}

في أنّ موت فردٍ ليس بالضرورة موت مدينة

نديم جرجوره نديم جرجوره 24 فبراير 2024
آراء في أنّ موت فردٍ ليس بالضرورة موت مدينة
الشعر والترجمة والصحافة هو فضاء صفوان حيدر الأبرز
وفاة أربعة أشخاص في الأسبوع الأول من فبراير/ شباط 2024، لأسبابٍ يصعب التأكّد منها، رغم أنّ الموت قدرٌ لا فرار منّه، دافعٌ إلى قراءة سؤال مُلحّ، ينبثق (السؤال) من كتاباتٍ فيسبوكية مختلفة، ترثي شارع الحمرا ومدينة بيروت، مُواربة أو مباشرة، رابطةً رحيل هؤلاء بما يعتبرونه "موت المدينة". وإذْ يُعرَف واحدٌ منهم فقط كشخصية ثقافية وصحافية حاضرة، أعوامًا طويلة، في قلب الشارع ـ المدينة، صانعًا من ذاته وروحه صوتًا صارخًا في برّيةٍ مفتوحة على احتمالات الخراب الدائم؛ فإنّ الأشخاص الثلاثة الآخرين غير معروفين في الثقافة والحياة العامة، رغم وجودهم في الشارع والمدينة منذ سنين، وواحد بين الثلاثة يعمل في مهنةٍ (بيع الكعك)، وآخر متشرّد، يفترش زوايا مختلفة في الشارع، مع أغراضٍ كثيرة غير معروفة محتوياتها، والثالث مُصاب باضطراب نفسيّ، من دون أنْ تؤدّي إصابته تلك إلى أذيةٍ، لا تجاه نفسه ولا تجاه الآخرين.

مُثقفٌ يُناهِض الامبريالية
صفوان حيدر مُثقفٌ متخصّص بالفلسفة، وضليعٌ باللغة الألمانية، فهو دارسٌ إياها في جامعة ألمانية أعوامًا عدّة. له ترجمات منها إلى العربية، أبرزها نصوصٌ أدبية، نثرًا وشعرًا. شاعرٌ، له مؤلّفات مطبوعة، كـ"تساؤلات من مدينة لماذا" (1990)، و"نوارس الندم" (2000)، و"أمطار الشمس كلام ـ إمبراطورية الثعالب والذئاب" (2011)، وغيرها. كاتب مقالة أيضًا، كأنّه، بكتابتها ونشرها في "السفير" (يومية سياسية لبنانية، 1974 ـ 2016) تحديدًا، يريد حضورًا في صحافةٍ بيروتية منفتحة على عالمٍ عربيّ، ولـ"السفير" قضية أولى، تتمثّل بفلسطين، وحيدر مُدافع شرسٌ عن فلسطين، ومُناهض أشرس للإمبريالية وأميركا، وإنْ عبر شتائم يُردّدها في شارعٍ أو مقهى أو مبنى صحيفة. مُصابٌ باضطراب نفسي، لكنّه، بدوره، غير مؤذٍ، وعند تناوله أدويته، ينكشف فيه كلّ حنان وهدوء وطيبة، وضحك أحيانًا، يلحق ابتسامةً تُهيّئ من يجلس معهم ـ معهنّ لضحكٍ، يتميّز به، وإنْ لوقتٍ قليل.
صاخبٌ هو. يمشي في شارع الحمرا مُلقيًا، بصوتٍ عال، خطابًا في السياسة والثقافة، وحاملًا، في أوقاتٍ أقلّ من غيرها، علم لبنان. يدخل مقاهي الشارع، ليقول كلمته من دون تردّد. تبلغ جرأته في القول، أحيانًا، حدًّا يُخيف مُستمعين ومُستمعات إليه، وبين هؤلاء عاملون وعاملات في الثقافة والصحافة والفنون. في سيرته الحياتية مطبّات ومصاعب، نفسية أساسًا، بعضها سببٌ لإيداعه "سجن رومية" (أحد أسوأ السجون اللبنانية، في الجوانب كلّها)، مع مرتكبي أفعال جرمية مختلفة (قتل، اغتصاب، سرقة... إلخ)، بدلاً من التنبّه إلى حاجته إلى علاجٍ واهتمام، يحصل عليهما بعد انكشاف أمر سجنه أمام الزميلة هدى سويد، التي تكتب عنه تقريرًا صحافيًا في "الملحق" (22 فبراير/شباط 1997)، الصادر أسبوعيًا (1992 ـ 2015) عن "النهار" (يومية سياسية لبنانية، 1933)، يكون له فضل إخراجه من السجن، ونقله إلى "دير الصليب" (مشفى متخصّص بالاضطرابات النفسية والعقلية)، حيث يتلقّى علاجًا، قبل عودته إلى الشارع الذي يحبّ، والمدينة التي يعشق، والكتابة التي يبغيها، والقول الذي يبوح به بأي شكلٍ من الأشكال.




شعرٌ وترجمة وصحافة فضاؤه الأبرز. المقاهي أمكنته، والمدينة متّسعةٌ لصراخه من أجل حقّ مهدور، وأحياناً من أجل ذاته، رغم أنّها (المدينة) مُدركةٌ أنّ كلّ صراخ فيها، لأي سبب ولكلّ هدفٍ، غير مؤثّر، وكلّ مطالبة بحقّ مهدور غير نافعة. وهو، إذْ يصرخ عاليًا، يحتاج إلى مُتَنفَّسٍ، والصراخ أداة وحيدة، بالنسبة إليه، لأنّه غير مالكٍ سوى كلمة وحرف، أي قول وكتابة.
في مقابل هذا، يكون صفوان حيدر مزعجًا، غالبًا. لكنّ اعتياد إزعاجه مُترافق واعتياد القهر الذي تصنعه المدينة وشارعها بناس المدينة وشارعها، خاصة في لحظات انهيارهما (مدينة بيروت وشارع الحمرا)، أقلّه منذ بداية العشرية الأولى في القرن الـ21. فموت بيروت يتأسّس منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (13 أبريل/ نيسان 1975 ـ 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990)، رغم بدء تنفيذ مشروع إعادة الإعمار، الملتبس والمُثير لنقاشاتٍ حادّة، لكنّ النتيجة معروفة: غلبةٌ قاهِرة للمشروع، على حساب أناسٍ كثيرين وكثيرات. والأسوأ، أنّ المشروع نفسه يتعطّل، بعد اغتيال صاحبه، رفيق الحريري، الرئيس السابق للحكومة اللبنانية (14 فبراير/ شباط 2005).
موت بيروت منبثقٌ من لحظة الانشغال بإعمارها، وفقًا لقواعد سوق تجارية اقتصادية رأسمالية متوحّشة، تُغيِّب تاريخًا وذاكرة، وواقعًا وثقافة، وحياة واجتماعًا، ومستقبلاً يُبنى على حساب هذا كلّه، من دون أدنى اكتراثٍ بمعنى المدينة وشكلها وعمارتها وناسها. موت بيروت سابقٌ على موت صفوان حيدر بأعوامٍ عدّة، وموت الشاعر المترجم، الموصوف في مدينة بيروت وشارع الحمرا بأنّه "الشاعر المجنون"، ليس موت مدينةٍ، تعيش موتها منذ زمنٍ، بل إنّه، ببساطة شديدة، موت فردٍ، يُحبّ المدينة وشارعها، وربما يموت بسبب حبّه المدينة وشارعها الغائبين عنه، مع أنّ الموت قدرٌ لا مفرّ له.

أفرادٌ حاضرون لكنّ موتهم "عاديّ"
المُضطرب الآخر (نفسيًا؟ عقليًا؟)، يُدعى هاني، وهو غير معروفٍ ليّ، شخصيًا. مثوله في الشارع مُقلِقٌ، رغم أنّه غير مؤذٍ. يُقال إنّ له ماضيًا مليئًا بحيوية وعيشٍ، وموت المدينة، مُجدّدًا، أحد أسباب انهيار رجل مثله، وموته أيضًا. أمّا أبو علي، واسمه الحقيقي غير معروفٍ لي، لأنّي لم أسأله يومًا عنه، فبائع كعك، يوقف عربته على بُعدِ خطواتٍ من مبنى مستشفى الجامعة الأميركية، والزقاق المؤدّي إليه متفرّع من شارع الحمرا. الحيّز الصغير الذي يختاره أبو علي لبيع الكعك، منذ أعوامٍ مديدة، يكاد يكون في منتصف الطريق بين شارع الحمرا ومبنى المستشفى. لا ميزة له تختلف عن كونه عاملًا في مهنة، تُكسبه مالًا لتدبير أمور عيشه وعيش عائلته. حضوره في الشارع غير نافر. صوته خافت، واهتمامه الأبرز، بعد بيع الكعك، يتمثّل بأناسٍ يُدبِّر لهم ولهنّ أمكنةً مختلفة لسياراتهم ـ سياراتهنّ، في شارع مكتظّ وضاجٍ لأكثر من 10 ساعات، يوميًا. فـ"الموقف" الوحيد للسيارات، الذي في هذا الشارع، يمتلئ سريعًا لصغر حجمه، ولكثرة السيارات، وهذه (كثرة السيارات) سببٌ لضجيج وتلوّث، بيئي وسمعي وبصري (فالسمع والبصر يتضرّران، أيضًا، من تلوّث متنوّع الأشكال).
أبو علي ماكرٌ، أيضًا. نظراته تشي باختبار حياتي قاسٍ، لكنّها تُشير أيضًا إلى رغبةٍ في استعادة حياةٍ سابقة، للنساء فيها حضورٌ قوي. "شهرته"، إلى كونه بائع كعك في شارع حسّاس وحيوي، متأتيّة من مواجهة له، صامتة إلى حدّ، مع ريّا الحسن، الوزيرة السابقة للداخلية والبلديات (2019 ـ 2020)، التي تمنعه من بيع الكعك في الشارع لعدم حصوله على إجازة رسمية، تُتيح له ذلك. لكنّه، كلبنانيين ولبنانيات كثيرين، يتمكّن من "كسر" قرارها، بشكلٍ قانوني ربما، فأنا غير سائل إياه عن مسألة كهذه، ويُحصِّن نفسه وعربته في الحيّز الصغير جداً، حتّى وفاته.



في رثائه الفيسبوكي، يكتب البعض أنّ في رحيل "أبو علي" موتًا للمدينة، أو إشارة إضافية إلى هذا الموت؛ وأنّ "أبو علي" شاهدٌ على تحوّلات المدينة والشارع، وعلى مسارهما الآيل بهما إلى موتٍ. هذه مُبالغة، يمتاز بها "كَتَبة" فيسبوك، الذين يهيمون عشقًا (مُدّعيًا، معظم الأحيان، وفقًا لأسلوب الكتابة والتعبير) بالمدينة وشارعها، وأعوامٌ كثيرة من حيواتهم ـ حيواتهنّ تشهد على عيشٍ لهم ـ لهنّ خارج الشارع والمدينة، وخارج البلد والإقليم، وخارج القارة الآسيوية برمّتها.
هذا حاصلٌ مع ألبير، العجوز المتشرّد، العاجز عن المشي، والمتنقّل بكرسيّ ذي عجلات في شارع الحمرا، وفي بعض تفرّعاته، وعاشق قراءة الصحف اللبنانية، أو ما تبقى منها كمطبوعة صادرة يومية، أو كنَفَسٍ مهنيّ مفقود بشكل شبه كامل. يقرأ تلك الصحف في "كشكٍ" لبيعها، قريبٍ من أول صالة سينما تتأسّس في الشارع نفسه، وتُسمّى باسمه، أي "صالة سينما الحمرا"، المتحوّلة، في الأعوام الفائتة، إلى أكثر من مقهى ومطعم وجبات سريعة، أو "كافي"، لا علاقة له بالمفهوم التقليدي لمقاهي الرصيف. والـ"كشك"، حيث يقرأ ألبير جالسًا على كرسيّه ذي العجلات، علمًا أنّ صاحب الـ"كشك" المعلّم نعيم، بائع الصحف والمجلات في المكان نفسه منذ أكثر من أربعين عامًا، يسمح له بذلك؛ هذا الـ"كشك" مُلاصقٌ تمامًا لـ"كافي دو باري"، أحد أهمّ وأبرز "مقاهي الرصيف" (Café Trottoir) في ذاك الشارع، إلى "ويمبي" و"مودكا" القريبين منه، منذ ما قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
هذه أمكنةٌ، باستثناء "كشك" المعلّم نعيم، مغلقةٌ منذ سنين، كغيرها من أمكنةٍ لها مع الشارع أساسًا علاقة حياة وإنتاج. إغلاقها جزءٌ من الإمعان في خراب المدينة، لأنّ مشروع إعادة إعمار بيروت غير راغبٍ بغير "داون تاون" قلبًا مفتوحًا على اقتصاد السوق والسياحة، لا على معنى المدينة وأفق عيشها وسلوكها ونبضها. موت ألبير، كموت صفوان وهاني و"أبو علي"، وكموت آخرين وأخريات، ولكلّ واحد ـ واحدة منهم ـ منهنّ حكاية مع المدينة وشارعها، منبثقٌ من موت المدينة، لا عكس ذلك. الانهيارات المتلاحقة، وآخرها يبدأ عشية "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، تحطيمٌ للمدينة، يُكمِل موتها المتأتي من نهاية ناقصة وهشّة للحرب الأهلية، ومن إعادة إعمار غير متلائم (الإعمار) مع معنى المدن ونسيجها في الاجتماع والعمارة والفضاء والثقافة والحياة.
لذا، فإنّ موتَ فردٍ لن يكون، بالضرورة، موتَ مدينة. الطاغي كامنٌ في أنّ موت هذه المدينة (بيروت) والشارع (الحمرا) أحد أسباب موت كثيرين وكثيرات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.