}

المراسلات أو ثنايا الذات في عصر الكتابة

فريد الزاهي 25 ديسمبر 2023
استعادات المراسلات أو ثنايا الذات في عصر الكتابة
غادة السمان وغسان كنفاني

وأنا أبحث في أرشيفي عن القصيدة الأولى التي نشرتها وكتبتها بخط اليد، صادفتني في مسعاي رسائل كثيرة من حبيبات سابقات، كما من شخصيات عرفتها في يفاعتي وشبابي، كمحمد بنيس، ومحمد زفزاف، وجاك دريدا، وغيرهم... كلها مكتوبة باليد، بخطوط تعبر بشكل ما عن شخصية صاحبها، وعن حيوية يده. في طفولتنا، كما في يفاعتنا، كان ساعي البريد، ببزته المميزة، وقبعته وحقيبته الجلدية، وحركاته المتقنة، يشكل إيقاع يومنا. يكفي أن نراه يمر بزقاق الحي كي نعرف الساعة، وكي نعلم وجهته. فالبيوت التي كانت تصلها الرسائل قليلة، في تلك الأحياء الفقيرة التي كان فيها الأطفال المتمدرسون فقط، ومعهم فقيه الحي، يعرفون فك سَنَن الحروف... كان يكفي أن تتلقى رسالة، أو تفتحها وتطل عليها لتعرف إن كانت رسالة إدارية أم شخصية، لأن الرسائل الرسمية والإدارية وحدها ترقن بالآلة الكاتبة. ومن الخط أحيانًا يمكن أن تتعرف على صاحب الرسالة. خط الرسالة كان في حد ذاته توقيعًا يفصح عن هوية صاحبها.
أما اليوم، مع ظهور الحواسيب، ومواقع التواصل الاجتماعي، فقد صارت الكتابة شذرية، ويمكنها أن تتم في اليوم بكامله، وفي أي وقت. الرسائل لم تعد رسائل البتة، بل باتت حوارًا مباشرًا يحاكي الحوار الشفهي. بل، مع ظهور الأوديوهات (الرسائل السمعية) بات الكل يتكلم، ويتحاور بإفراط أضحى ضجيجًا صاخبًا. ولم يعد ثمة من فرصة للتمتع بالأسلوب الشخصي لصاحب الكلام، والاختلاء لقراءة حروفه وإعادة قراءتها في صمت، إلا إذا هو أخذ الوقت لكي يكتب لك رسالة يغيب فيها القلم وحركة الأصابع والخطوط والتعريقات التي تمنح لكل خط رقصته وروحه.


المراسلات: هوامش للحياة والكتابة الذاتية



في أكثر من قرن من الزمن، لم تراكم الثقافة في العالم العربي من المراسلات بين الكتاب والفنانين إلا القليل النادر. أما مراسلات العشق والحب فهي نادرة، إلى حدّ أنها أصبحت أسطورية، كرسائل جبران إلى مي زيادة (التي نشرت في كتاب الشعلة الزرقاء)، والرسائل بين أنور المعداوي، وفدوى طوقان، ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان. إنها نصوص تكشف عن الإنسان الثاوي وراء الكاتب، وهو يعيش تجربة مباشرة للوجود، ويخطها من غير أن يفكر في أنها ستنشر يومًا باعتبارها نصوصًا أدبية. بل هي هوامش للحياة والكتابة حين يمتزجان بفورة اللحظة، وحيث لا يكون القارئ شبحًا هلاميًا قد يكون أنا أو أنت. القارئ هنا مستهدف لا كقارئ وإنما ككائن يستجذبه الكلام إلى أحضان الذات، تلك الذات التي تكف عن أن تكون واحدة لتصبح ثنائية.



بعض هذه المراسلات تكون فقط تعبيرًا عن محبة أدبية وألفة ثقافية، كمراسلات محمود درويش وسميح القاسم، ومراسلات عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي، التي نكتشف فيها منيفًا رسامًا. وبعضها الآخر نشر بعد وفاة أصحابها، وبشكل مبتسر في غالب الأحيان، أي من جهة واحدة فقط. إنها (كرسائل غسان كنفاني وأنسي الحاج إلى غادة السمان) مراسلات تكشف، إن لم تفضح جليًا، علاقات كانت تبتغي أن تظل في طيّ الكتمان. الثقافة العربية تحمي حميمية الكتاب بالخيال والتخييل والمتخيل. والسيرة الذاتية فيها، كما المراسلات واليوميات، حصن تراقبه الأخلاق وسياسة الكتابة وسلطة المتلقي والرقابة الذاتية.
في المقابل، فإن ثقافة مبنية على الاعتراف العمومي، وعلى البوح الذاتي، كالثقافة الفرنسية مثلًا، أضحت فيها السيرة الذاتية كما المراسلات العاشقة جنسًا أدبيًا يضخ في الأدب دماء جديدة تسلط الضوء على الجوانب الحميمة والخفية التي تشكل صورة الكاتب، في علاقته بطفولته وشبابه، كما بنوازعه، في حوار مفتوح مع الذات. الرسائل بين كامو وماريا كاساريس، وقبلها بين ألفريد دو ميسي وجورج ساند، وغيرهم، تنضح بنسغ الأدب. إنها الواقع اليومي الذي يضاهي الخيال.
الرسائل التي يتبادلها الأدباء والشعراء والكتاب مع الآخرين، سواء كانوا أحبة، أو أندادًا في مجال الفكر والكتابة، لا تحتاج إلى الخيال والمخيلة كي تصبح أدبًا. إنها تنبع من صميم ذلك التواشج الخفي والسري بين اللغة والأحاسيس، والصور فيها من فرط واقعيتها تجاوز البلاغة والتصوير، لتغدو لحظات يسهر عليها الدم الساخن الذي يسري في عروق اللغة. إنها لحظات انفتاح وحب ومحبة ومودة (أو حقد وضغينة أحيانًا)، تنسج لغة جديدة قريبة من بشرة المشاعر، وعلى حدّ موسى تقلباتها.
لا تخضع الرسائل (خاصة رسائل الحب) لإيقاع الرغبة في الكتابة فقط. إنها تنصاع في إيقاعها الجارف إلى حضور الآخر في الذات، وفي المسافة الفاصلة بين المترسّلين. الترسّل هنا انفجار وفورة للعواطف والأحاسيس، يكاد ينفلت من قوة اللغة، يفجرها ويخلخل معقوليتها. إنه لحظة سيولة جارفة قد تصل حدّ الهذيان أحيانًا، بخاصة حين يكون ثمة تمنّع من الآخر المعشوق، أو تردّد، أو صمت... وإذا لم يكن ثمة جواب من الآخر، فإن الكتابة، أو الرسالة، تغدو حوارًا مع صورته الممكنة، الضبابية والغامضة والمحتملة في الذات، في وحدة صارخة تشبه الجرح العميق والوحدة السديمية. وفي لعبة مرايا تصبح فيها الذات متصادية مع شبحها الرابض أمامها، وكأنه يحجب عنها صورة الحبيب.  أما حين يأتي الردّ والجواب والاستجابة، فإن ذلك يغدو أشبه بفرحة الصبي بأول لعبة له. إنه الانجراف إلى تبادلية للكلام يغدو أشبه بخيوط كهرباء توصل الشحنة والنور وقوة الانفعال. هذه الحميمية التي تنكتب فيها الرسالة تحجب عنها عيون الرقيب والعاذل، وتجعلها في خلوة حصينة مع صورة الآخر تسمح لها بالانكشاف التام.

جعل عبد الكبير الخطيبي من رسائله إلى جاك حسون فرصة للحديث عن الكتابة والتراث اليهودي والعربي الإسلامي، وفلسطين، والتصوف، والصهيونية 


ثمة، في المقابل، رسائل تكون منذورة للنشر منذ البداية، تبعًا لاستراتيجية ترسّل محبوكة، لغرض فكري، أو أدبي، أو ثقافي، أو حواري. ذلك حال مراسلات الكاتبين الفرنسيين ميشيل هولبيك، وبرنار هنري ليفي، التي اختارت لنفسها عن وعي، ومنذ البداية، هذه "الحيلة" الكتابية في الكتابة عن الذات والعالم واليومي كل ليلة لمدة معينة. إنها لعبة استجلاء للذات في مرايا الآخر، وحوار يتسربل بالتعلّة والذريعة ليخلق مختبرًا للحكي والفكر. وذلكم حال مراسلات الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي، الذي جعل من ترسّله مع الكاتب والمحلل النفسي الفرنسي اليهودي (ذي الأصول المصرية) جاك حسون فرصة للحديث عن الكتابة والتراث اليهودي والعربي الإسلامي، وفلسطين، والتصوف، والصهيونية. ثم مراسلاته مع غيثة الخياط الكاتبة المغربية والمحللة النفسانية (أيضًا!)، التي أضعف إيقاعها البطيء من وهجها، وكان سببًا لخيبة غيثة الخياط (كما أسرّت لي، حين حدثتها عن رداءة الترجمة التي كان ينشرها أحدهم للكتاب متسلسلة في إحدى الجرائد المغربية).


رسائل الظل... أو الكتابة بصوت واحد

نشرت غادة السمان رسائل أنسي الحاج (الصورة) إليها من دون أن تنشر رسائلها له 


كم كانت المفاجأة ضاربة في العمق حين عثرت على رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان بغمْر عواطفها التي يقدمها الكتاب وكأنها سيل هادر تصب في بحر لا أفق له. إنها رسائل شخص متوحد يقارع النهار بالليل، يندلق كلامًا شعريًا متوهجًا ويفتح كيانه كاملًا كي ينصت فيه لهدير عواطف تكاد اللغة لا تمسك إلا بأطرافها. يكتب أنسي في منتصف الرسالة الأولى ما سيردده مرارًا في الرسائل التالية: "غادة، الوضوح الذي أنا في حاجة إليه لم أقدمه. كنت أعرف أنني سأفضل في تقديمه. لكنني أردت أن أجرّب. أردت لأنني أطمع بمشاركتك. أطمع بها إلى حدّ بعيد جدًا. لكن رغم هذا أعتقد أنني سأقول لك شيئًا واضحًا. وقبل كل شيء، هذا: إنني في حاجة إليك. (إذا ضحكت الآن بينك وبين نفسك، فسيكون معناه أنك لا تحترمين مأساتي. ولن أغتفر ذلك لك أبدًا). تتذكرين من دون ريب أنك ضحكت مرة، بمرارة، حين قلت لك إنني في حاجة إليك. وربما فكرت: كيف يعرف أنه في حاجة إليّ، أنا بالذات...". الحاجة الماسة والدموية إلى الآخر عصب الحب. وهو الذي ترجمه المتصوفة بالاتحاد، أي الانصهار في الآخر، سواء كان حبيبًا من لحم ودم، أو إلهًا. إنها الحاجة التي ترمي التراب عن هشاشة العاشق، وتحوله إلى عابد لمعبود قد يكون لامرئيًا، وقد يستحضر في الخلوة الرهيبة التي يسربلها الليل بحجبه السميكة.




نشرت غادة السمان رسائل أنسي، من غير أجوبتها هي، بعد وفاته بثلاث سنوات، معللة ذلك بأنها لم تستجب له، ولم تجب على رسائله، لأنها كانت تلتقيه يوميًا. وكانت قبل ذلك قد نشرت رسائل غسان كنفاني إليها، وكأنها الشمس التي تمنح للقمر وهجه. إنها رسائل تحجب عنا الجانب الآخر من القمر، ولا تمنحنا إلا صوتًا وحيدًا يتصادى مع ذاته. وبعجرفة ممزوجة بالاعتراف الصريح، تكتب معللة نشر هذه الرسائل الأحادية: "لم أكتب لأنسي الحاج أي رسالة، فقد كنا نلتقي كل يوم تقريبًا في مقهى الهورس شو" ـ الحمرا، أو "الدولشي فيتا"، و"الديبلومات" ـ الروشة، أو "الأنكل سام"، مقابل مدخل الجامعة الأميركية الرئيسي... وهذه المقاهي انقرضت اليوم! لم أكتب لأنسي، لكنني عجزت عن تمزيق هذه الرسائل الرائعة أدبيًا... وأيًّا كان الثمن". لكن من سيدفع الثمن هنا؟ وكيف كان الثمن سيبدو لو نشرت رسائلها له؟
يقول بارت في "شذرات من خطاب عاشق": "غير أن "عدم الإجابة" هو الرفض الحقيقي: إن إلغائي يزداد قوة إذا ما رُفضت لا لكوني طالب حاجة وحسب، بل لكوني محبًا متكلمًا أيضًا (وأتمكن، على الأقل، من الصياغات)؛ ذلك أن المنفيّ ليس طلبي، بل لغتي، باعتبارها آخر طيَّة من وجودي؛ أما الطلب ففي وسعي أن أنتظره، أن أجدده، أن أعيد تمثيله: لكني، إن أُبعدت عن إمكانية السؤال، كنتُ مثل ميت من غير رجعة"...
تكشف الرسائل المنشورة كما المحجوبة، وكما المفقودة بين المثقفين والأدباء، إذًا، عن هوامش الكتابة الحية واليقظة. تلك التي تتغذى من اليومي واللقاءات وصدف الحياة. إنها، مثلها مثل اليوميات والسير الذاتية، تغري بالقراءة، وتفصح عن مواطن في حياة أصحابها لم تشملها كتاباتهم إلا عرضًا... إنها صوت يأتينا من وراء حجاب، فنطل من خلاله على ثنايا الذات الكاتبة. وما دام هذا الجانب شحيحًا في تاريخ الثقافة العربية، فهل سنطمع في أن يفرز لنا عصر الترسّل الرقمي بديلًا يملك تلك القوة الباهرة؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.