}

هل أصبحت مخاطر الصُّور أكبر من منافعها؟

فريد الزاهي 25 فبراير 2024
فوتوغراف هل أصبحت مخاطر الصُّور أكبر من منافعها؟
تغذي الصور النرجسية الأصلية وتمنحها وجودا جديدا (Getty)
ترتبط الصورة بالانعكاس والخيال والمرآة والحب (حب الذات والآخر) والغياب والاستحضار، قبل أن تتجسّد في ما بعد في أشكال مرسومة ومنحوتة، وقبل أن تصبح مقدسة وتجسّد الآلهة.  وإذا كان نرسيس في أصل النرجسية حين تأمل صورته في صفحة الماء التي تحولت إلى مرآة، فإن الصور التي تتداول اليوم بشكل وفير وغير منقطع في وسائل التواصل الاجتماعي كما في الشاشات بجميع أنواعها، تغذي هذه النرجسية الأصلية وتمنحها وجوداً جديداً. فبعد أن كانت الصور من حق المحظوظين اجتماعيا، تحولت إلى حقٍّ للأفراد يأخذونها في استديوهات المصورين، فيما أضحت اليوم تُعاش يوميًا وفي كل لحظة في ديمقراطية سائلة وسائبة، وبات كل فرد يعيش تخمة التصوير، حتى في البلدان التي كان ذلك محرَّما بها، حتى إنه ليجد صعوبة في خزنها أو تذكرها أو أرشفتها. لقد مضى عصر الألبوم العائلي والشخصي، ليغدو العالم كله عبارة عن... صور!
أما حكاية كاليروي، ابنة صانع الفخار بوتاديس، التي تعتبر في أصل الصورة المرسومة، فإنها عندما قامت برسم تداوير ظل جسد حبيبها على الحائط، كانت تؤسس لطابع الشهادة ووظيفة خيال الاستحضار الذي يميز الصورة عن اللغة أو الصورة الذهنية. وهي الوظيفة التي حللها رولان بارت بشكل باهر. وبعد أن كان الرسم والفنون التشكيلية مخصوصا بالموهوبين صار اليوم مهنة يعتاش منها العديدون وغدا أمر فرز الفنانين المبدعين من النافلين أمراً صعباً، خاصة مع وفرة وسائل التواصل البصري. ولو عايش بارت عصر الصور الذي نعيشه لربما كتب الجزء الثاني المطلوب الذي ابتعدت فيه الصور عن وظائفها التناظرية لتغدو عالما كاملا يعيش فيه الإنسان يوميا، لا باعتباره واقعا ثانيا، وإنما بوصفه عالمه الأول الذي يفيق عليه ويمسي عليه وفيه. لقد تحولت الصور من وسيلة للاستحضار والشهادة والحب إلى صور خطيرة. يبدأ ذلك بالإدمان عليها بحيث يفتح الطفل عينيه عليها قبل أن يفتح عينيه على وجه أمه، ويمر بالصور المخادعة والملفقة والمفبركة (ذاتيا ومؤسساتيا)، وبالصور القاتلة كما بالصور الخطيرة، لينتهي بصور المراقبة والتحكم التوتاليتاري...  

الصور الكاشفة 
من بضع سنوات خلت كنا نتتبع على القناة الفرنسية "تي إيف 1" سلسلة تلفزيونية مثيرة جدا وبموضوع بالغ الجدة بعنوان: "شخص محطٌّ للاهتمام" (person of interest)، جعلت من الصورة ومن جانب خاص منها موضوعا لحبكة حكائية مبتكرة. ومع أن السلسلة تدخل في التخييل الاستشرافي المستقبلي إلا إنها تنطلق من مؤشرات الحاضر وتحيّن مفهوم كليانية أو توتاليتارية الدولة في العصر الرقمي، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر بأميركا. إنها تتخذ موضوعا لها المراقبة الدقيقة للمواطنين بالصور وبالكاميرات التي تتبعهم صحوا ونياما، في الشارع وفي بيوتهم ومواطن عملهم، كأنها عين إلهية لا ينغلق لها جفن، تطّلع على كل شيء في الحياة العامة والحميمة للأفراد، وتشتغل بشكل مستقل بحيث قد تتحول إلى آلة تسير ذاتها بذاتها.
نتابع، في السلسلة هذه، "جون ريس" العميل شبه العسكري السابق لوكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) الذي يُفترض فيه أنه ميت، والذي يعثر عليه الملياردير الغامض "هارولد فينش" ويستخدمه معه. كان فينش قد صمم، في الماضي، نظام مراقبة جماعي للحكومة، التي كانت ترغب في تفادي وقوع أحداث 11 سبتمبر أخرى. ونظام المراقبة الشامل هذا قادر على التنبؤ بالأعمال الإرهابية في جميع أنحاء العالم، بناءً على بيانات واسعة النطاق مثل تسجيلات كاميرات المراقبة والمكالمات الهاتفية أو السجلات الجنائية. ومع أن فينش منح الحكومة أداة ذات قوة هائلة لا يمكن تصورها، فقد قام كإجراء احترازي ببناء باب خلفي سمح له بالوصول إلى النظام، وهو ما مكنه من التحكم فيه في ما بعد بشكل شخصي.
تقوم الآلة الذكية أيضًا بالتعرف على الجرائم والوقائع الخطيرة التي تحدث بين المواطنين العاديين والتي تعتبرها الحكومة قضايا بسيطة. وما دامت السلطات تتجاهل هذه البيانات، فإن فينش يتلقى أرقام الضمان الاجتماعي للمواطنين في نيويورك وما حولها يوميًا. وبمساعدة ريسْ يحاول العثور على هؤلاء "الأشخاص محط الاهتمام" ومعرفة ما إذا كانوا الضحية أو الجاني في القضية المعنية.
تلاحق فينش وريس الملازمة الشرطية جوسلين "جوس" كارتر، وتتعقب آثارهما بغية القبض عليهما. ويساعدهما ليونيل فوسكو، وهو ملازم آخر، كان شرطيا مرتشيا سابقًا، فيزودهم بالمعلومات ويراقب لصالحهما زميلته في الشرطة. بيد أن وصول هذين الباحثينْ عن العدالة إلى نيويورك سيزعج أيضًا العديد من المنظمات الإجرامية. وفي بداية كل حلقة جديدة تتكرّر اللازمة التالية على لسان صانع العين الكونية: "نحن نراقبكم. الحكومة لديها جهاز سري عبارة عن آلة. إنها تتجسس عليكم ليلا ونهارا، بلا هوادة. أنا على علم بذلك، لأنني أنا من خلق تلك الآلة. لقد صممتها لمنع أعمال الإرهاب، لكن الآلة ترى كل شيء، كل الجرائم التي يتورط فيها مواطنون عاديون، مثلكم. وهي جرائم لا تولي لها الحكومة أي اهتمام. لذلك، قررتُ أن أتصرف بدلًا منها، لكنني كنت بحاجة إلى شريكٍ، شخصٍ قادر على التدخل في هذا المجال.




نحن مطاردان من السلطات، ونعمل في الظل. لن تعثروا علينا أبدًا، لكنك إن كنت ضحية أو مجرما، وإذا ظهر رقمك سنعثر عليك حتما". فالآلة البصرية العليمة قادرة على ذلك وبسرعة خارقة.
ثمة من الخيال العلمي الكثير مما يغدو واقعا. فنبوءات جول فيرن تأكدت في غالبيتها، كما أن بعض ما كان يعتبر في العديد من أفلام الخيال العلمي وغير العلمي، عند عرضها، بات اليوم حقيقة معروفة.  بيد أن الأهمية التي تكتسيها هذه السلسلة، بالرغم من اعتمادها على مفهوم الفارس العادل، تتبدى بالأساس في أنها نبوئية بالرغم من أنها صورت وبُلورت في بوادر هذه الظاهرة. فالعديد من الأفلام والمسلسلات البوليسية اليوم تعتمد على تكنولوجيا التسجيل السمعي البصري لملاحقة المجرمين والبرهنة، من صور الهواتف النقالة، وصور كاميرات المراقبات الطرقية، وكاميرات المحلات التجارية والبنوك، ويقاطع المحققون فيها بين الصور التي التقطتها لكي يتعرفوا على المعلومات الخاصة بالجريمة ومقترفها. 

أقنعة الصورة وسلطاتها...
بإمكاننا التذكير بأن استخدام الصور في الضبط السياسي والاجتماعي للمعارضين بدأ منذ كومونة باريس. يقول ماكسيم دو كان، متحدثا بعد تلك الأحداث الشهيرة عن ذكرياته منها: "لقد اختفت واجهات بائعي الصور المطبوعة والوراقين وراء عدد هائل من البطاقات الفوتوغرافية التي تمثل أعضاء كومونة باريس والمندوبين والقادة، وبالجملة كافة أعضاء المجلس القيادي للثورة، وهم يلبسون البزّات العسكرية بطريقة غريبة تبدو أحيانا مسليّة. فهم لم يستطيعوا مقاومة الغرور الذي كان يجرفهم؛ وكما لو كانوا ممثلين، كانوا يحبون رؤية نفسهم من جديد في اللباس المبهرج لدورهم الناجح؛ وكان ذلك منهم سلوكا بالغ التهور. لم تكن تلك الصور الفوتوغرافية تبقى كلها بباريس؛ فالعديد منها كانت تأخذ طريق قصر فيرساي وسُخّرت في ما بعد في التعرف على الكثير من المذنبين وعلى العديد ممن كانوا مختفين، والذين كان بإمكانهم أن يفلتوا من قبضة الشرطة لو أنهم لم يبلّغوا بأنفسهم عنهم بالصورة" (ص. 327-328). كما أن الفنان الفرنسي الشهير الفنان غوسطاف كوربي، صاحب اللوحة الشهيرة "أصل العالم"، قد تمت إدانته على مشاركته في تدمير عماد الفاندوم (في أيار/ مايو 1871). وكان الفنان قد أنكر في البداية وجوده في مكان الأحداث، غير أن الصورة الفوتوغرافية التي أخذت له، في حال نشوة وانتصار، أثبتت تورطه فيها. لقد غدت الصورة لأول مرة في التاريخ أداة للتعرف السياسي.
الصورة هوية الشخص. وآلة التصوير التي أصبحت اليوم رقمية صارت لدى الحكومات والدول منذ بداياتها وسيلة للضبط والمراقبة. فبعد أن مأسست الحكومة الاستعمارية الفرنسية بطاقة الهوية في فرنسا، فرضتها فرضا على الجزائريين الذين لم يكونوا قد عرفوا التصوير أبدا. وهكذا كان على النساء تنحية وشاحهن لكي تُلتقط صورة لهن إكراها، مما كان يشكل إهانة مزدوجة الهدف منها خلق جذاذات وبطائق للأهالي الجزائريين. كما أن الشرطة الإنكليزية قامت منذ أواخر القرن التاسع عشر بسنّ سياسة التعرف المنهجي على المعتقلين بواسطة الصورة الفوتوغرافية، وأنشأت لهم ملفات شخصية. فبلوغ نجاعة مُثلى في الفوتوغرافيا الجنائية يتطلب تنظيما واستخداما صارما للإجراءات.
وفي فرنسا غدت بطاقة التعريف الوطنية لازمة تحت نظام فيشي عام 1940 بفرنسا تبعا لأنموذج موحّد. فهي كانت تمكّن سلطات الاحتلال من تسجيل السكان وضبطهم، وهي تكشف عن هوية الشخص وعنوانه، وفي الخلف عن علاماته وبصماته وصورته. والصورة تخضع لمعايير دقيقة في الوِضْعة، لتكون مقروءة بسهولة. فالأشخاص الذي يحملون نظارات، يمكنهم الحفاظ عليها إذا ما كانوا ملزمين بحملها دائما.

لوحة "أصل العالم" للفنان الفرنسي المشهور غوسطاف كوربي (Getty)

وليس من باب المصادفة أبدا أن معايير التقاط صور التعريف بعد أحداث 11 سبتمبر صارت صارمة. فقد مُنعت منها البسمة وارتداء النظارات. وصار التمييز في الخلفية واضحا بين صورة الجواز وصورة البطاقة الوطنية. من ثم فاستخدام الصورة في الضبط والمراقبة والبحث والتقصي، إن كان وليد الحداثة البصرية، فهو لا زال مستمرا إلى اليوم بتقنية التعرف على الهوية من خلال التحليل الرقمي للصورة، كما كان من قبل من خلال "البورتريه روبو"...
إن ما تقوم سلسلة "بيرسون أوف أنترست" بوضع الإصبع عليه ليس سوى مَنْهَجة هذا التاريخ، الذي تتحول فيه الصور ضدنا. فخطورة الصورة، إن كانت تكمن في الخدمات التي توفرها للسلطات، صارت تشكل جزءا من المعطيات التعرُّفية على الشخص، التي تستخدمها المخابر الكبرى للتواصل الاجتماعي والإنترنت من قبيل غوغل وتويتر وفيسبوك وغيرها. يستخدم المتحرشون الصور المنشورة للأطفال للتغرير بهم، لذلك أصبحت القوانين تُسن لمواجهة هذا الخطر. ويلجأ المبتزون إلى الصور الجنسية والعارية الفاحشة للوصول إلى مآربهم. كما أن مصوري الممثلين والفنانين المشاهير، وقناصي الصور، يستخدمونها لفضح الجوانب الخفية من حياتهم...  ولجوء الدولة لتعميم الكاميرات في الشوارع، كما لجوء الخواص لاستعمالها في منازلهم، إن كان الغرض منه المراقبة والحماية، يجعلنا موضوعا مطلقا ومُشاعا للصور. بل وصل الأمر إلى أن العين التي بها ننظر ونصنع الصور أضحت موضوعا للتصوير في المطارات والمختبرات المتقدمة، التي جعلت منها بصمتنا الثانية.
أما القنوات التي تصور الحروب والمآسي، فإنها أصبحت قادرة على إقناعنا بالموقف والموقف المضاد. لذا، إذا كانت الحروب في هذا القرن جهوية، فإن الحرب الكونية الجديدة أضحت بالتأكيد هي... حرب الصور.    

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.