}

الطريق السياسي للانقلاب الأوّل في تاريخ سورية

عزيز تبسي 4 فبراير 2023
استعادات الطريق السياسي للانقلاب الأوّل في تاريخ سورية
حسني الزعيم

المناخ الدولي
انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة دول المحور، ألمانيا وإيطاليا واليابان، وصعود قوى دوليّة جديدة حلّت مكان القوى المهزومة عسكريًا، والمُنهكة اقتصاديًا.
وَضَح أن الولايات المتحدة المنتصر الأبرز، هي التي شاركت في الحرب وفق حسابات حاذقة، وخرجت منها بأقل الخسائر. في الوقت الذي أنهك فيه الاتحاد السوفياتي بخمسة وعشرين مليون قتيل، وأكثر منهم من ذوي الإصابات الجسديّة الدائمة، فضلًا عن تدمير آلاف القرى والبلدات وعشرات المدن السوفياتية. وخرجت بريطانيا بخسائر بشرية كبيرة، ودمارٍ للمدن، وبمديونيّة اقتصادية وضعت اقتصادها تحت سطوة قروض المصارف الأميركية، إضافة إلى نموّ ضغط حركات الشعوب في مستعمراتها، كالهند، ومصر، وإيران، الشعوب التي وضعت الاستقلال هدفًا أساسيًّا لكفاحها.
لم تتمّ دعوة فرنسا لحضور أي من المؤتمرات الدولية، مثل مؤتمرات يالطا وبوتسدام، والتي رسمت حدود المصالح بين الدول المنتصرة: الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفياتي، وبريطانيا. سادت العالم سمات المرحلة الانتقالية، والتي تطلّبت تصفية الاستعمار المباشر، وإحلال صيغ جديدة من الحكم، قوامها المعاهدات السياسية والأحلاف العسكرية والقواعد المنتشرة، ووعود اقتصادية بصيغ قروض، ومساعدات مالية مشروطة بالموافقة على مشاريع سياسية معينة.
أجْلَت فرنسا قواتها العسكرية عن سورية ولبنان، بعد تلقّيها إنذارًا من تشرشل، والذي ترافق بتحرّك للقوّات البريطانية. حافظت بريطانيا على وجودها العسكري في العراق، وشرق الأردن، ومصر. وكانت قد عزّزت نفوذها على الطبقة السياسية في سورية ولبنان، حين تدخلت قوّاتها عام 1941 لإسقاط القوّات الموالية لحكومة فيشي الموالية لألمانيا. لهذا يمكن اعتبار الفترة الممتدة من عام 1941 حتى 1945 فترة حكم بريطاني ـ فرنسي مشترك لسورية ولبنان.
تسلمت سورية إدارة شؤون الدولة رسميًا في 17 آب/ أغسطس 1943. وانتخَب مجلس النواب السيد شكري القوتلي رئيسًا للجمهورية، وتم تشكيل الحكومة الأولى برئاسة سعدالله الجابري. وكان على الوزارة أن تتسلم من الانتداب الفرنسي السلطات الخاصة بالمصالح المشتركة، والجيش والأمن العام والمرافق العامة، وذلك بالتعهد بإدارتها وتوجيه أعمالها إلى موظفين أكفاء.
تعاقب أقطاب الكتلة الوطنية على رئاسة الحكومة، وهم: سعدالله الجابري، وفارس الخوري، وجميل مردم. تُرِك المجال الداخلي للجماعات السياسية الوطنية، لتحقق مصالحها، واستخدمت لها أحط السبل وأكثرها تجاوزًا للقوانين.


السياسات الأميركيّة
على ضوء هذه التحوّلات العالميّة، يمكن مقاربة الصراعات السياسية في المشرق العربي، إذْ أسّست الولايات المتحدة سياستها على مهام ومبادئ واضحة، أهمّها نزع الاستعمار القديم، البريطاني على وجه التحديد، والحلول مكانه بصيغ جديدة، مع انتزاع حقوق التنقيب عن النفط واستثماره، وفرض مسارات تنمية معينة على الأنظمة الحاكمة. إضافة، طبعًا، إلى دعم الكيان الصهيوني، والضغط على الأنظمة العربية لإنتاج هدنة عسكرية معه.




وحرصت أميركا على إنتاج أنظمة تدور في فلك سياساتها، وتتمتع بنوع من الاستقلال النسبي يجنبها الوسم بالتبعية المباشرة. واستمرّت في تطويق الاتحاد السوفياتي، ومنع أي تمدد له نحو البلاد العربية، وبناء استراتيجية مشتركة تجاهر بعدائها للشيوعية واليسار. كما عملت أميركا بدقة على تصفية بواكير حركات التحرر العربية، وإشغالها بمشاكل لا مخرج منها، وذلك إما عن طريق الضغط من خارجها بحظر نشاطها وإيقاف صحافتها واعتقال أعضائها، أو باستخدام التهديدات والاغتيالات، أو الضغط من داخلها لإيجاد تياراتٍ ترضخ لسياستها.


النكبة ومسؤولية الجيش
بعدها، شهدت سورية فترة حكم الجماعات الوطنية المنحدرة من الملاكين الكبار وأصحاب العقارات، والذين اعتمدوا صيغة "التعاون المشرف" مع الانتداب، والتي قدمتها الكتلة الوطنية لتسويغ مشاركتها الانتداب في إدارة أجهزة الدولة، ومن رجالات "حكومة المديرين"، ومن ضباط "جيش الشرق"،... وغيرهما. حملَت هذه الجماعات معها تعدد الولاءات الجهويّة، وصيغ المحسوبيّات، التي فرضَت العجز عن محاسبة المخالفين للقوانين، والمتعدين على الحقوق العامة والخاصة. هؤلاء علقوا في مصالحهم الطبقيّة الضيقة، التي لم تتجاوز وعيها حدود المزرعة والمنشأة الصناعيّة، وجاء انقسامهم وفق التجاذبات التي شقّت طريقها إليهم بتأثير محورين سياسيين عربيين: مصر والسعودية، من جهة، والعراق وشرق الأردن، من جهة أخرى. راكموا عشرات مشاكل التنمية الاجتماعية التي لم تُحَل، واختتموها بالهزيمة العسكرية أمام الجيش الإسرائيلي سنة النكبة 1948.
حاول رجال السلطة في سورية آنذاك مقاربة الهزيمة بوصفها مشكلة عسكرية تخص الجيش. ومن هنا تفعّل نقاش داخل البرلمان قاده النائب فيصل العسلي، وانتقل بعدها إلى سعي رئيس الجمهورية شكري القوتلي للتفتيش عن تموين الجيش، والإشراف على اختبار سلاح المدفعية. أوصله التفتيش إلى نتيجة مخيبة، إذْ كُشِفَ عن مستودعات الأطعمة الفاسدة التي يتناولها الجنود، وذخيرة قديمة من بقايا الجيش الفرنسي تم تخزينها بشروط أفقدتها فاعليتها، لدرجة أنّها لم تطلق أي قذيفة في الاختبار الذي حضره الرئيس القوتلي ورئيس الوزراء خالد العظم.
أدَّت هذه المبادرة التي أرادت حصر الهزيمة ببعض ضباط الجيش إلى تحريض حسني الزعيم، الذي وجد نفسه مستهدفًا من الطرح العلني في البرلمان حول فساد الذخيرة والطعام، فدعا مجموعة من الضباط إلى اجتماع خاص في مقر قيادته بمدينة القنيطرة، محولًا بطريقة ديماغوجية المسؤولية الفردية التي يتحملها شخصيًا مع بعض الضباط، إلى تعبئة للضباط بصيغة أن الجيش هو المستهدف.




طغت في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1949 على أعمدة الصحف السورية أنباء الشكاوى والفضائح المتلاحقة، والتي تفضح صورة الأوضاع الداخلية الفاسدة. ويختصر أكرم الحوراني في الجزء الأوّل من مذكراته تلك الفترة التاريخية ببلاغة، قائلًا: "فقد طرحت كارثة فلسطين دفعة واحدة جميع ما يعانيه الشعب من أزمات ومشكلات. وهي كثيرة منها: أزمة خبز الفقير، أزمة السكر، أزمة المحروقات، أزمة الغلاء، أزمة قانون الإيجارات، أزمة خزينة الدولة، موجة الإرهاب والسرقات، وتسريح عدد من رجال الشرطة والحراس الليليين، فضائح الاختلاسات في وزارة المالية، فضيحة غش ملاجئ الدفاع السلبي، فضائح غش وسرقة تموين اللاجئين والأحذية المرسلة إليهم. هذا بالإضافة الى فضائح تموين الجيش، ومحاكمة فؤاد مردم بقضية باخرة السلاح (اشتراها من إيطاليا) التي استولت عليها إسرائيل. ومن سنن التاريخ أن تكشف الهزيمة جميع مخازي المجتمع ومفاسده الظاهرة والخفية" (ص 974).


ليلة الانقلاب
وقع الانقلاب ليلة 29 ـ 30 مارس/ آذار من عام 1949، من دون إراقة قطرة دم. ورغم الأسباب الداخلية التي حرَّضت لهذا الانقلاب، إلا أنه حظي بدعم من قوتين دوليتين، هما الولايات المتحدة، وفرنسا. خرجت تظاهرات مؤيدة له عكست بطريقة ما النقمة الشعبية على فساد السلطة. شارك في المظاهرات طلاب ثانويات دمشق، وجامعتها. وأبرز القوى الحزبية التي وقفت مع الانقلاب كانت حزب البعث العربي، وجماعة الأخوان المسلمين، مع حياد وترقب من الحزبين التقليديين: الحزب الوطني، وحزب الشعب.
قاد الانقلاب الزعيم حسني الزعيم، وشاركه فيه ضباط آخرون بالتخطيط والتنفيذ.
ولد حسني الزعيم في مدينة حلب عام 1889، ودرس الابتدائية فيها، والتحق بالجيش التركي، ورقي إلى رتبة ملازم أول عام 1917، نقل إثرها إلى المدينة المنورة. وقع أسيرًا في مصر، وتطوع بعد إطلاق سراحه في الجيش العربي، تحت قيادة الأمير فيصل ين الحسين. التحق بعد الانتداب الفرنسي بالكلية العسكرية، وخدم بعد تخرجه في قطعات عسكرية فرنسية مختلفة، ورقي إلى رتبة نقيب عام 1928، وإلى رتبة مقدم عام 1934، وإلى رتبة عقيد عام 1941. حارب مع قوات حكومة فيشي عندما هاجم الديغوليون سورية بإسناد من الجيش البريطاني المنتشر في العراق والأردن.
وافق قائد الانقلاب على اتفاقية "التابلاين" مع الشركة الأميركية، والاتفاقية النقدية مع الحكومة الفرنسية، والهدنة مع إسرائيل!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.