}

غزّة في ثقب هوكينغ الأسود

جورج كعدي جورج كعدي 17 مايو 2024
آراء غزّة في ثقب هوكينغ الأسود
ستيفن هوكينغ (Getty)
للمؤمنين عزاؤهم، راحتهم النفسيّة وتسليمهم بالمشيئة العليا. مطمئنّون هم إلى الحضن السماويّ. ليتني أمتلكُ مثل هذين العزاء والاطمئنان. أحترم إيمانًا كهذا، ولكنّني لا أنعم بمثله. عساني مخطئٌ في عدم تقبّل المظالم الأرضيّة قبل مناقشة السماء، وفي لا قدرتي على تحمّل الألم الكثير الذي أراه في وجوه أطفال قطاع غزّة وعيونهم، وفي ارتجاف أجسادهم النحيلة المدمّاة، وفي صراخ وجعهم، وفي نحيبهم على أمّ وأب وأخوة وأخوات دُفنوا تحت الركام، وفي ذعرهم لدى تمديدهم بين آلاف المصابين عند مداخل المستشفيات غير السالمة من الدمار، المكتظّة بضحايا القصف الجنونيّ. هل أُعذر لانعدام قدرتي على تحمّل كلّ ذلك، وغيره كثير من مشاهد الجثث والأشلاء والأيدي المقطوعة والأرجل المبتورة وصرخات الألم المكتومة، أو المصعّدة نحو السماء؟ هل حقًا أنّ حزني متأتٍ من ضعف الإيمان؟ أم من شرور العالم وظلمه وأهواله؟ أهو شعور خاص، أم عامّ، غضبًا واحتجاجًا؟ لا لوم على أحد في اعتقادي لو فقد الإيمان والأمل والرجاء حيال مظالم ومآسٍ بفظاعة مماثلة، في ظلّ صمت أرضيّ وسماويّ، وإزاء واقع أنْ لا قوة على الأرض، ولا في السماء، تلجم يد السفّاح. لا ذنب بعدئذٍ إن استبدّ بالنفوس إحساسٌ بالعجز مقرونٌ بالغضب من غياب عدالتين، أرضيّة وسماوية، يستجير الإنسان الضعيف المقتول بإحداهما، ولا فعل ولا جواب!
السفّاح طليق اليد في إبادةٍ مستفحلة تقتيلًا وحشيًّا وتدميرًا جنونيًّا وتجويعًا إجراميًّا... فيما قاضيا الأرض والسماء صامتان، متفرّجان، مثل شاهد عاجز عن تغيير شيء في هذا العالم الذي لا بدّ أنّ ثمة عبثًا في تكوينه وفراغًا في جوهره ومعناه وشرًّا متأصّلًا في إنسانه وقوةً عمياء في صيرورته، أو ما عساها تكون هذه الحروب الوحشية غير المتوقّفة منذ الأزل، والأرجح إلى الأبد، إذ لا شيء يتبدّل في عنف البشر، ولا في وعيهم أو "تطوّرهم" المزعوم ضمن مسار إنسانيّ انحداريّ!
حدّثنا عالم الفيزياء الكبير ستيفن هوكينغ/Stephen Hawking  (اللفظ السليم لاسمه هوكن، لكنّي أعتمد الشائع في الترجمات والمقالات العربية) عن "الثقب الأسود" في الكون، بل "الثقوب السوداء"، التي لا يزال بعضها غير مكتشف، وهي أقرب إلينا ممّا نعتقد، تبتلع كل شيء بفضل جاذبية قوية جدًا، وحتى الضوء لا يمكنه الإفلات منها، وتنبعث منها كميات صغيرة من الإشعاع الحراريّ الذي أُطلق عليه "إشعاع هوكينغ". أمّا الغموض الذي لم يُحلّ فهو تكوّن هذه الثقوب الهائلة في بدايات الكون، بعد ملايين السنين من حصول الانفجار العظيم/ Big Bang، إذ وُجدت ثقوب عملاقة من نحو ملياري كتلة شمسية.
ما الذي أتى بي إلى حقائق هوكينغ العلمية و"ثقوبه" السوداء؟ إنّه أوّلًا السعي إلى حقيقة الكون والوجود من باب العلم، وما توصّل إليه بالبرهان العلميّ. وليس من أي باب آخر غيبيّ افتراضيّ لا يقدّم براهين شافية. ثانيًا، قرأتُ لهذا العالِم الكبير الفذّ شرحًا عن ابتلاع الثقب الأسود حتى الزمن، فقفزت إلى ذهني للتوّ صورة غزّة التي تعيش اليوم خارج الزمن، إذ فقد أهلوها الإحساس به، وابتلعهم ثقب الوحش الصهيونيّ الأسود. ثالثًا، لأنّ هوكينغ عاش معظم حياته مقعدًا جاء للبشريّة بالتفسير المنطقي لنشوء الكون والإجابة عن أسئلة من كل نوع لازمت الإنسان مذ وجد على هذا الكوكب ووعى وجوده وفناءه وشرع بعد حين في طرح الأسئلة الكثيرة المستعصية: كيف وُجد هذا الكون؟ مَنْ أوجده؟ ما الغاية والهدف من وجوده؟ لِمَ وُجدت الكائنات؟ لِمَ وُجد الإنسان؟ لِمَ الموت وماذا بعده؟ لِمَ الشرّ؟ هل الله موجود أم خلقه الإنسان؟ إذا كان موجودًا لماذا لا يتدخّل في العالم ويوقف شروره ومآسيه؟ إلى ما هنالك من أسئلة غير منتهية.
الأسئلة المرّة حيال مأساة غزة وآلامها الجمّة واستفراد الهمجية الصهيونية بها على نحو مستفحل ومتمادٍ، لم يجبني عنها (في مسألة الصمت الإلهي) ولم يجب آخرين، إلّا التفسير العلميّ المبرهن عنه، والذي يُخرج الإنسان من أفكار بلا نفع، وأوهام غير مرضية لا تهدّئ النفس ولا تخفّف من رَوْعها. حتى هوكينغ نفسه خشي لدى عرض نظرياته العلمية المثبتة ذات المعادلات الفيزيائية والرياضية من جَرْح مشاعر المؤمنين، فقدّم إليهم الاعتذار سلفًا، وروى الحكاية، ردًّا ذات حين على سؤالٍ استفزازيّ لرجل علم كبير معروف: هل تؤمن بوجود الله؟ أجاب هوكينغ: "لا رغبة لديّ في الإساءة إلى أي شخص مؤمن، لكنّي أعتقد أن العلم يملك تفسيرًا أكثر إقناعًا من الخلق الإلهيّ. عندما نسافر في الزمن إلى الوراء، نحو لحظة الانفجار الكبير، يصبح الكون أصغر فأصغر، حتى نصل أخيرًا إلى نقطة حيث الكون بأكمله عبارة عن مساحة واحدة صغيرة جدًا، متناهية الصغر. ثقب أسود كثيف. وكما هي الحال مع الثقوب السوداء في العصر الحديث، التي تطفو في الفضاء، فإنّ قوانين الطبيعة تملي شيئًا غير عاديّ تمامًا. يقولون لنا إنّ الزمن نفسه يجب أن يتوقف هنا أيضًا. لا يمكن الوصول إلى زمن ما قبل الانفجار الكبير، إذ لم يكن هناك زمنٌ قبله. وجدنا أخيرًا شيئًا لا سبب له، لأنّه لم يكن هناك زمن ليوجد سبب فيه.




بالنسبة إليّ، يعني ذلك أنّ لا إمكان لوجود خالق، إذ لا زمن ليوجد خالق فيه. إنّ أبسط تفسير من وجهة نظري هو أنّه لا يوجد إله. لم يخلق أحد الكون، ولا أحد يوجّه مصيرنا. يقودني هذا إلى إدراك عميق: لا جنة أو حياة أخرى أيضًا. أعتقد أنّ الإيمان بالحياة الآخرة هو مجرّد تمنٍّ. لا دليل موثوقًا على ذلك، والأمر يتعارض مع كل ما نعرفه في العلم. أعتقد أننا نعود إلى التراب حين نموت. ولكن ثمة معنى نحيا فيه يكمن في تأثيرنا، وفي الجينات التي ننقلها إلى أطفالنا. إننا نملك هذه الحياة الوحيدة التي نقدّر فيها التصميم العظيم للكون، وأنا ممتنّ جدًا لذلك".
ولكن ألا تحبط حقيقة علمية كهذه معنويات الإنسان؟ يجيب هوكينغ: "بدلًا من إحباط المعنويات، يمكن لوعينا الجليّ بزوالنا أن يكون منبعًا لأنبل دوافعنا الروحية وأعمقها، حافزًا للعثور على المقدّس في ثراء الحياة نفسها، في روعة هذا الكوكب الغريب الذي لا يمكن استبداله. ثمة تحديات وأسئلة كبيرة أخرى على كوكبنا ينبغي الإجابة عنها وستحتاج إلى جيل جديد مهتمّ ومشارك ويملك فهمًا للعلم. كيف يمكن إطعام عدد متزايد من السكان، وتوفير المياه النظيفة، وتوليد الطاقة المتجددة، والوقاية من الأمراض وعلاجها، وإبطاء تغيّر المناخ؟ آمل أن يقدّم العلم والتكنولوجيا الإجابات عن هذه الأسئلة، ولكنّ ذلك يتطلّب أناسًا يملكون المعرفة والإدراك لتنفيذ هذه الحلول. دعونا نناضل من أجل إتاحة فرصة عيش حياة صحية وآمنة ومليئة بالفرص والحب لكلّ امرأة وكلّ رجل. نحن جميعًا مسافرون عبر الزمن، نحو المستقبل. ولكن دعونا نعمل معًا لجعل هذا المستقبل مكانًا نودّ زيارته. كن شجاعًا، كن فضوليًّا، كن حازمًا، تغلّب على الصعاب، كي تنجز ذلك".
يردّد هوكينغ مقولة كارل ساغان بأنّ الفطرة السليمة/ Common Sense يمكن أن تعمينا عن حقائق الكون: "إن السؤال الغريزيّ هو: من أين أتت المادة والطاقة والفضاء؟ وهو سؤال لم نتمكن من الإجابة عنه بأكثر من نظريات نشأة الكون الأسطورية حتى مطلع القرن العشرين عندما أثبت آينشتاين أن الكتلة هي شكل من أشكال الطاقة E=mc2. وشكل الكتلة في ما يُعرف اليوم بأفضل معادلة معروفة في التاريخ، يخفض مكوّنات {كتاب الطبخ الكوني} من ثلاثة إلى اثنين، ما يختصرُ السؤال حول مصدر الفضاء والطاقة. اعتمدت أجيال من العلماء على أعمال بعضها بعضًا لتقديم الجواب في نموذج الانفجار الكبير الذي يُفيد بأنّه في لحظة واحدة قبل نحو أربعة عشر مليار سنة تضخّم الكون بأكمله، بكامل مساحته وطاقته، ليوجد من العدم الذي كان موجودًا". ما هي المكوّنات الثلاثة التي تؤلف الكون بحسب هوكينغ؟: "إنّها المادة، الأشياء ذات الكتلة. فالمادة موجودة في كل مكان حولنا، في الأرض تحت أقدامنا، وفي الفضاء الخارجي، وهي الغبار والصخور والجليد والسوائل والسحب الضخمة من الغاز ومليارات النجوم والشموس التي تمتد إلى مسافات لا تصدق. ثانيًا الطاقة التي نواجهها كل يوم، فالشمس نشعر بها على وجوهنا، وينتج النجم طاقة على مسافة تسعين مليون ميل، وتتخلّل الطاقة الكون وتقود العمليات التي تجعله مكانًا ديناميكيًّا ومتغيّرًا إلى ما لا نهاية. ثالثًا الفضاء، فهناك كثير منه، وأنّى نظرنا نرى مساحة، فمساحة أكبر، في كل الاتجاهات".
بين الاكتشافات العلمية والقوانين الفيزيائية يضيق في تفسير هوكينغ هامش الفكرة عن إله خالق: "أعتقد أن اكتشاف هذه القوانين كان أعظم إنجاز للبشرية، فقوانين الطبيعة هذه هي التي تعلمنا بما إذا كنّا في حاجة على الإطلاق إلى إله لتفسير الكون. هذه القوانين الفيزيائية، فضلًا عن كونها غير قابلة للتغيير، هي عالمية. على عكس القوانين التي وضعها البشر.

أثبت آينشتاين أن الكتلة هي شكل من أشكال الطاقة E=mc2

لا يمكن كسر قوانين الطبيعة، لذا هي قوية جدًا، وحين يُنظر إليها من وجهة نظر دينية فإنّها مثيرة للجدل أيضًا. إنّي أستخدم كلمة الله بمعنى غير شخصيّ، مثلما فعل آينشتاين، للكلام على قوانين الطبيعة. أعتقد أنّ الكون خُلِقَ تلقائيًا من العدم، وفقًا لقوانين العلم (...) تخبرنا قوانين الطبيعة نفسها أنّه ليس ممكنًا فقط أن يكون الكون قد ظهر إلى الوجود من دون أي مساعدة، مثل البروتون، ولم يستلزم شيئًا من ناحية الطاقة، بل من الممكن أيضًا ألّا يكون هنالك شيء تسبّب بالانفجار الكبير. لا شيء".




إذ يقدّمُ هوكينغ تفسيراته العلميّة واضحةَ المعادلات والتسلسل الفيزيائيّ المحض، بدءًا بلحظة الانفجار الكبير، فإنّه بقدر ما يريحنا من اللغز والسؤال، يبعث بالقَدْر نفسه قلقًا في نفوسنا: مَنْ يعالج الشرّ الأخلاقيّ في حياتنا البشريّة على هذه الأرض؟ مَنْ يعاقب المجرمين والسفّاحين الكبار، أمثال بنيامين نتنياهو وعصابته الصهيونية المرعبة، وجمهورهما المصفّف لأفعالهما الإباديّة؟ ففي غياب عدالة إلهية، وصمت عدالة أرضيّة، ينتفي مبدأ العقاب، وينجو المجرم بجريمته، ويصير هو الناجي الوحيد والمنتصر، حتى لو مات، أو قُتل، أو اعتقل، أو انتحر، فقد نفّذ جريمته وانتهى الأمر، وهو لا يساوي بالتأكيد، حتى لو مُزّق إربًا، ضحايا جريمته وإبادته. فيا للعبث الذي يحكم وجودنا في كون الصدفة المرعب هذا؟ نحن نعيش بشرًا عند النقطة صفر. نحن في ثقب العدم.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.