية أن ديوانه الحالي يسعى إلى ابتكار الطريق الوسط بين الأسلوبين: "من الأمثلة الرائعة على الشعر الشفهي الخالص أحد مقاطع قصيدة "خايمس فرييري"، حيث أن المقطع لا يرغب أن يقول أي شيء، وعلى طريقة الموسيقى يقول كل شيء. ومن الأمثلة على الشعر الذهني قصيدة من نوع السيلفا للويس دي ليون، حيث ليس ثمة صورة واحدة، ليس ثمة كلمة جميلة واحدة، مع الاستثناء المُرتاب للشاهد الذي ليس تجريدًا. ديواني يبحث عن الطريق الوسط".
يكتب ماوريسيو دافيدسون عن موضوعة الأدب كحالة من اللهو واللعب عند بورخيس: "ليس هنالك شك في أن بورخيس يفهم الأدب على أنه فن لهو ومرح، لعبة تسمح له بتطوير ودمج واستنفاد المذاهب والنظريات والتأويلات الأكثر تعارضًا للكون والإنسان". وهذا يتضح في مقدمة الديوان الأخير لبورخيس ديوان "المتآمرون" (1985)، التي يقدم فيها لتجربة الكتابة الشعرية كما لو أنها عملية سحرية في العلاقة بين المؤلف واللغة: "أن تكتب قصيدة هو أن تتمرن على سحر بسيط. اللغة أداة ذلك السحر، وهي غامضة جدًا، لا نعرف شيئًا عن أصلها، نعرف فقط أنها تتفرع إلى لغات ممارسة، وأن كلًا منها يتكون من عدد غير محدد ومتغير من ألفاظ القاموس، وعدد غير محدد من الاحتمالات التركيبية. من هذه العناصر التي لا يمكن القبض عليها قمت بتأليف هذا الكتاب". ويؤكد بورخيس في مقدمة ديوانه الأخير عدم انتمائه لأي من النظريات الجمالية التي نسب إليها شعره: "أنا لا أتبنى أي نظرية جمالية. كل عمل يمنح لكاتبه الشكل الذي يبحث عنه: الشعر، أو النثر، أو الأسلوب الباروكي، أو البسيط والخالي من المحسنات. يمكن أن تكون النظريات محفزات مدهشة، لكن يمكنها أيضًا أن تخلق وحوشًا، أو مجرد قطع متحفية. على مدى الأعوام، لاحظت أن الجمال، مثل السعادة، شائع. لا يمر يوم لا نكون فيه للحظة، في الجنة. الجمال ليس امتيازًا لبضعة أسماء شهيرة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.