}

آنَّا أخماتوفا.. توفيت يوم وفاة ستالين فاعترفت بها روسيا

استعادات آنَّا أخماتوفا.. توفيت يوم وفاة ستالين فاعترفت بها روسيا
آخماتوفا بخطوط موديلياني في متحف الشاعرة بسان بطرسبرغ (1911/Getty)
يحيي الوسط الأدبي الروسي هذه الأيام الذكرى الـ 130 لولادة الشاعرة آنَا أخماتوفا (*) (23 حزيران/ يونيو 1889 – 5 مارس/ آذار 1966)، من أشهر أعلام الأدب الروسي في القرن العشرين، والتي رشِحت مرتين لنيل جائزة نوبل للآداب عامي 1965، و1966.
منذ عشرينيات القرن العشرين، حازت أخماتوفا على اعتراف الوسط الأدبي بكونها كلاسيكية الشعر الروسي، لكنّها خضعت للرقابة والتجاهل الرسمي، بحيث لم تنشر العديد من مؤلفاتها في بلدها حتى بعد مرور عقدين على وفاتها. وعلى الرغم من ذلك، أحيط شعرها بتمجيد وتقدير مواطنيها الروس من محبي الشعر داخل الاتحاد السوفياتي (السابق) وفي المهجر.
في عام 1911، سافرت آنّا أخماتوفا ذات العشرين ربيعاً ونيِّف إلى أوروبا لتكون شاهدةً على أول انتصار للباليه الروسي، ومن ثمّ ذهبت إلى إيطاليا، حيث الهندسة المعمارية المذهلة، ومجموعات الفنّ الرائعة، الأمر الذي شكَّل حافزاّ قوياً دفع الفتاة الشابّة لتكشف مواهبها الإبداعية. سبق لزوجها، نيقولاي غوميلوف الذي كان على رأس التيار الأدبي الجديد (أكمييزم -acmeism)(**)، أن
. وأصبح صدور أيٍّ من كتبها حدثاً في حدّ ذاته.
يتذكر كوني جوكوفسكي كيف كان الطلبة يحفظون أشعارها، وكيف نقلت هذه الأشعار إلى ألبوماتٍ، وكيف كان العشاق يعبرون عن مشاعرهم بأبياتٍ منها.

أجل، كانت روسيا تردِّد أشعاراً من قصيدتها "أغنية اللقاء الأخير":

... ارتجف الفؤاد بلا حولٍ،
أمّا خطواتي فبقيت رشيقة؛
بحيث وضعت يدي اليمنى
في قفاز اليد اليسرى.

كانت أشعار الحبّ والغزل تعيد لأخماتوفا روحها الحقيقية النابضة بالحياة، محافظةً في الوقت نفسه على جمالها الشعري الرفيع. وحدها المواهب الكبيرة فقط تتسم بهذا التناغم. مع كلّ قصيدةٍ من قصائد أخماتوفا يرتقي الحبّ إلى ذرىً روحية عالية:

بندى الأعشاب الطرية
أنعش روحي ببعض الأنباء -
ليس شغفاً، ولا لهواً
بل لأجل حبٍّ دنيويّ عظيم.

أدرك شاعر ثورة أكتوبر مايكوفسكي ما رمت إليه أخماتوفا.... ولكنه مع اشتداد وتيرة الجدل الأدبي، وبشكلٍ فاجأ الكثيرين، راح يتحدث عنها بسخرية. ولأنّه كان ذا أهميةٍ بالنسبة للسلطات السوفياتية، فقد أزاح أخماتوفا من المشهد الأدبي ولفترةٍ طويلة. وهكذا، لم يمهد القدر لها

الطريق، بل ووضع على دربها أيضاً كلّ أنواع الأشواك البرية.
يتذكر الرسام يوري آنينكوف أنّ الحزن كان التعبير الوحيد على وجهها خلال تلك السنوات. واستمرت الحياة ثقيلةّ عليها. في عام 1921، أُعدم زوجها نيقولاي غوميلوف بعد إلصاق تهمةٍ مستعجلة به، الأمر الذي كان عادياً في تلك الأيام.

حكم عليك ألا تكون بين الأحياء،
وألا تنهض واقفاً من الثلج.
ثمانية وعشرون من حملة البنادق،
وخمسة رماة.
أرض روسيا
تحبّ الدماء، تحبّها.

الأمر الآخر الذي عانت منه الشاعرة، والذي لم يكن أقلّ قسوة عليها، كان خلافها المستمر مع ابنها ليف غوميلوف. فقد كان قلب الشاعرة يعتصره ألم دائم نتيجة استمرار النقد الدائم لها، والإشاعات التي كانت تمسّ حياتها الشخصية من جهة، والقطيعة - شبه الدائمة - مع الوالدة، بما في ذلك، بسبب الاعتقال المتكرر له، وعتبه المفهوم على أمّه منذ كان يافعاً - من جانبٍ آخر.
عانت أخماتوفا من موقف السلطات الديكتاتوري من الأدب، حتى بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية: إذ استمر حظر نشر أشعارها، وتم فصلها من اتحاد الكتاب السوفيات بحجة أن شِعرها "مستنقع أدبيٌّ مجرد من المبادئ". وفي تلك الفترة، كان يعتبر تمسك المرء بذاته والإخلاص لفنّه بمثابة جريمة ضدّ الوطن. هذه الظروف بالغة الصعوبة، أجبرت أخماتوفا على الانزواء والصمت. بيد أنّ أشعارها اجتاحت قلوب الناس بطرقٍ غير مفهومة، لترى النور على صفحات الصحف. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى ما قاله الشاعر الكبير دافيد صموئيلوف بحق آنّا أخماتوفا:

"التقيت أخماتوفا وهي في القمّة. فبعد تسريحي من الجيش، ذهبت لحضور أمسيةٍ أدبية في قاعة الأعمدة في مقر الاتحادات. تناوب على المنصة العديد من الشعراء، غير أنّ القاعة كانت

تتطلع بلهفة إلى ظهور أخماتوفا! رأيت امرأة مسنّةً وخط الشيب شعرها، ترتدي فستاناً أسود، وعلى كتفها شالٌ أبيض. ألقت أشعارها بتؤدة وبفخامة، وكأنّها تحمل مسؤولية كلّ كلمة تنطقها. قابلتها القاعة وقوفاً بتصفيقٍ طويل وحارّ. نُقلت الصورة إلى ستالين الذي سأل: من نظّم الوقوف للتصفيق؟..".
على الفور بدأت حملةٌ على وسائل الإعلام المقروء للنيل من الشاعرة. وقد جرت العادة تلك الأيام أن تنتهي مثل هذه الحملات بموت المستهدف. ولكن ذلك لم يحدث. وبعد مرور عقدٍ من الزمن، حلّ زمن "الدفء" (زمن خروشوف). وشهدت آنّا أخماتوفا من جديد موجة مجدٍ حقيقية: منحت ميدالية الأدب في إيطاليا، ومنحتها جامعة أكسفورد البريطانية دكتوراة شرف.


أميرة الشعر العظيمة
يتحدث الكاتب والصحافي الألماني هانس ريختر الذي حضر حفل تسليم الميدالية في إيطاليا بالقول:
"- آنّا أخماتوفا هنا،- تناهت إلى مسامعي عباراتٌ في الفندق حيث كنت أقيم..... نعم، هنا كانت تجلس روسيا نفسها - وسط الحديقة  الصقلية - الدومينيكية. كانت روسيا تجلس على كرسي حديقة أبيض، وخلفها أعمدة رواق الكنيسة. هناك، كانت أميرة الشعر العظيمة تستقبل جمهور الشعراء في قصرها. كان يقف أمامها شعراء من جميع بلدان أوروبا - من غربها إلى شرقها. شعراء صغار وشعراء عاديون مع عظماء الشعراء، شعراء شبّان وكهول من مختلف المشارب، ليبراليون، محافظون واشتراكيون: كانوا يقفون في صفٍّ طويل امتد على طول الرواق. كانوا يقتربون واحداً بعد الآخر، ينحنون ليقبلوا يد آنّا أخماتوفا. وأنا بدوري انضممت إليهم. كانت تجلس وتمدّ يدها، يقترب الشعراء واحداً بعد الآخر، يحنون رؤوسهم تقديراً للأميرة، التي كانت تردّ التحية عليهم بإيماءة رقيقة. كان الكثير منهم يبتعدون وقد احمرت وجناتهم بقوة: لقد أدّى كلّ منهم هذا الطقس على طريقة بلاده: الإيطاليون - بصورةٍ فاتنة، الإسبان - بعظمة، البلغار - بورعٍ، الإنكليز - بهدوء، أمّا الروس فوحدهم من كان يعرف ما كانت أخماتوفا تنتظره. فقد كانوا في حضرة قيصرتهم، فهل كانوا يحنون ركبهم ليقبلوا الأرض. بالطبع لم يفعلوا ذلك، ولكنهم بدوا وكأنّهم كذلك. وعندما كانوا يقبلون يد أخماتوفا، بدوا وكأنّهم يقبلون تراب روسيا، وتقاليد تاريخهم وعظمة أدبهم....
وعندما دخلت أخيراّ القاعة، نهض الجميع من مقاعدهم. وأفسحوا لها الطريق لتمرّ بين الأكف

الملتهبة بالتصفيق، مرّت دون أن تلتفت، مرفوعة الرأس، دون ابتسامة، ودون أيّ تعبير عن الرضى، السعادة، أو الزهوّ. توجهت لتأخذ مقعدها على منصّة الرئاسة.
بعد خطابٍ إيطاليٍّ حماسيّ حانت اللحظة العظيمة.
قرأت باللغة الروسية بصوتٍ بدا وكأنّه ينذر بعاصفةٍ بعيدة، ولم يكن مفهوماً ما إذا كانت العاصفة تبتعد، أو أنّها تقترب. لم يكن في صوتها الهادر مكان للنبرات العالية. كانت القصيدة الأولى قصيرة، وقصيرة جداً. وما إن انتهت منها حتى ثارت عاصفةٌ من التصفيق، مع أنّه باستثناء بعض الروس، لم يكن أحد ليفهم كلمةً مما قالته.... كان الجميع يصفقون بانفعال: لم يهدأ التصفيق إلا بعد مدةٍ طويلة......".
لدى كلّ إنسانٍ يجيد الإصغاء وتمييز الشعر الحقيقي من المصطنع قصة حبٍّ خاصة به نحو أخماتوفا. وأنا، بصفتي عضواً في نادي "كيروف" الثقافي، حصلت على هدية من النادي بمناسبة عيد ميلادي. كانت الهدية مجموعة أشعار آنّا أخماتوفا بعنوان "هرولة الزمن". كانت أول أبيات الكتاب مذهلةً حقاً بالنسبة لي:

تعزف الأوركسترا بمرح
وتبتسم الشفاه.
غير أنّ القلب يعرف، القلب يعرف
أنّ المنزل الصغير الخامس فارغ!

وهكذا أدركتُ أنّه بإمكان أربعة أسطرٍ من الشعر أن تعبر عن رواية كاملة - من حيث عمق المشاعر والحماس. وهذا يعني أنّ الشعر ليس مجرد سطورٍ موزونة حول موضوعٍ ما، - إنّه كلمات، ولدتها الروح واللغة الروسية الساحرة، لأنّ الشاعر الحقيقي يستطيع عبر كلماتٍ بسيطة أن ينير ويأسر قلب الإنسان، القادر على أن يستجيب لنداء هذا الضوء السعيد......
من سخرية القدر أن تموت آنا أخماتوفا في 5 آذار/ مارس، في نفس اليوم الذي مات فيه ستالين.
فقط في عام 1966، وبعد أن اعترفت بها بلادها، رأت النور غالبية مؤلفاتها.
رغم كل معاناة آنا أخماتوفا، بقي حبّها لروسيا هو الأقوى والأهمّ في قلب الشاعرة:

أيتها السنوات المريرة ابتليني بالعلل، الضيق، الأرق، والحمى،
اسلبيني الولد والصديق، اسلبيني هبة الغناء الغامضة ـ
هكذا أصلي من أجل قداسك ـ، بعد كلّ هذه الأيام المتعبة،
لكي تغدو الغيمة السوداء القابعة فوق روسيا المظلمة سحابةً بيضاء في أشعة المجد.


"لا يخيف الموت بالرصاص"
دفنت قيصرة الشعر الروسي الحقيقية قرب سانت بطرسبرغ في "كاماروفا" التي أحبّت الشاعرة، وحيث عاشت فترة طويلة وأبدعت فيها. على ضريحها هناك أزهار دائمة- رمز الحب والتقدير الصادق للموهبة وللقدر المأساوي لهذه المرأة الحكيمة والاستثنائية الموهوبة، التي تركت لنا وصيتها في هذه الأبيات:

لا يخيف الموت بالرصاص،
وليس مريراً البقاء بلا مأوى،
وسنحافظ عليك لغتنا الروسية،
وسنحافظ على الكلمة الروسية.
نقيةً وحرّة سنحملك
ولأحفادنا سنهبك، ومن الأسر سنطلق سراحك
وإلى الأبد!

*****

(*) العنوان الأصلي للمقال: Цена признания (ثمن الاعتراف).
(**) أكمييزم (Acmeism) – تيار تحديث في الأدب الروسي ظهر في بداية القرن العشرين. وأصله من اللاتينية (acme): أعلى درجات شيء ما، الازدهار، عصر الازدهار.

*****

عن صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا) الأدبية – 23 حزيران/يونيو 2019.

رابط المقال: http://lgz.ru/online/tsena-priznaniya

*****

ترجمها عن الروسية: سمير رمان.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.