}

أن تكتب المرأة جسدها

فدوى العبود فدوى العبود 11 مايو 2024
كتبت هيلين سيكسوس مرةً: "على الكتابة النسائية أن تنصرف إلى الجسد، والاقتصار عليه، داعية الكاتبات إلى وضع أجسادهن في كتاباتهن". والسؤال: لمن، ومن أجل من تكتب المرأة؟ وما الذي يحرضّها لتدوين متعتها الشخصيّة وحياتها الحميمة، وما دافعها لنقل شعورها المكثّف بالألم والرغبة إلى الآخرين؟
هذه الأسئلة وغيرها، تستعيد مسيرة الجسد الإنسانيّ عمومًا، والأنثويّ على وجه الخصوص؛ على اعتبار أن هذه الرحلة هي التعبير الأمثل للجدل الهيغلي (أفلاطون ونيتشه، المرأة والرجل "الأقل والأكثر كمالًا"، الفزع والطمأنينة، المقدس والمدنس، "الروح والجسم")، في نزاعٍ لم يفضِ إلى مركّبٍ جديد بقدر ما انتهى بندوب وجراح أحدثها صراع السيادة والعبوديّة؛ وفي كل الأحوال، تطلّب ذلك من أحدهما أن يروي ــ وغالبًا هو الجسد ــ لأنه وعلى عاتق الخاسر فقط يقع عبء تبرير الذات. وفوق هذا الأخير، ومن بذرته، تنمو الكتابة النسوية/ كتابة المرأة، ومهما تكن تسميتها، فإنها الكتابة التي تحاول إحداث اختراقات في جسد الثقافة الذكوريّة.
ومع "أنّ القفزة من الجسد إلى اللغة مسألة صعبة"، إلاّ أنهّا تبدو ضرورية، خصوصًا أنّ المرأة ــ وهذا تتفق عليه جميع النسويّات ــ تتربى وسط ثقافة ذكوريّة، وقد تتبنّاها؛ لذا فحين تقرر أن تكتب ستكون أمام مواجهة مزدوجةِ الرأس: العالم خارج ذاتها/ وأشباح الآخرين في داخلها.
بل إنّها قد تقع في السائد الذي يتغلغل في لغتها ولاوعيها، أو قد تلجأ لتحويل ذاتها إلى متخيّلٍ أدبي، فتعرضُ جراح الذات، وتكشف عن الجذرِ المتدرّن للواقع، أو تشرِّح الرغبة، وهي الأكثر قربًا لكينونتها، وفي كل هذا: تفضّل وضع السمكة كاملة فوق طاولة الكتابة.
وقد لا يعنى الفضاء النصيّ الذي تشيّده المرأة بالبعد الجمالي، بل تقع الأحداث ببساطة من دون أي رتوش. وفي بعض الكتابات يدفع التمحور حول التجربة الذاتيّة بالعالم إلى خارج الذات المؤنثة، ويصبح حضور الأخير باهتًا، ومن دون معنى؛ فيتفوق العادي اليومي على التاريخي، وتتبلور المشاعر الصغيرة التي تنمو بين أعطاف الأنا الداخلية، لتكشف من خلال الرغبة عن الاجتماعي والمحتقر في العرف.
وهذا النبش الذي يسميه بعضهم استنطاق المسكوت قد يصعبُ تدوينه باللغة، أو بالروح ذاتها التي تريد الكاتبة مقاومتها، وبهذا فإن حساسيّة الكتابة عن الجسد لا يمكن مقاربتها من دون التفكير في الحرية الممنوحة لنا أولًا، وفي اللغة التي نكتب بها ثانيًا، وهذه الحرية ليست لحظة الكتابة، أو ما نعيشه خارج أجسادنا فقط، بل شعور داخلي، وإدراك عميق.




وهذا يأخذنا إلى التساؤل عما إذا استطاع الأخير أن ينكتب في الرواية العربية؟
وطرحُ السؤال يترك جرحًا غائرًا، بحيث تحضر للذهن عناوين كثيرة (برهان العسل ــ نساء عند خط الاستواء ــ نساء المنكر)، وتوضع قدرتها على اجتراح لغة تتناسب والعنف الممارس على الجسد الأنثوي موضع سؤال. وجميع هذه الأعمال كانت تدور حول الذات الأنثوية، والجسد المقموع. فقد انشغلت رواية "برهان العسل" لسلوى النعيمي بمسألتين: الأولى تتعلق بتمظهرات الرغبة والسعي إلى تحويل المرأة من صيغة (المفعول فيه) إلى (الفاعل)، من المرغوب بها إلى الذات الراغبة، حيث الجسد في شهوته وفرديته يريد أن يسمع صوته بعيدًا عن الآخر، فما يهم هو "رغبتي أنا". المسألة الأخرى تتعلق بتفكيك النفاق الثقافي عبر استنطاق المحرم والمغيب وإبرازه، واستحضار نصيّات من تاريخ الجنسانيّة العربية التي كتبها أعلام ذكور، والتي تشيع فيها وعبر السخرية نمط عدوانية مبطنة تجاه المرأة.
وفي سياق مغاير، تعمل الساردة في رواية "نساء عند خط الاستواء" (زينب حفني) في منطقة سلبية، ولا مقاومة فيها. وتقدم الرواية التي تتألف من 12 قصة مختلفة صورًا متعددة تكرس صورة المرأة الضحية. وتبدو مشغولة بالإجابة على السؤال: كيف يفكر الرجل؟ وكيف ينظر إلى المرأة؟ وكيف تدور الأخيرة في عالمه مدفوعة بجاذبية العبد لسيده، والذي يروي جراحه بمتعة وتلذذ؟ وربما يعتقد القارئ مدفوعا بحسن نية أن تأكيد شيء يهدف إلى نقيضه، لكن يبدو أن اللغة التي ينبني منها النص تحُبِط أي مسعى للتأويل، فهي لا تتجاوز الكليشيهات السائدة، كما تكرس النظرة الأزلية بين جسد المرأة وجسد الرجل (باعتبار الأخير انتهازيًا لا أمان له، والأولى مجرد فريسة بين يدي صياد)، فجاء الأسلوب إنشائيًّا ومخيبًّا.
هذا وتنحو "نساء المنكر" (سمر المقرن) إلى أسلوب تقريري، وتحت عنوان نقد لمجتمع القمع الذكوري، كرست كل جهودها، ولكن أحيانًا لا يكفي أن يكون ضمير المتكلم امرأة لأنه قد يحدثنا بنبرة رجل. في هذه الرواية، تدرك الكاتبة أنها تسير على حدٍّ خطر، لذا تَفور في نصّها الأمثلة والاستعارات المستمدّة من الثقافة الذكوريّة؛ ما يعزِّز السياق الثقافي الذي أرادت الشخصيّة مقاومته، وأضاعت المؤلفة رغبة بطلاتها في التحرر من قيوده وازدواجيته، وراوحت نساء المنكر في المكان (لأن الساردة أوقعت بهن في فخ اللغة ذاته).




هذا، وغيره، يجعلنا نسأل مع آن جونز عن "السياق الذي تنشأ فيه الخطابات النسائية، وعما إذا كان يحتاج إلى إعادة تفكير وتوسيع لآفاقه، وما تريد النساء قراءته عن تجارب النساء الأخريات؟". وبالعودة إلى النصوص السابقة، نجد أن كتابة المرأة لم تستطع أن تفلت من الخطاب الذكوري؛ فرواية "برهان العسل" قامت فوق تلّة من النصيات التي تكرس صورة مهينة للمرأة بوصفها أمَة، وجارية، ومتاع للرجل (كالتيفاشي، والقزويني، والسيوطي)، بل تتبنى التخيّيل الذكوري الذي يظهر الجنس فعلًا عدوانيًا صرفًا، ولا نكاد نعثر عليها إلا كمرويٍّ عنها وعليها. والمعنى الوحيد الذي أرادت رواية "برهان العسل" كسره انتهت فاعليته، وبدا أن الساردة لا تعرف جسدها إلاّ من خلالهم، لأنها غريبة عنه، وكانت تصفه كآخر، وكأنها تسبح في نهر غريب لا يخصها، بحيث أعادت إنتاج صورتها كمفعول به في المخيلة الجمعية من دون زيادة، أو نقصان، أو تعديل.
ويعثر القارئ في أغلب كتابات المرأة إما على الهاجس القائم على بناء خطاب بديل، بحيث تصور المرأة جسدها بطريقة تأليهية، مستعيدة أساطير المرأة الآلهة والمقدسة، أو الكتابة مما تطلق عليه جوليا كريستيفا "موقع هامشي وتشنجي"، أو نساء "مهسترات" يردن الانفصال عن الخطاب السائد، فيُجبرن على تقليده.
وفي جميع هذه المرويات، يكشف النظام اللغوي عن أنها لم تستطع تملّك جسدها الذي تعيد إنتاج صورته (كضحية ــ أو مفعول بها) لتدخل في علاقة يغيب عنها التكافؤ بين الذات الراغبة والمرغوبة، بل إنها مستعينة بتاريخ من النصيّات التي دونها ذكور: كتبت عن ذاتها.
وإذا كان أقصى ما تفعله الكتابة هو إيقاظ الوعي، فإن السخرية التي تلجأ لها بعض نصوص المرأة تبدو عاجزة عن إحداث قطيعة في النظام الثقافي؛ لأنها تفعل متوهمّةً أن الاختراق يعادل الكشف، على ما بينهما من فارق كبير، وحتى ذلك الوقت ربما نعزي أنفسنا ونقول: أول التفكيك الهدم، ولربما يأتي الكشف لاحقًا.
في "الطريق إلى الكتابة"، ترى مادلين كانيون أنه "لا يتعين علينا مواجهة أنفسنا كي تُحرَّر، ولا مراقبة أنفسنا، أو أن ننصب ذاتًا أخرى لفهم أنفسنا، كل ما علينا فعله إتاحة المجال لجسدنا كي يفيض من الداخل، وأن نمحو كل ما يعوق الأشكال الجديدة من الكتابة، ونحتفظ بما يلائمنا".

إحالات:  
ــ سلوى النعيمي، برهان العسل، دار الريس، ط1، 2007.
ــ زينب حفني، نساء عند خط الاستواء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996.
ــ سمر المقرن، نساء المنكر، دار الساقي، 2008.
ــ آن روزاليندا جونز، كتابة الجسد نحو فهم الكتابة الأنثوية. المكتبة النسوية، 2015.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.