}

شَعرَنة الخصوبة في فيلم "صندوق الدنيا"

ريبر يوسف 15 مايو 2018
السينما الشعرية

إذا ما أمعنّا النظر في أغلب المواد المدوّنة بالعربية حول الشعرية في السينما، نلحظ تلك الفكرة المستعصية على قراءة الشكل السينمائي ذاك، والذي ولج القيمة الثقافية في الشرق عبر مصطلح أجنبي تم تفكيكه وتحليله على النحو المغاير للذي صنعه مخرجون عالميون كانوا على أهبة الإيمان التام بماهية الشعرية، واشتغلوا على منحى كان متداولاً طوال عقود بأنّ الشعر خاصّ اللغة وحسب، ما دفعهم إلى كسر ذاك القانون الذي كان متيناً نوعاً ما، القانون – خاصِّ، عناد المجتمع العام والشامل تجاه فكرة دخلت ذهنه وتحوّلت فيما بعد إلى موروث شعبي لا محال.

من خلال الحديث عن الشعرية في السينما، يذهب خيال الناقد في الشرق صوب عملية بناء القصيدة داخل الفيلم، تركيبة الحوارات وصياغة الفكرة العامة من منظور القصيدة الشعرية وليس الشعرية كما طرحها المخرج الفرنسي جان كوكتو عبرَ فيلمه "دم شاعر"؛ أي، عملية بناء الصورة السينمائية من خلال المنظور الشعري، بكلّ الأحوال، هو مصطلح يحوم حول أفق ماهية الصورة السينمائية وليس الحوار المتداول في هيئة قصيدة والسياق العام للعمل.

اشتغل في الشرق العديد من المخرجين على فكرة الشعرية في السينما، بالتأكيد ليست تلك التي تتحدث عن الشعر مثلاً كما تداول في فيلم "الشعر" للمخرج الكوري الجنوبي (لي شانغ دونغ) والذي كان بأكمله حول الشعر، إلا أنّه لم يدخل ضمن الأطر التي تبنته السينما الشعرية والتي بدورها وصلت الشرق من خلال المخرج الكردي التركي (يلماز غوناي) بفيلمه "YOL " (الطريق)، والذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي سنة 1982 مناصفة مع فيلم "مفقود" للمخرج اليوناني (كوستا غافراس)، ومن ثم وصل حيث أعمال ضخمة لمخرجين إيرانيين أمثال (عباس كيارستمي، سميرة مخملباف، محسن مخملباف ومجيد مجيدي) وغيرهم.

لم تلق السينما الشعريّة الأهمية تلك، بل يمكن الحديث بأنّها تكاد معدومة في العالم العربي باستثناء فيلم "صندوق الدنيا" للمخرج السوري (أسامة محمد)، ومحاولة خجولة للمخرج الفلسطيني (إيليا سليمان)، عبر فيلمه "يد إلهية"، والذي كاد أن يكون فيلما حاملاً سياق الشعرية في السينما لولا تبنيه ومآثرته الخطاب السياسي على تركيبة الصورة السينمائية، سقط المخرج الكردي العراقي (هنر سليم) في الفخ ذاته من خلال فيلمه "كيلو متر زيرو" رغم أهميته كفيلم سينمائي عام أسوةً بـ "يد إلهية".

إذاً، توقف مفهوم السينما الشعرية على حدود العالم العربي ولم يدخله، قد تكون ثمة أسباب لا متناهية دفعت الأحداث لتسير على هذا النحو، وهو الاضطراب السياسيّ داخل نظم الدول العربية، وسلطة الديكتاتوريات والتغييرات الاجتماعية المتسارعة وغير المنضبطة إثر الرقابات اللامتناهية على الشعوب هناك، وتبنّي معظم الأنظمة العربية لسياق ثقافتين لا ثالث لهما هما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، ما أدى إلى صياغات متعدّدة تخصّ عملية بناء سينما السلطة من جهة والاتكاء على الكوميديا من جهة أخرى.

في هذه المادة، سأتحدّث ومن خلال جانبي الشعريّة والتقنيّة عن فيلم "صندوق الدنيا" للمخرج السوري (أسامة محمد)، كونه الفيلم العربي الوحيد الذي تبنّى سياق السينما الشعرية، بكلّ تأكيد، لم يدخل هذا الفيلم دوامة التأثّر بالسينما الشعريّة الإيرانية، إذ استطاع المخرج في سنة 2002 إنجاز فيلم مستند على مفهوم القيمة الشعرية في صياغة المكان والزمان والحدث والصورة والمتيافيزيقيا في بيت طيني منعَزِل مفتوح مثل كتاب على ركبة الريح المطلّة على مكان بعيد ومجهول في سورية.

 

 

شَعرَنة الحكاية

خرجَ فيلم صندوق الدنيا على معادلة بناء الصيغة العامة لتقنية بناء الحدث داخل الفيلم السينمائي؛ أي لم يدخل حيث الشكل المتداول عملياً، والذي تعتمده عادةً حالة بناء الحكاية، شفاهية كانت أم مكتوبة ومصوّرة، لا سيّما أنّ الفيلم لا يمكن قراءته عبر القيمة والموروث الذهني الذي يمتلكه المتلقي، والذي بكلّ الأحوال يخصّ الصورة المعروفة والمنجزة التي تخصّ شكل الحكاية. خلل فيلم صدوق الدنيا، اعتمد المخرج أسامة محمد على تقنية علمية لقراءة الحكاية العامة للفيلم، إذ قام بفصل الأحداث العامة وتقسيمها إلى صور شعرية غير مترابطة لحظتها، إلا أنّنا وكلما ابتعدنا في الزمن الفيزيائي داخل الفيلم نصبح ذوي قدرة عالية على عملية بناء وصياغة الفكرة العامة وشكل وبنية الحكاية.

تكمن أهميّة الخلاصة هذه التي اشتغلَ عليها المخرج في استدراج التقنية العلمية التي أسّست قديما في شكل لوحة الفسيفساء، والتي تعتبر أقدم أنواع التصوير حسب العديد من المراجع؛ أي عمليّة تفكيك الصورة العامة وتحويلها إلى قطع صغيرة، أو بناء الصورة العامة من خلال قطع صغيرة توضع كلّ منها في مكانها لتشكّل فيما بعد الصورة النهائية. القطع الصغيرة في فيلم صندوق الدنيا هي الصور الشعرية المكثّفة والمنفصلة عن بعضها بعضاً؛ أي بما معناه، أن ثمة زمنا نفسيا أثناء مراقبة الصورة العامة للفيلم وهو تماماً شبيه بوقوف أحدهم أمام لوحة فسيفساء جدارية على بعد نصف متر، كلّما ابتعد المتلقي عن اللوحة تلك كلما حصل على الصورة النهائية التي تصنعها تلك المكعبات الصغيرة. ثمة تقنية تخصّ القيمة العلمية للكاميرا السينمائية أيضاً، كما لو أنّ الكاميرا ثابتة مسلّطة على مشهد عام، في كلّ لحظة تُفتَح حدة الكاميرا على جزء من المشهد، لنحصل فيما بعد على الصورة العامة حادة واضحة.

لا تسلسل زمنيّا واضح المعالم داخل الفيلم، فكلّ تفصيل مبنيّ على فكرة الخروج من وعلى قيمة الزمن التي يعتمدها المتلقّي إذ يداوم من خلال فعل التمعّن على قراءة الشكل الذي يرى فيه.

 


شَعرَنة الانتقال

يمكن القول بأنّ عملية الانتقال من مشهد إلى آخر، أو من صورة إلى ثانية داخل فيلم صندوق الدنيا، لم يعتمد تقنية القطع المتداولة في السينما عالمياً، إذ إنّ عملية الانتقال تلك خرجت من وصفها فصلاً زمنياً يساهم في تفكيك وتجزئة الحدث ليقرأ فيما بعد من خلال أزمنة متعددة، والتي يستخدمها بكل الأحوال الروائيون والمخرجون حول العالم في هيئة الزمنية داخل العمل. في فيلم صندوق الدنيا أخذت عملية القطع والانتقال منحى آخر مغاير لما هو متعارف عليه، إذ أنّ عنصر الانتقال ذاك لم يكن فصل الكاميرا عن المشهد وإعادتها إلى العمل في مشهد آخر.

تحولت الكاميرا من فاعل يرصد الحدث إلى متلقٍّ يرى في الحدث، الأمر الذي يجعلنا في مرمى مشاهَد حيّة، كما لو أنّ الوهلة هذه تحدث أمامنا أو أنّ المتلقي جزء من الفيلم وليس مراقباً خارجياً له، حدث هذا إذ غيّر المخرج وظيفة الكاميرا العلمية وتقنية الانتقال السينمائي التي تخصّ عملية القطع عادةً، الكاميرا كانت ثابتة على الصورة الواحدة، كان يُفتَتَح المشهد داخل الفيلم عبر حركة باب يظهر في حقل الكاميرا تماماً في النقطة الرئيسية لمعادلة التقطيع الذهبي للصورة، إذاً، أخذت الأبواب داخل فيلم صندوق الدنيا دور عملية الانتقال من حدث إلى آخر، الأمر الذي جعل كافة مشاهد وصور الفيلم تظّاهر وكأنّها تدور خلف أبواب نرى الأحداث وراءها إذا ما انفتحت، ننتقل إلى حدث مغاير ما أن انغلق الباب ذاك بطريقة ما، في أغلب المشاهد كانت الأبواب تلك تُغلق وتنفتح من تلقاء نفسها؛ أي أنّ المخرج لم يأخذ شكل الباب على أنّه جزء من عملية بناء التمثيلية داخل الفيلم، إنّما وضع الباب الموسوم بالشكل أمام رؤية باطنية له، الفاعل، أو فاتح الأبواب كان لامرئياً في أغلب المشاهد، ما أدى إلى تغيير صورة الباب داخل ذهن المتلقي من قيمته المادية إلى قيمته النفسية. كانت الأبواب داخل الفيلم هي الأبواب السرّية الخفية التي تظهر في نفس المتلقي الذي يرى في نفسه وحسب.

حوّر المخرج مفهوم الباب داخل الفيلم، لا سيّما أنّه كان العنصر الرئيس لقراءة الصورة من منظرها التقني والنفسي على الاطلاق، كانت الصورة الباطنية للمشد تظهر وتدخل حقل المشهد عبر الباب؛ أي كانت الأحداث الفرعية والتي تشبه القراءة الباطنية للصورة الصريحة الواقعية تبدو من خلال الأبواب. بطريقة أخرى مثلاً، كان شكل الباب العام وخاصيّته تختلف من مشهد لآخر، العملية التي ساهمت بإدخال الأبواب داخل قيمتها التي تساهم بقراءة الحدث وحسب.

 

 

شَعرَنة المرايا

ثمة حركة حبيسة معقّدة تخصّ بناء القانون الثابت الذي يخصّ الانتقال البصري عبر الكاميرا المسلّطة على (الفيغور) الواحد، ذاك القانون الصارم الذي لا هوادة فيه لحظة قراءة أيّ فيلم سينمائي بشكل علمي؛ أي تلك العملية التي تخصّ تجزئة (الفيغور) داخل المشهد عبر ثلاث صور على الأقلّ، وهي (صورة بعيدة، متوسطة، قريبة) أو العكس حسب القيمة الجمالية التي يرى فيها المخرج عادةً والتي تخص النقطة الرئيسية والمحورية في الصورة.

خرج المخرج بطريقة ما على الميكانيكية تلك التي تستوجب صياغة الصورة الواحدة عبر لقطات مختلفة، الكاميرا داخل فيلم صندوق الدنيا كسولة، بل يمكن وصفها بالمتقدّمة في السنّ، التي ترى في السكون شرارة لامتناهية لقراءة الصورة بحكمة فريدة، ثمة سجنٌ لامرئي يسير في ذهن المتلقي أثناء مراقبة حركة الكاميرا داخل الفيلم، كأنّ هناك مساحة معينة تخصّ حركة الكاميرا في أغلب المشاهد، إلى الحدّ الذي يرى فيه المتلقي نفسه كما لو أنّه أسير المكان الواحد، ثمة قراءات عديدة تخصّ ذاك المكوث الطويل داخل المكان الواحد عبر المشاهد الثابتة في أغلب الفيلم، ما يجعلنا نقدم على قراءة الفيلم عبر منظور مسرحي وليس فقط سينمائي، كما لو أنّك جالس تحوم حولك الأحداث والصور المسجونة عبر كاميرا قليلة الحركة.

اعتمد مخرجون كثيرون على تقنية الكاميرا الثابتة، إلا أنّ أسامة محمد يسعى في سبيل صناعة الزمن البطيء عبر كامرته داخل فيلم صندوق الدنيا، الكاميرا ليست على النحو الذي اشتغل عليه كلّ مَن آمن بفكرة اللاجدوى من الحركة.

خلل الفيلم، أخذت المرايا دور الممثل الآخر، اللامرئي، أو أداة جديدة لقراءة المشهد الواحد عبر كاميرا ثابتة، لا سيّما أنّ العديد من الشخصيات كانت تظهر خلال المرايا الثابتة والمعلّقة في ركن ما داخل الغرفة، كانت عملية ظهور تلك الشخصيات عبر المرايا جزءا من الحدث؛ أي أنّ المرايا أخذت دور تلك الصورة الباطنية التي تساهم في قراءة الحدث بطرق عديدة، يمكن وصفها – المرايا، على نحو نفسي؛ أي أنّها الخطاب الداخلي - المونولوج في اللقطة الواحدة. عملية توظيف المرايا خلل الفيلم كسرت بطريقة ما تلك النمطية المتعلّقة بعملية انتقال الكاميرا من زاوية إلى أخرى؛ أي أنّنا ثابتون بينما الزوايا تنتقل أماما عبر الأحداث التي أظهرتها المرايا تلك، الثابتة، والتي أخذت دور عملية التصوّف في قراءة الأحداث، وقراءة الشخصية داخل المشهد، يمكن وصفها بأنّها كانت الرقيب الذي يرى في كل خطب يحوم حولنا، الرقيب الديني الاجتماعي، السياسيّ والنفسيّ. كما لو كانت المرايا تلك حفراً عميقة داخل الصورة، أو بئراً يفتح أذهاننا على عوالم سرّية ليس في مقدورنا ولوجها أبداً.

 

 

شَعرَنة الحب والخطيئة

استند فيلم (صندوق الدنيا)، من منظوره الفلسفي، على مجموعة أطفال كانوا في مثابة بذرة السؤال الوجودي العميق الذي يخصّ كافة الأسئلة المتمحورة والسيّارة حول فلك وماهية الوجود المعقّدة، ماهيات لا متناهية مثل (الدين، الحب، الخطيئة، السعادة وغيرها)، كان الأطفال خلل الفيلم هم بذور الأسئلة اللامتناهية بينما الكبار أخذوا دور الأجوبة البشرية المنتمية إلى قوانين ثابتة وصارمة منتمية إلى موروث دينيّ وأخلاقيّ ونفسيّ.

- عبر رسائل إلى الله لأطفال مدرسة أميركية كانت المعلّمة قد طلبت منهم كتابتها في الكريسماس وترجمتها الشاعرة والمترجمة المصرية (فاطمة ناعوت) سنة 2008 - يظهر ذاك الخليط السحريُّ ما بين العفويّ والفلسفيّ الذي يفتح نافذة السؤال الشاقّ خلل النفس البشرية عموماً، من إحدى الرسائل تلك والتي تعود للطفل (لاكي): "عزيزي الله، هل أنت فعلا غير مرئي، أم أنّ هذه حيلة أو لعبة؟".

خلل فيلم (صندوق الدنيا) ثمة محاور لامتناهية تفتق بذرة السؤال عن الوجود عبر صور شعرية وأسئلة طفولية لامتناهية، على عكس الفيلم الذي صنعه المخرج الإيراني مجيد مجيدي تحت عنوان "سوف يأتي الله" والذي تمحور حول فكرة الخير والشر من منظوره الديني وحسب.

إذاً، من خلال صور شعرية استطاع المخرج السوري أسامة محمد الإطاحة بكمّ هائل من الأجوبة البشرية المنجزة، الأسئلة التي تخصّ الوجود من أغلب جوانبه.

اشتغل المخرج على فكرة الصياغات المفتوحة التي تنتج النتيجة عينها والمفتوحة على أسئلة عديدة في ذات اللحظة، إذ إنّه زرع بذرة الحبّ بين طفل وطفلة من خلال الصورة الباطنية والروحية للقمح، تلك التي ترمز أبداً إلى الاستمرارية أو الخير، وذلك من خلال مشهد عودة الطفل والطفلة من المطحنة ممتطين ظهر حمار مع كيس ممتلئ بالطحين، تنفخ الطفلة في الطحين على وجه الطفل فيفعل الطفل المثل، يعاودان الكرّة إلى أن تتسارع أنفاسهما وتحلّق ذرّات الطحين مثل أجنحة لامرئية في السماء حولهما، تضع الطفلة رأسها على كتف الطفل فينفخ الروح في النمش على وجه الطفلة ويسير ليغمر كتف الطفل، تحوّل الطحين والنمش إلى تلك البذرة البريئة والسرّية التي تفتقت في روحيهما حول سؤال الخصوبة، في اللحظة ذاتها يشاهد المتلقّي نقاطاً سوداء تظهر في هيئة شوارب على وجه الطفل الذي قبض على السؤال داخل نفسه عبر مشهد رمزي بريء، بينما يسير الحمار بِهما بين حقول القمح الصفراء والمتأهبة للحصاد على مرمى تلك القرية البعيدة.

من خلال الرمزية عينها، يطرح المخرج سؤال الخطيئة عبر حوار بين الطفلة والطفل ذاتهما عندما يلج الأخير غرفة الجدّ المقدسة عبر النافذة ويفتح حبلاً معقوداً حول ذراعه ليصبّ حبوبَ الرمّان في راحة يد الطفلة إذ يسألها فيما لو كانت جائعة، تردّد الطفلان في سرقة اللحظة والتهام الحبوب تلك خلال يوم رمضاني كانت فيه رقابة الكبار مسلّطة عليهم، يتردد كلّ من الطفل والطفلة إذ يقولان: "لن نأكل في هذه الغرفة"، في إشارة منهما إلى غرفة الجد المتوفي والتي تحمل دلالة الرقيب الدينيّ الذي يرى في كافة الخطايا، الأمر الذي يدفعهما إلى الخروج من الغرفة إلى الردهة التي كان ينصبّ فيها الضوء الوافد من السماء عبر فوهة مفتوحة في سقفها، تنظر الطفلة وترى في الضوء ومن ثم تقول للطفل إذ تعود عن تناول الحبوب في راحة يديها: "هل يشاهدنا الله من هنا؟" فتبتعد عن الضوء صوب الزاوية المعتمة. وضعت الطفلة ذاك السؤال في موروث الشرق عموماً والذي يفضي إلى أنّ الله هو الضوء، بينما الظلام هو موطن الخطايا.

اشتغل المخرج على كم هائل من المفاهيم من خلال صور لامتناهية وضعت البذور خلل السؤال الوجودي العظيم والشاقّ.

 

شَعرَنة الحرب

على غير العادة كما يحدث في السينما العالمية، وخاصة تلك التي صنعتها أميركا في ما يخصّ الحرب أو مشهد الحرب؛ أي عملية صياغة الحالة البصرية لتفضي إلى النتيجة المترقّبة أثناء تفحص ومراقبة مشهد الحرب في كافة الأفلام.

هنا، لم يتكئ المخرج على العامل البصري في تغذية ذاك السؤال المحيّر في دواخلنا والذي يخصّ الحرب على العموم، إذ إنّه ومن خلال مشهد رجل عائد من الحرب وهو مدهون بالطين والتراب كانت الصورة تلك في مثابة العنصر الذي أوجد الصياغة البصرية وألصقته بنصفها الحسّي الموجود سلفاً داخل المرء السائل، الجميع يجلس أمام العائد من الحرب يسمعونه بينما تتقافز ذرّات الغبار من جسده إبان كلّ حركة له، عبر المشهد الأول من عودته، تطاير الغبار إذ أقدم على ضمّ ابنه الذي خرج إلى شوقه له، خلل هذا المشهد تظهر الأسئلة الوجودية التي يطرحها ويصل إليها عائد من الموت على باقين في حيواتهم المجهولة عن ذلك العالم المريب اللغز، كما لو أنّه عائد من الموت حقاً، إذ إنّ التراب والطين على جسده كان امتداداً واضحاً للصورة البصرية اللامرئية والتي تخصّ عادة الركن الذي يدفن فيه المرء في الشرق وهو القبر، التراب والطين، يقذف العائد من الحرب والذي قام بدوره الممثل السوري فارس الحلو بأسئلة وجودية تعيد ترتيب الموروث في أذهاننا، يسعى المخرج عبر تلك الأسئلة في سبيل إعادة صياغة مفاهيم كثيرة، إذ إنّه يقول ويسأل الجمع الذي يزاول كلّ منّهم عمله داخل الغرفة الطينية - كما لو أنّ العمل هو الحدث العظيم الذي يرافق تفاصيل حيواتنا اليومية – يقول: "ما هو الوطن؟"، ينهض طفل يقول: "هو أبي"، تهمس الجدة في سريرتها: "الوطن هو جدتي". لن تنتهي الأسئلة الوجودية على النحو المعتاد المنتمي إلى صياغة جزء منه بالجواب، إذ إنّ الجواب النهائي اللامرئي يكون عبر مشهد بصريّ تحول خلاله العائد من الحرب إلى طين واختفى تماماً، كما لو أنّه صنع الصورة النهائية اللامرئية واللامتخيلة لمفهوم الحرب، هي الصورة الحكيمة والإنسانية التي تفتح في ذهن المتلقي الصورة الحقيقية للحرب بعيداً عن مفاهيم بشرية مثل النصر والهزيمة وغيرهما، هي صورة واحدة وحسب تخصّ تلك الصورة اللامرئية للحرب، كلّ شيء خلل الحرب يغدو طيناً، كلّ شيء يعود إلى أصله الطينيّ، إلى البداية.

 

 

شَعرَنة الصوت والضوء

يفتح الفيلم باب السؤال العظيم عبر أنفاس متسارعة تتخبّط فيما بينها، الجميع يلهث ويتنفّس بقوة كما لو كانوا أمام القيامة، القيامة بمفهومها الروحي، فيما يقذفون في وجوه بعضهم بعضاً كلمة "شو"، والتي تعني باللهجة السورية "ماذا" أو "ماذا هناك" أو "ما الخطب"، هو السؤال، تحريض المرء لنظيره على البحث، على العدول عن الصمت المقترن باللامعرفة، اللهاثات تلك وكلمة "شو" تسيران برفقة شخصيات الفيلم حتى النهاية، لتحلّ محلّ الموسيقا التصويرية له، إذاً، ثمة سؤال وأنفاس متسارعة تقوم مهام الموسيقا في تلك القرية البعيدة في مكان ما بعيد، هي لهاثات وسؤال البحث في الوجود عموماً، داخل القرية التي تقرأ كتاب الأفق المفتوح حتى آخره عبر عناصر طبيعية وتلاوات باطنية مفضية جميعها في سبيل البحث في الجواب خاص الوجود.  

بتقنية البحث في السؤال ذاته؛ أي - مساندة الطبيعي ليكون عنصراً سلساً في صياغة الصورة داخل الفيلم - صنع المخرج عملية بناء الزمن من خلال الضوء، بكلّ الأحوال، فإنّ أيّ (عملية صياغة) يمكن تكنينها بالزمن البصري، إذ إنّ الضوء وخلال الصورة الواحدة كان ينتقل من درجة إلى أخرى متأثراً بسياق الحوار للممثل، أو سياق ملامحه التي كانت تتغيّر مرات عديدة خلال المشهد الواحد، لم يكُ الضوء خلال فيلم صندوق الدنيا فيزيائياً موظّفاً بالمعنى المتداول في السينما، إنما كان قراءة باطنية للمشهد؛ أي سرعة انتقال الحالة عبر صورة ثابتة، كان يحدث ويلاحَظ من خلال تحوّر وتحوّل الضوء من الشكل البارد إلى الحارّ أو العكس. عملية تعدّد قيمة الضوء خلال الصورة الواحدة تكاد تأخذ السمة الرئيسية لقراءة معظم الصور داخل الفيلم، إلى الحدّ الذي يدخل فيه الضوء ركن قيمته الروحية الموثوقة إلى جوهر سؤال المرء عن تلك الحيرة السماوية كما هو متعارف عليه من خلال المعجم الشعبي الذي يستلزمه البحث عن ماهية السماوية في الشرق، بطريقة أخرى مثلاً، وضع المخرج كافة العناصر الباعثة الضوء في الزاوية التي تحاكي الكاميرا عبر عملية بناء المشهد السينمائي؛ أي، لا يبحث المتلقي عن مصدر الضوء في حين تأخذه الطمأنينة إلى أن ثمة ضوءا قادما - لا محال - من ركن ما داخل المشهد، ربما هو الركن الروحي اللامرئي الذي يراقبنا دوماً ويرى ويترصد ذواتنا. الضوء داخل الفيلم جزء رئيسي من معادلة قراءة المشهد وليس تفصيلا ثانويا.

 

 

شَعرَنة الشكل - (البداية النهاية)

حلّت البداية على فيلم (صندوق الدنيا) من خلال مشهد شجرة ترقد في شكل بيضوي، على المشهد عينه تحلّ النهاية أيضاً، من خلال التمعن في مفهوم السياق المعرفي للفن، نلحظ بأنّ الفيلم أخذ المنحى ذاته، منحى بناء ذاكرة جمعية للمتلقّي والتي تخصّ سيرة الشكل خلل الفيلم، لا سيما أنّ السياق المعرفي عادةً يتمحور في مفاهيم عديدة قد تكون لغوية أو سمعية أو بصرية وغيرها في العمل الفني والأدبي، في الفيلم ثمة عائلة متكاملة تخص عملية بناء سياق موحّد له، لا سيما أنّ الفيلم يفتح بابه للمتلقي من نافذة الحلم، أو ربما تظّاهر هذه البنية للمتلقي للوهلة الأولى، والتي تمتد حتى النهاية حقيقة. بطريقة ما، أوجد المخرج أسامة محمد تلك النتيجة التي يُبحَث عنها عادة آن البحث عن وفي مفهوم السياق العام والشامل وحامل الفيلم، إذ إنّ الشكل الدرامي للمشاهد الأولى والموحية إلى الحلم عبر مشهد استخراج بيضة من مؤخرة الدجاجة عبر طفل يكون حامل المشاهد الأخرى المفضية إلى فكرة الولادة، لا سيّما أنّ هيئة البيضة خلل الحلم تفضي إلى الحياة الجديدة أو الاستمرارية والخصوبة.

سارَ شكل البيضة تلك والتي تشبه تماماً شكل الكرة الأرضية جنباً إلى جنب مع عناصر أخرى كانت بدورها مكملة لسياق الفيلم الظاهري والباطني، يلاحظ ذلك عبر مؤاثرة مشهد وشكل العين على عناصر أخرى؛ أي دلالة الشكل أخذت المنحى العام والذي يفضي إلى السياق المعرفي للفيلم عموماً، البيضة الوافدة من الخصوبة، العين الوافدة من فكرة البحث في الوجود، الشجرة الوافدة من سرير الأرض، إلى جانب عناصر عديدة أخذت كلّها قراءة واحدة متجانسة تفضي إلى الشكل الرئيس للعمل.

بطريقة ما أوجد المخرج رؤية حسّية من خلال صورة بصرية بعيدة عن حالة بناء الشكل الذي عادة ما يساعد في قراءة المشهد كاملاً، إذ صنع عبر أدوات عديدة عملية بناء المشاهد من خلال حالة تحوير الشكل الصامت في لاوعي المرء، ورَسَم بالكاميرا مجموعة أشكال منتمية إلى مجموعة عناصر تخص رمزية الخصوبة، أغلب العناصر تلك ظهرت في هيئة وشكل العين البشرية تماماً. حتى عملية صناعة المقدمة والخاتمة كانت ذات دلالة بعملية بناء الشكل في الصورة المفضية إلى العين، إذ إنّ المخرج بدأ الفيلم بمشهد شجرة تشبه العين وأنهى بالمشهد ذاته الفيلم؛ أي أنّه صنع الفيلم برمته على هيئة الدائرة. 

 

 

‫…….

 

 صندوق الدنيا

 "إلى أمي جميلة علي كامِلْ"

أسامة محمّد

 

 

فيلم صندوق الدنيا، إنتاج سوري فرنسي مشترك، 2002

تأليف وإخراج: أسامة محمّد

 

بالتعاون مع: هالة العبد الله

 

مخرج مساعد: نضال الدبس

كاستينغ وإدارة أطفال: عروة نيربية

سكريبت: ريم الغزّي

الصورةإيلسو روك

ديكور: أحمد معلّا

إشراف معماري: أمل محمّد

إكسسوار: رفيق محمّد

 

الموسيقى: مارسيل خليفة

الصوت: منصف طالب

 

الملابس: هالا محمّد

 

 

الفيلم يشكر

سعد الله ونوّس

عُمَر أميرالاي

رياض شيّا

‫….

 

 

أداء

 

الجدّ الأكبر: رفيق سبيعي

الجدّ الأصغر: علي محمّد

 

الجدّة الكبرى: نهال الخطيب

الجدّة الصغرى: نهال الخطيب

 

الأمهات

أمل عمران . كاريس بشّار . حلا عمران

 

الآباء

فارس الحلو . زهير عبد الكريم . بسّام كوسا

 

الأطفال

الطفل العاشق: محمّد حَمَد

الطفل المقدّس: الياس غنّام

الطفل التائه: مصطفى الصبح

 

فيروزه

 

ميرنا غنّام

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.