}
عروض

"الجماليات": من مُثل أفلاطون إلى مجفّف الشَّعر لدى دوشامب

باسم سليمان

16 مايو 2024


لقد صُكّ مصطلح (إستطيقا/ الجماليات) من قبل الفيلسوف بومجارتن عام 1735، حيث عرّفه بأنّه "العلم بنمط المعرفة الحسّية بالموضوع" بينما حدّده هيغل بـــ:"فلسفة الفنّ". وإذا عُدنا إلى تعريفه بمعجم لالَند (المعجم التاريخي والنقدي للفلسفة) فإنه: "العلم الذي يتخذ من أحكام القيمة التي نميّز بموجبها بين الجميل والقبيح موضوعًا له" فنكتشف أنّ تعاريفه وموضوعاته تختلف وتتنوّع! 

تعود كلمة إستطيقا إلى اليونانية، وهي مشتقة من كلمة (aisthesis) والتي تدل على ملكة وفعل الإدراك الحسّي. وهذا يعني بأنّها تختصّ بمملكة المحسوسات التي تقابل مملكة العقليات. ومن هنا تتساءل الفيلسوفة كارول تالون هيغون (Carole Talon-Hugon) في كتابها "الجماليات" (ترجمة: د. عبد الهادي مفتاح وصدر عن دار 7 عام 2023) أمام هذه التعاريف والمواضيع المختلفة للجماليات؛ هل هي نقد للذوق، أم هي نظرية في الجميل، أم هي علم الإدراك الحسي، أم هي فلسفة الفنّ؟ فتقول بأنّه أمام هذا التضارب بالتعاريف والمعاني تنبثق نقطتان؛ الأولى: بأنّ الجماليات هي بمثابة تفكير بموضوعات تهيمن عليها مصطلحات من قبيل: الجميل والمحسوس والفنّ. ولكن الثيمات الجمالية ليست ثابتة، فمفهوم الذوق والذي اعتبر معيارًا حاكمًا للجماليات في القرن الثامن عشر تم إغفاله فيما بعد. والنقطة الثانية، بأنّ مقاربة الجماليات من خلال مواضيعها وخاصة الفنّ الذي يعتبر مجالًا لعلوم أخرى قد ظهرت في الوقت نفسه – في القرن الثامن عشر- كالنقد الفنّي وتاريخ الفنون وفيما بعد سوسيولوجيا الفنّ، سيضيّق من مجالها. وقد رأى بعض المفكّرين بأنّ هذا الاشتراك مع الجماليات في مواضيعها من قبل علوم أخرى، وخاصة في مجال الفنّ سيؤدي إلى انحلالها.

وبناءً على ما سبق، تقترح هيغون أن تُعدّ الجماليات تخصّصًا فلسفيًا؛ وذلك لتمييزها عن تاريخ النقد وتاريخ الفنّ، وذلك لأنّ الجماليات هي طريقة في المناقشة والحجاج والتحليل.

وإذا كان الفيلسوف بومجارتن قد صكّ المصطلح، فالجماليات سابقة عليه؛ ومن هذا المنطلق يجب إدراج أفكار أفلاطون عن الجميل في محاورته (هيبياس الكبرى) وكتاب (فنّ الشعر) لأرسطو و(تاسوعات) أفلوطين. وتشرح هيغون فكرتها بأنّ (الميتافيزيقا/ ما بعد الطبيعة) هي تسمية أطلقها تلامذة أرسطو على أعماله التي تلت (الفيزيق/ الطبيعة) فأرسطو لم يصكّ مصطلح الميتافيزيق، لكنّ أفكاره هي من أوحت لتلامذته بتلك التسمية. والغاية من تلك المقارنة إذا كان التأريخ لظهور مصطلح الجماليات سهلًا جدًا، فالأمر ليس كذلك لتعيين أولى المحاولات لضم مواضيع الجماليات من المحسوس والجميل والفنّ في تخصّص واحد. وهنا تعود هيغون إلى طرحها بأنّ الجماليات هي مسألة فلسفية نُوقشت عبر الأزمنة، لكنّها لم تمتلك المصطلح إلّا في القرن الثامن عشر، حينما اكتمل الحقل المعرفي لها. والذي يؤكّد ذلك بأنّ كانط صاحب أطروحة (نقد مملكة الحكم) والتي تعتبر من أهم الطروحات في الجماليات لم يستخدم المصطلح إلّا مرة واحدة، مع أنّ كتابه صدر عام 1890 وذلك بعد بومجارتن بالعديد من السنوات.

لكن لنعد لموضوعة التعريفات، يقول باسكال: "بأنّ التعريفات لم توضع إلّا لتعيين الأشياء التي سميناها، لا لتوضّح طبيعتها". وإذا أخذنا نظرة الفيلسوف فيتجنشتاين، فإنّ كلمة جماليات هي "مفهوم مفتوح" أي أنّ معناها هو مجموعة توظيفاتها عبر التاريخ، ومن هذه النقطة تنطلق هيغون!

ما قبل الجماليات

كان أفلاطون من أوائل الفلاسفة الذين قاربوا موضوعة الجميل، ورأى بأنّ الجميل يجب أن يكون نافعًا وخيّرًا؛ وبالتالي أصبح الجمال المفتقد للمنفعة وللخير ليس جميلًا. وبعد ذلك يقرّر أفلاطون على لسان سقراط بأنّ الجميل: "هو ما تكون به الأشياء الجميلة جميلة". ومن ثم يطوّر أفلاطون فكرته مع الفيلسوفة (ديوتيما) في محاورة المأدبة، وبأنّ الجماليات الحسّية هي المنطلق للوصول للجماليات العقلية. وفي النهاية أخرج أفلاطون كل الجماليات الحسّية من دائرة الجميل، حيث الأفكار الخالدة كالحق والخير والحقيقة هي الجميلة فقط. أمّا أفلوطين فقد أدخل الجمال المحسوس إلى دائرة الجميل، لكن استنادًا لأفلاطون واعتبر بأنّ الأفكار المثالية هي من تعطي شكلًا جميلًا للمادة وتنسِّق بين أجزائها، فتجعلها وحدة تامة: "فالكائن الجميل هو الذي تناسبت أجزاؤه وتناسق بعضه مع كلّه... لكونه ارتقى إلى الوحدة... أمّا الكائن القبيح فهو ليس مؤتلفًا في وحدة تامة، لأنّ مادته لم تنصع للأفكار المثالية". ويكمل أفلوطين بأنّ الإنسان يدرك الجماليات عبر صدّه عن المحسوس وإغماض عينه الشحمية عن الرؤية، لتنفتح عينه الباطنية: "فليصر إذًا، كل شيء أولًا مقدسًا وجميلًا، إذا ما أردنا أن نتأمل الله والجميل". وفي العصر الوسيط المسيحي، كان الجمال حقيقة عقلية وبهاء ميتافيزيقيًا وانسجامًا أخلاقيًا. فالجميل في العصر القديم والعصر الوسيط، كما رأينا، لم يكن شيئًا محسوسًا والأشياء المحسوسة لم يكن يقال عنها جميلة إلّا لأنّها انعكاس لعالم المثل.

فكّر القدماء بالفنّ وقد كانت كلمة (الفنّ/ art) تعني لديهم المهارة والدِّقة وتحيل إلى الرسم والنحت بقدر ما تتعلّق بأعمال السكافة والجزارة، فالفنّ لديهم مرتبط بالحرف والمهن ولا شأن للإبداع فيه. وهو وإن كان يحاكي الطبيعة إلّا أنّه أقل شأنًا منها. ولكن هذا لا يعني أنّهم لم يبدعوا أعمالًا فنية رائعة، فكما يقول أندريه مالرو عن فنون النحت والأيقونات في كتابه (تحولات الآلهة): "لقد أبدعها فنانون لم تكن فكرة الفنّ موجودة بالنسبة لهم".

أدان أفلاطون الفنون وخاصة الرسم والشعر، فالنجارة أعلى شأنًا من الرسم، لأنّ النجّار وهو يصنع سريرًا، إنّما يحاكي فكرة السرير، أي نموذجه الأول والأزلي، بينما الرسام عندما يرسم سريرًا فهو يحاكي السرير المحسوس؛ وهذا أبعد عن الحقيقة. أمّا أرسطو فقد خالف معلّمه ورأى بالفنّ نشاطًا يستهدف غاية خارجية لا تتعلّق بالاستعمال والمنفعة. فالمحاكاة لدى أرسطو تسمح بميلاد موضوع جديد، فالتراجيديا توقظ فينا الشعور بالرأفة وبالرعب، إنّها تحيي فينا نوعًا من التطهير. لقد رأى أرسطو بالتراجيديا منافع إيجابية في السياسة وتخليص الناس من انفعالاتهم. لقد كان القدماء يرون بالجميل والفن نقلًا محسوسًا لِما هو حقيقي، لذلك كان على الفلسفة أن تذهب إلى ما هو حقيقي وتهمل الثانوي/ المحسوس. وبما أنّ الجماليات تفكير بالجميل المحسوس والفنّ، فلقد كان التفكير الميتافيزيقي يمنع ولادتها. لكن ما تكلمنا عنه سابقًا يعتبر الإرهاصات الأولى لفلسفة الجماليات التي ستنطلق في القرن الثامن عشر عندما توفّرت الظروف المناسبة.

 ولادة الجماليات

أنتج التطوّر العلمي والمعرفي في القرن الثامن عشر تغييرًا بالكيفية التي يُنظر بها إلى العالم المحسوس، فلم يعد مجرد محاكاة أو انعكاس مشوّه لعالم المثل والأفكار. ومن هذه الرؤية أصبح للمحسوس مجال تفكير خاص به، كان كانط قد نظّر له في كتابه (نقد العقل الخالص). وبناء على ذلك أصبح الجميل المحسوس ليس مجرد خاصية من خاصيات الموضوع ولا انعكاسًا لصدى الفكرة المعقولة عن الجمال؛ بل أصبح كيفية من كيفيات العلاقة التي تنشأ بين الذات والموضوع.

أدان أفلاطون الفنون وخاصة الرسم والشعر، فالنجارة أعلى شأنًا من الرسم (أفلاطون رافعًا يده بريشة الرسام الإيطالي رافاييل، 1511)


لقد صكّ بومجارتن مصطلح إستطيقا في كتابه (تأملات فلسفية في موضوعات لها صلة بماهية القصيدة) حيث اعتبر بومجارتن المحسوس متميزًا بمحتواه وليس شكلًا حسيًا لما هو معقول، وإن كان المحسوس الجميل أقل درجة من المعقول الجمالي، فهذا لا يعني أن يهمله الفيلسوف. وهذا ما نلحظه لدى كانط الذي رفض بداية أن يعتبر الجماليات مبحثًا فلسفيًا، لكنه تراجع عن ذلك في كتابه (نقد ملكة الحكم).

لقد أدّى ما سبق إلى أن تصبح الجماليات خطابًا للفن والجميل والمحسوس. ومن ثم جاءت النزعة الرومانسية التي ذهبت بهذا التصور الفلسفي للجماليات إلى أبعد مدى. لقد أكّدت الرومانسية على أنّ الفن ليس مجرد نشاط منتج أو زينة أو لعب، بل هو معرفة، ومن هنا أصبح الفن النبع الذي تنبثق منه الفلسفة. هذا التصور الرومانسي يأخذ مداه مع هيغل الذي يقصي من الجماليات دلالة المحسوس الذي استمدتها من أصلها اللغوي وتنظير بومجارتن، ويحصرها بالفن، لأنّ الفنّ لديه هو التجلي للروح الكونية، وكأنّ هيغل أعاد للميتافيزيق وجوده، لكن بصياغة أخرى تتفق مع فلسفته.

كما أكّد فيتجنشتاين أنّ الجماليات مفهوم مفتوح على استخدامات الكلمة. يجد الفيلسوف شوبنهاور في كتابه (العالم إرادة وتمثل) بأنّ الكون عبارة عن إرادة تكون عمياء على مستوى المادة، وشبه واعية على مستوى الحيوان، وواعية تمامًا عند الإنسان، ومع ذلك هو محكوم بحتميتها، حيث يساعده الفنّ على الخروج من نهر هذه القوة العمياء للكون وتأمّلها، ممّا يجعله حرًا على الرغم من القدرية التي تسوقه نحو الفناء. إذن فالفنّ عند شوبنهاور خضوع متأمّل لإرادة الكون لكنّه حرّ. أمّا نيتشه فقد أراد من الفنان أن يكون فيلسوفًا، ليكون قادرًا على بث روح التجديد في المجتمع.

على الرغم من اختلاف وجهات نظر المفكرين والفلاسفة الذين نظّروا للجماليات، إلّا أنّ هناك وحدة تجمعهم؛ وهي اعتبارهم للجماليات بأنّها فلسفة الفنّ. وللفنّ بعده الوجودي بوصفه وسيلة لمعرفة من نوع خاص، أسمى من المعرفة العادية. وهذا الأمر يفسّر سرّ انجذاب الفلسفة إلى الفنّ؛ ذلك أنّ الفنّ ينحو نحو الفلسفة والفلسفة تتجه نحو الفنّ كمجال لمعرفة سامية.

الجماليات وتحديات القرن العشرين

عندما ظهرت أساليب الفن الحديثة من الانطباعية إلى السريالية والتكعيبية أصبحت الأساسيات التي يقوم عليها الفنّ عرضة لتساؤلات كثيرة من مثل: ما هو العمل الفنّي، وما هو نوعه وأخيرًا ما هو الفنّ؟ حتى إنّ المفكِّر هارولد روزنبرغ أطلق على هذه المرحلة في بدايات القرن العشرين: "الفنّ دون تعريف". لقد كفّ الجميل أن يكون هاجسًا للفنّ، فمع الرومانسية أصبح القبح حقلًا تهدف الجماليات لاستكشافه. ومع الانطباعية غدا العادي واليومي والمبتذل كلوحة (الأرصفة المبتلّة) لرينوار مقصدًا. هذه المذاهب الفنية الجديدة ذهبت إلى حدّ نزع الجمال عن الجميل وجودته الجمالية ومحسوسيته، فلقد صرح النحّات روبيرت موريس عن بنائه الفني المعدني المسمى (ليتاني) بما يلي: "أشهد أنا الموقّع أسفله روبيرت موريس... بتجريده من خاصيته الجمالية ومحتواه". وقد علّق الرسام دوشامب الذي جعل من (المبولة، ومجرفة الثلج، ومجفّف الشعر) مواضيع فنية، على الذين اعتبروا بأنّه يُظهر البعد الجمالي في الأشياء التي يقال عنها سخيفة وبلا معنى، بأنّ هذه الأشياء قد أوحت له بالعكس، أي إخراجها من دائرة الجميل والمعنى، ولكنّها أعمال فنيّة.

ذهب الفيلسوف والتر بنيامين في كتابه (العمل الفنّي في عصر استنساخه التقني) إلى أنّ تسجيل الموسيقى على أسطوانات ونسخ اللوحات العظيمة في صور أدّى إلى شيوع العمل الفني ونزع القداسة عنه، فالتأمّل والاهتمام الجاد، الذي كان العمل الفني يحظى به في الماضي، قد تحوّل إلى اهتمام مشوب بالاسترخاء، ممّا أدّى إلى فقدان الهالة التي كان يُحاط بها العمل الفني. أمّا تيودور أدورنو من مدرسة فرانكفورت النقدية فقد لحظ أنّ الفنّ والجميل والمحسوس قد سُيطر عليهم من قبل الرأسمالية، فلم يعد يهم الإبداع بقدر العرض؛ ما دامت السوق هي الحاكم. لذلك كان يرى بأنّ للفن دورًا نقديًا يجب أن يقوم به.

لقد رُبطت الجماليات بالمثل الأفلاطونية، وبالمقدس، ومن ثم باليومي والعابر إلى اللامعنى. وهذه كلها حقول تستكشفها الجماليات في تحليلها ونقدها وفي تطلّعها إلى عالم يسوده الجميل. وبعد أن قدّمت هيغون في كتابها عرضًا تحليليًا للجماليات، من لحظة صكّ المصطلح، إلى الإرهاصات الأولى في العصر اليوناني، إلى أن استبعدت الجماليات أهم ما يميز الفن وخاصة ارتباطه بالجميل والمحسوس من حقل الجماليات؛ تتساءل في نهاية كتابها عن مستقبل الجماليات، استنادًا إلى مقولة والتر بنيامين: "إنّ اختلاف الأشكال التي اتخذتها المجتمعات الإنسانية عبر المراحل التاريخية الكبرى، قد كان مصحوبًا كذلك بتحوّل في كيفية إحساسها وإدراكها" تاركةً الجواب معلّقًا ومفتوحًا على المستقبل، وما يطرحه من أنواع عديدة للواقع وللجماليات التي تحايثه، أسواء كان الأمر في الواقع الحقيقي، أم في الواقع المعزّز، أم في الافتراضي؟

*كاتب سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.