}

السرد البوليسي.. هل هو أحد ركائز الحداثة العربية؟

باسم سليمان 29 سبتمبر 2022

 

ليس الشكل الفنّي لنتاج إبداعي ما، إلّا نتيجة لمجموعة من الأسس، لا تقتصر على عناصره الداخلية فقط، بل تتداخل في إخراج هذا الشكل الإبداعي عوامل خارجية مجتمعية من سياسية وثقافية واقتصادية. وإذا أخذنا السرد القصصي كمثال نجد أنّ أحد العوامل التي دفعت به للواجهة، هو ظهور الصحافة الورقية، فالشكل الفنّي في تحقّقه يتجاوز بناه الخاصة، ليتعاضد مع بُنى خارجة عنه حتى تكتمل مرآويته. وعندما نقترب من السرد البوليسي الذي ابتدأ في منتصف القرن التاسع عشر مع الأميركي إدغار آلان بو نجد معطيات لا تتعلّق بالفن، بالمعنى المباشر، كان لها الدور الحاسم في نشوئه. إنّ البُنى المدنية المعقّدة التي ظهرت في أوروبا نتيجة ولادة الدولة القومية، ومبدأ فصل السلطات، وظهور مؤسسات الشرطة، والتطور العلمي العملي البحثي، كان لها دور فاعل في وجود المحقّق الرسمي أو التحرّي السري، والذي يعتبر عماد السرد البوليسي.

هذا التأصيل التاريخي كثيرًا ما استند إليه في تبرير غياب القصة والرواية البوليسية عن مجتمعات معينة قد عانت من أنظمة شمولية، جعلت من مؤسسة الشرطة أداة قمعية، فلا يمكن تصوّر محقّق كما شرلوك هولمز أو هيركول بوارو يلعب ذلك الدور في تلك المجتمعات. وهذا الوضع لوحظ في بلاد كإسبانيا التي تأخر ظهور الرواية البوليسية فيها إلى ما بعد القضاء على ديكتاتورية فرانكو فيها. كذلك إيطاليا التي منعت السلطات الروايات البوليسية فيها إبّان حكم موسوليني.

عندما نطل على البلاد العربية نرى أنّ الفن الروائي والقصصي قد اشتبك مع الواقع على جميع الأصعدة، إلّا في النمط البوليسي الذي ظلّ صوته خافتًا، بل ويكاد أن يكون معدومًا، حيث جاءت التعليلات من الروائيين والنقّاد بأنّ شمولية أنظمة الحكم العربي وقمعيتها واستخدامها للأجهزة البوليسية لصالحها، واحتكارها حقّ التحقيق والسؤال منعت الجنس الروائي البوليسي من إيجاد أرضية له في مخيال الكاتب إلى جانب القارئ، بالإضافة إلى استمرار النظرة التبخيسية لهذا الجنس والتي سادت في فترة معينة في أرض منشأها الإنكليزي والفرنسي والأميركي، فظل الروائي العربي رهين تلك النظرة التي أكّدها له الناقد الذي ترفّع عن الخوض في التنظير لهذا النمط الروائي. هذا المنظور للرواية البوليسية دُعم بطبيعة المجتمعات العربية، حيث الجريمة فيها ابنة الثأر والانفعال، فلا تخطيط ولا سرّية، بل إنّ المجرم يفاخر بفعلته، مثلما يحدث في جرائم الثأر والعار. ويحيط بكل هذه الظروف أنّ المدينة العربية ما زال لها من طبائع الريف الكثير، فالتعقيد الذي نراه في المدينة الغربية ما زلنا بعيدين عنه، وبالتالي لن تحدث تلك الجرائم التي تحتمل سردية روائية لمقاربتها تخييليًا.  

ينبّه تودوروف إلى خطورة محددات التصنيف مناقشًا ذلك من خلال أنماط الرواية البوليسية من رواية اللغز والسوداء والتشويقية



يحيلنا واقع قلة الإنتاج الأدبي العربي في السرد البوليسي إلى سؤال الحداثة في مجتمعاتنا العربية، وذلك استنادًا لتعريف معجم النقد الأدبي (1) حول مادة الرواية البوليسية بأنّها شكل روائي ظهر في القرن التاسع عشر مع التطور الحضري للمدينة الأوروبية وما رافقه من ظهور مؤسسة الشرطة، وتطور العلم الوضعي وآليات البحث. وعادة ما تطرح لغز جريمة قتل في الأعم الأغلب يجب كشف مرتكبها عبر محقّق ما. وبناء على هذا التعريف وغياب أو قلة الإنتاج السردي البوليسي، نستخلص بأنّ المجتمعات العربية لم تدخل بعد في مرحلة التطور الحضري، كما حدث مع المجتمعات في الغرب! لا ريب أنّ هذا الاستنتاج مجحف بحقّ السرد العربي، فالعناصر المكوّنة للجنس البوليسي وإن لم تتوفر بأثافيها الثلاث من جريمة ومجرم وخاصة المحقّق، لا يعني أنّنا تخلفنا عن هذه المظهر السردي للرواية والقصة، وبأنّنا لا يمكن أن نكتب سردًا بوليسيًّا وفق المعيار القياسي النقدي. إنّ التطور الحضري أو ما سمّي لاحقًا بالحداثة، له أشكال عديدة تنبثق من واقع كل مجتمع، وليس من الضرورة أن تكون استنساخًا للحداثة الغربية. 

يتساءل تودوروف(2) في مقاله "أنماط الرواية البوليسية"، عن أنّ التجنيس التصنيفي يحمل بصمة تبخيسية، لأنّه يحدّد مسبقًا العناصر المكوّنة لنوع روائي ما، وبالتالي يمنع أي محاولة تطوير لهذا الجنس السردي ما دامت محدداته لها صفة القدرية. وهو إذا ينبّه إلى خطورة محددات التصنيف مناقشًا ذلك من خلال أنماط الرواية البوليسية من رواية اللغز والسوداء والتشويقية على ضوء تصنيف الناقد والروائي فان دين الذي وضع عشرين قاعدة حاكمة لتدخل الرواية في النوع الروائي البوليسي، فإنّه يشرح بأنّ ولادة نمط جديد من الرواية البوليسية يتجاوز محددات فان دين، وهذا لا يعني بالضرورة نفي الملمح القديم للجنس البوليسي، لأنّ الاتجاه الجديد، هو بوتقة مختلفة الخصائص، ليس مطلوبًا منه، أن يكون منسجمًا مع القواعد القارة، ولا يعني في الوقت نفسه بأنّ كسر تلك المحدّدات يُخرج الطرح الجديد من الجنس الروائي القار.

تقدِّم "ألف ليلة وليلة" عدّة حكايات لها صفات بوليسية  



إنّ تأملًا في ما قاله تودوروف يوسّع دائرة الجنس السردي البوليسي، وينتشله من عقم التجنيس. وهذا ما نستطيع أن نراه في رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، ورواية "الشيء الآخر، من قتل ليلى الحايك" لغسان كنفاني، لجهة استخدامهما الحبكة البوليسية مع تراخيهما في استنساخ البنية النمطية التي وضحّ مارك ليتس عناصرها (3) قائلًا: إنّ الرواية البوليسية قد بدأت مع إدغار آلان بو، وهي تتألف من جريمة عصيّة على التفسير ومجرم متخفّ، ومحقّق يكشف حيثيات الجريمة عبر استقراء وقائعها واستنباط كيفية حدوثها. إنّ مناقشة تودوروف تهدف إلى كسر تلك البنية التقليدية للرواية البوليسية، فهي وإن ولدت في الغرب ومعطياته، فالمجتمعات البشرية الأخرى لديها معطيات مختلفة لا تتوفّر فيها العناصر المطلوبة في التجنيس، لكن من حقّها أن تكتب روايتها البوليسية الخاصة بمجتمعها.

ولكي نكون على وضوح أكثر فيما ذهب إليه تودروف يأتي الكشف عن الأصول القديمة للسرد البوليسي داعمًا لتوجهه، وخاصة الأصول التراثية في الثقافة العربية. ولأنّنا محكومون بالمستند النقدي الغربي، سنورد رأي بيار براهام الذي جاء في مجلة "أورب" النقدية(3) واعتبر شهرزاد ضحية مطلوبة من قاتل يسمى شهريار تؤجّل موتها يوميّا عبر قصة ترويها. وإن كان لنا أن نوصّف هذا التأجيل لحكم الموت، فلا يمكن أن نجد له مرادفًا حديثًا وخصيصة جوهرية في الرواية البوليسية إلّا التشويق. إنّ التشويق هو المحرّك الخفي الذي قيدت به شهرزاد يد شهريار، وربطت به القارئ الذي لا ينفكّ يخرج من قصة إلى قصة أخرى معها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقدِّم "ألف ليلة وليلة" عدّة حكايات لها صفات بوليسية قياسًا على ما عدّه الناقد بيير بيّار إرهاصات أولى للرواية البوليسية(4)، فقد اعتبر مسرحية "أوديب" لسوفكليس، هي البداية الأولى للرواية البوليسية مع أنّها ليست قياسية وفق ما استقر النقد الغربي على شكل الرواية البوليسية. لم تكن هذه القصص التي جاءت في "ألف ليلة وليلة" مكتملة البنية(5)، لكن فيها الكثير من السرد البوليسي، ففي حكاية التفاحات الثلاث، نلقى أنفسنا أمام الشكل الغالب للقص البوليسي، حيث تُكتشف جثة، فيبدأ التحقيق لكشف الأسباب التي أدّت إلى تلك الجريمة، فعندما وجد الخليفة الرشيد جثة في الصندوق الذي اشتراه من الصياد يأمر وزيره بالبحث عن القاتل. للحقيقة لا نستطيع أن نعتبر جعفر البرمكي محققًا كما شرلوك هولمز، فقد لعبت الأقدار دورًا مهمًا في الكشف عن الجريمة وهذا ما حذّر منه فان دين كتّاب السرد البوليسي، لكنّ تودوروف يخبرنا بأنّ نمط السرد القدري كان شائعًا في الزمن القديم، فتحقّق النبوءات بحقّ الفرسان الباحثين عن الكأس المقدس لا يعتبر ضعفًا في البنية الفنية، بل هو تماه مع البنى الثقافية في ذلك الزمن. في نهاية حكاية التفاحات الثلاث تتكشّف الحقيقة، بأنّ العبد لدى جعفر البرمكي، هو المسبّب في تلك الجريمة. وهذه النقطة التي تُظهر بأنّ المجرم من الدائرة الضيقة للمجني عليه كثيرًا ما استخدمت في الروايات البوليسية الحديثة. أمّا في حكاية اللص والتاجر فيتبع التحقيق سؤال الشهود ومتابعة المجرم حتى يتم القبض عليه. وهذه أيضًا من خصائص الرواية البوليسية الحديثة. وتتجلّى السمة التحقيقية بأبهى صورها في حكاية علي كوجيا الذي يأتمن أحد التجار على جرّة كان قد خبأ فيها ذهبه وغطاه بالزيتون، لكن التاجر الصديق يخون الأمانة ويسرق الذهب، ويضع بدله زيتونًا حديثًا. وعندما يتهمه علي كوجيا بسرقة الذهب ينكر التاجر ذلك، لكن المقارنة بين الزيتون القديم والجديد تفضح مسيء الأمانة.

اعتبر الناقد بيير بيّار مسرحية "أوديب" لسوفكليس البداية الأولى للرواية البوليسية  



قدمت لنا "ألف ليلة وليلة" ثلاث قصص بوليسية من دون وجود التطور الحضري الذي أشار إليه معجم النقد الأدبي! نعم هي قصص لا تخضع للمعيار القياسي الذي وضع للسرد البوليسي الغربي، لكن تلك القصص ابنة بيئتها، وقد منحت قارئها التشويق وممارسة التحقيق لكشف المجرم كما فعلت مسرحية "أوديب" التي ذكرها بيير بيّار.

في رواية أمبرتو إيكو "اسم الوردة" يُندب المحقّق وليام باسكرفيل، الذي كان يعمل في محاكم التفتيش في القرون الوسطى، للتحقيق في وفيات غامضة في أحد الأديرة، يقف وراءها أمين المكتبة الذي لم يكن راغبًا بأن يطلع الرهبان على كتاب فن الشعر لأرسطو وخاصة الجزء المتعلق بالضحك. يعتبر كتاب "فن الشعر" لأرسطو، أول تنظير أدبيّ لفكرة التخييل، نعم كان أمين المكتبة خائفًا من فكرة الضحك وأنّها ستقود إلى قلّة الإيمان، لكن القلق العميق كان من التخييل الذي سيسمح للرهبان بالخروج عن المدونة الرسمية للكنيسة، وتخيّل سير أخرى تنقض الرواية الرسمية. هذه النقطة لا ريب أنّها كانت تدور في ذهن المحقّق باسكرفيل الذي عمل في محاكم التفتيش التي طاردت كلّ محاولة للتخييل، أكانت واقعية أو فكرية وحكمت على من تجرأوا بالموت، لذلك كان لديه معرفة بالدافع العميق الذي يحث أمين المكتبة على تسميم صفحات الكتب التي يخشى منها أن تلوث إيمان الرهبان.

إنّ التخلّف عن كتابة السرد البوليسي بحجّة عدم قيام عناصره، يضعنا في موقع أمين المكتبة في رواية أمبرتو إيكو. إنّ رفض الروائيين والنقّاد خوض هذه المغامرة، يعني أنّهم قد قبلوا بأن يقتل التخييل مع أنّهم أقرب لباسكرفيل، من حيث معرفتهم الحقّة بالعناصر الأساسية للسرد البوليسي، ولذلك يجب الثورة عليها، كما فعل باسكرفيل بجبّ ماضيه، وكشف قاتل الرهبان. إذًا علينا ابتداع سردنا البوليسي المولود ضمن بيئتنا، ولا ننتظر حتى يتحقّق التطوّر الحضري الذي حدث في المدن الغربية لدينا، فالحداثة بقدر ما هي ابنة المدينة الغربية، هي في الوقت نفسه عودة أصيلة إلى بيئة الكاتب الذي يعلم تمام المعرفة بأنّ التخييل لا يقف أبدًا عند معوقات الواقع، بل إنّ تلك المعوقات هي أحد الحوافز التي تجعله يتجاوز واقعه ونفسه، ليصنع حداثته الخاصة به وبمجتمعه.

مصادر:

1- مجلة فصول، العدد 76- 2009، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
2- شعرية النثر، تزفيتان تودوروف، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة – دمشق 2011.
3- الرواية البوليسية، عبد القادر شرشار. منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق 2003.
4- مجلة الجديد، العدد 51 لعام 2019.
5- الرواية الأم، ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية، ماهر البطوطي. مؤسسة هنداوي 2017. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.