}

في "سرّ" كامل التلمساني

فاضل الكواكبي فاضل الكواكبي 28 يونيو 2023
استعادات في "سرّ" كامل التلمساني
كامل التلمساني

كتب الكثير عن كامل التلمساني (1918-1972) كسينمائي أنجز أحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية ألا وهو فيلم "السوق السوداء" (1945) والذي اعتبر تحفة سينمائية كما سمّي بالفيلم الملهم للواقعية في السينما المصرية. وتمّت المقارنة كثيرًا بينه وفيلم "العزيمة" لكمال سليم (1939) الذي يُعتبر الفيلم الواقعي الأول في تاريخ هذه السينما. وقد ميّز معظم النقاد فيلم التلمساني واعتبروه أكثر نضوجًا (من الناحية الفكرية) من فيلم سليم. فيلم "السوق السوداء" برأيهم، يبتعد عن الحلول التصالحية طبقيًا التي طرحها "العزيمة"، وقلما تمت المقارنة فنيًا وسينمائيًا بين الفيلمين. كما كثر الحديث عن أسباب تحوّل التلمساني نحو إنجاز أفلام سينمائية خفيفة بعد الصدمة التي أصابته إثر الفشل الجماهيري لفيلم "السوق السوداء" وردود الفعل الغاضبة التي أبداها الجمهور الذي حضره في صالات العرض. وهناك أسئلة أخرى تتعلق به مثل سبب تحوله من الفن التشكيلي إلى السينما، سبب هجرته إلى لبنان أوائل الستينيات إلخ....

لا شك في أن التلمساني كان من أوائل المثقفين الذين انضموا إلى مسيرة السينما المصرية. ولكن ما يميزه أولًا أنه جاء إلى السينما من احتراف الفن التشكيلي. كما يمكننا اعتباره ثانيًا، الماركسي الأول الذي جاء للعمل في هذه السينما (*). فقد كان مثقفًا مسيّسًا لديه "وجهة نظر" يرغب في أن يوصلها باستخدام أدوات فنية. وماركسية التلمساني تجد تأكيدًا لها ليس في انتماء حزبي معين، بل في ارتباطه التأسيسي بجماعات فنية وثقافية ومنابر صحافية تحمل الطابع اليساري الماركسي (وعلى رأسها جماعة "الفن والحرية"). ماركسيته في المجال التشكيلي مثلًا تأخذ شكلًا طليعيًا، إذ أنه ارتبط بجماعة تروّج للمذهب السوريالي من وجهة نظر ماركسية (تروتسكية - فرويدية). ولكنه وفي المقابل، في كتبه ومقالاته عن السينما التي نشرها في الخمسينيات، يميل إلى الخطاب الماركسي المدرسي في تحليله للسينما الهوليوودية (في الكتاب الأول) وأهمية منجز تشارلي تشابلن (في الكتاب الثاني).

وفي عودة إلى بداية التلمساني السينمائية، نرى أن منجزه في "السوق السوداء" لا يرتبط حصرًا برؤيته الفكرية "العميقة" فحسب، فهذا المنجز المرئي مرتبط عضويًا بثقافته البصرية (التشكيلية والسينمائية) التي تظهر واضحة في سياق الفيلم من حيث التأثر الواضح بالتعبيرية في السينما الألمانية أحيانًا والطليعية في السينما السوفياتية في أكثر الأحيان. وتبدو هذه التأثيرات مندغمة في خطاب الفيلم الأيديولوجي، ولكنها تبدو أيضًا حلولًا بصرية رفيعة ساهم في إنجازها اثنان من عمالقة السينما المصرية هما مهندس الديكور ولي الدين سامح، ومدير التصوير أحمد خورشيد، اللذان لم يعملا معه فيما بعد. ولكننا نميل إلى الجزم في أن قوة الفيلم تتأتى من تكامل العناصر الفيلمية التي أسّس لها التلمساني منذ السيناريو (كتبه مع بيرم التونسي).

 سمّي فيلم "السوق السوداء" بالفيلم الملهم للواقعية في السينما المصرية


وبالمقارنة مع "العزيمة"، نميل إلى رصد اختلاف الأسلوب والخيارات الدراموبصرية بين الفيلمين، ففيلم "العزيمة" ينتمي إلى ما يمكن تسميته بالواقعية الكلاسيكية، أي ذات القالب الدرامي والبصري المتأثر ببدايات الفيلم الواقعي الهوليوودي كما تبدّى خاصة عند كابرا ومنكيفيتش. وبالتالي فـ "العزيمة" لا ينحو منحى طليعيًا بصريًا، وهو يقدّم سردًا دراميًا متماسكًا حيًا وعميقًا ذا طابع روائي خطي.

ورغم أن السرد الخطي هو المهيمن أيضًا على "السوق السوداء"، إلا أن بنية الفيلم تقوم على وحدات متصلة منفصلة تبدو كل وحدة فيها حاملة لدلالاتها الخاصة. وفي هذه البنية تميّز وتجديد واضح، ولكنها أحيانًا تذرر السرد وتخرجه عن السيطرة كما تغربه عن المشاهد البسيط. ونحن نرى أن هذا هو السبب الحقيقي في رفض الجمهور للفيلم، أما ما أبداه بعض النقاد من تبريرات عن أن المشاهدين كانوا في غالبيتهم من أثرياء الحرب الذين وجّه لهم الفيلم إدانات قاطعة ففيه بعض التكلف.

تكمن أهمية "السوق السوداء" أيضًا في أنه أول فيلم مصري تكلم أحيانًا بلغة السينما الخالصة ليس من ناحية التكوين والإضاءة فحسب وإنما في تقديمه للدلالات البصرية (المجاز، الاستعارة، الرموز إلخ...) في سياق سينمائي بحت يرفعها إلى مستوى الصورة الدلالية الفنية.

ليست إشكالية "رد فعل" التلمساني في أنه اتجه نحو الأفلام الخفيفة، خاصة أنه كان بإمكانه بعد ثورة 1952 (خاصة منذ منتصف الخمسينيات) أن يصنع أفلامًا ذات حمولة أيديولوجية يسارية بأسلوب نصف كلاسيكي نصف طليعي متقن، كما فعل يوسف شاهين، صلاح أبوسيف وآخرون. فقد أخرج التلمساني بعد "السوق السوداء" وحتى مغادرته لمصر 7 أفلام إضافة إلى أشرطة تعبوية في أثناء العدوان الثلاثي وتابع عمله كناقد سينمائي، كما أصدر كتابين من تأليفه هما "سفير أميركا بالألوان الطبيعية" و"عزيزي تشارلي"، وقد صدر الكتابان عن أهم دار مصرية ماركسية في الخمسينيات وهي دار الفكر.

وفي عودة إلى أفلامه الستة نلاحظ ضآلة الإمكانيات وضعف الأداء الإخراجي فيها إلى درجة مستغربة -لاحظ فيلمي "أنا وحبيبي" (1954) و"مدرسة البنات" (1955) – مما يدفعنا للاعتقاد بأن التلمساني لم يغيّر مساره لأنه أراد مخاطبة أوسع قطاع من الجماهير، بقدر فقدانه للمحرّضات الإبداعية التي رفعت إلى سوية التحفة فيلمه الأول، ومن الواضح أن التلمساني لم يكن يمتلك تمكنًا حرفيًا يحميه من ضعف الأداء السينمائي.

إن السؤال إذًا هو سؤال الأدوات، فعدم التمكن منها والتفكير بها هو سبب جوهري لعدم إنجاز سينما مهمة.

وفي فيلمه الأخير "الناس اللي تحت" (1960)، حاول التلمساني أن يصنع عملًا جديًا، ولكنه لم ينجح في ذلك. وقد غادر مصر إلى لبنان أوائل الستينيات لأسباب غير معروفة، ولكنها بالتأكيد ليست سياسية، ليعمل في النقد السينمائي وكتابة السيناريو والاستشارة الفنية للأخوين رحباني. وكان آخر أعماله الفنية سيناريو فيلم "الحب الكبير" لهنري بركات المصور في لبنان وهو من أضعف أفلام المخرج حيث أنه مُفصَّلٌ بتصنع لبطليه فريد الأطرش وفاتن حمامة.

(*) بالطبع كان هناك سينمائيون آخرون من ذوي التوجه اليساري الذين بدأوا يظهرون في الأربعينيات مثل كمال سليم وأحمد كامل مرسي وجمال مدكور وصلاح أبو سيف وفطين عبد الوهاب وآخرين، ولكنهم لم يكونوا مشبعين بالفكر الماركسي كما كان التلمساني.

       

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.