}

ندم العندليب

منذر مصري 22 فبراير 2024
آراء ندم العندليب
(حمامة تعبر الخراب، منذر مصري)

 

بولس: أين جديدك يا شاعر؟

منذريوس: صديقي... إذا كنت تصدّق حقًّا أنّي شاعر، فالشاعر لا يكتب لأجل شيء كهذا.

1- أخاطب الخيال

ما إن وصلت للصفحة /59/، السطر /8/ من قصيدة (إلى شاعر مغمور من شعراء الأنّطولوجيا الإغريقية) الذي يقول: "كلّ ما نعرفه عنك أيها الصديق، هو أنّك توقّفت ذات مساء وأنّت في طريق عودتك إلى المنزل لتسمع غناء العندليب". حتّى طويت كتاب (بورخيس - مختارات الشعرية)، وأعدت الوسادة للوضعية الأفقية التي تسمح لي بأن أوسّد فوقها رأسي المنهك، بعد كلّ تلك المتاهات اللغوية المستحيلة التي يبدو، أن متعة بورخيس هي أن يرانا نتخبط في مداراتها المغلقة! فشاعر المرايا المعتمة، ليس كمثل أيّ شاعر آخر، عالمه بقضّه وقضيضه، مصنوع من الكلمات المتعامدة والمتقاطعة والملتوية والمتشابكة والضائعة والمتلاشية. جرّبوا وضعوا أنفسكم مكانه، هو القائل بعظمة لسانه: "لست متأكّدًا ما إذا كنت موجودًا، وكلّ ما أستطيع قوله، هو أنّي أخاطب الخيال".

2- عندليب الرمل

أتعلمون من أين جاءت رغبته المريبة هذه في انتشال الشاعر الإغريقي الذي بلا اسم، من النسيان والعدم؟ وما السبب الذي دفعه لاختيار تلك الواقعة، على وجه الخصوص، واقعة عدم معرفتنا أيّ شيء عن إنسان ما، ولد وعاش ومات، والله وحده يعلم ماذا جرى معه من أحداث، وماذا ارتكب من موبقات، سوى أنّه توقّف ذات مساء، وسمع غناء العندليب! لا ليس لطرافتها الفائضة، ولا لكونها، كما يريد بورخيس أنّ يجعلنا نصدّق، شديدة الوقع علينا نحن البشر الذين سنمضي دون أنّ يعرف الآخرون عنّا شيئًا، ولو عديم الأهمّية، ولو في غاية التفاهة، أو حتّى إنّنا يومًا ما وجدنا في هذا العالم! بل لأنّ العندليب الذي وقف وأصغى إليه الشاعر المغمور، كان هو خورخي بورخيس نفسه! ألم يوقّع على بعض أشعاره باسم: (عندليب الرمل)!

3- المعلّم لم يكن بهذه السذاجة

تقول له إنّك معجب بقوله: "الشعر بجوهره شعور، شعور بأنّ شيئًا على وشك أنّ يحدث، ولكنه لا يحدث أبدًا، لا بل شيء آخر يحدث دائمًا". رغم أنّك تجد فيه ذلك الاستخدام الملغز للكلام، كما أنّك أيضًا لا تدرك ماذا يمكن أن يعنيه على وجه التحديد، وذلك لأنّه عندما يقول الشعر بجوهره شعور يؤكّد صحّة ما ذهب إليه محمد سيدة دي لامانتشا، عندما قدّم لي مخطوطته الشعرية اليتيمة: (لو كنت وردة حمراء حقًّا)، مزركشًا بخطَه الجميل على الصفحة الأولى منها: "يسرّني أنّ أقدّم هذه المشاعر...". نعم، قال هذه المشاعر ولم يقل هذه الأشعار، وذلك لأنّه، بأخذنا بالاعتبار دافعه الأول والأخير لكتابة الشعر، لم يكن يجد هناك فرقًا، حيث كانت العاطفة تذيب وتخلط كلّ شيء بكلّ شيء! فيجيبك، بلهجة من لا غاية له سوى موافقتك: "آه. أجل، أظنّني يومًا قلت كلامًا من هذا القبيل!" ويتابع ليعطي لجوابه بعض المصداقية: "ثم إنّ المعلّم لم يكن على هذا القدر من السذاجة التي كنّا نظنّ!"

4- نصيحة الأم

شبهة أخرى تحوم حول بورخيس ومحمد سيدة معًا، وتربطهما بمصير حزين وشجي مشترك! وهي عندما جاءت إيلسا استيتي، زوجة بورخيس الأولى، وتشكّت لأمّه السيدة ليونور أسيفيدو سواريز بأنّه مضى على زواجها من ابنها ستّة أشهر، أي نصف سنة بالتمام والكمال، وهو ينام في غرفة منفصلة! دون أن يضاجعها ولو لمرّة واحدة! أجابتها الأم بعبارة صريحة ومختصرة، ولكنّها في الوقت نفسه، كافية ووافية: "ابني لم يخلق لشيء كهذا"! ولأنّها سيّدة نبيلة، تفعل كلّ شيء بوحي من قلبها العطوف، لم تبخل على المرأة المسكينة بنصيحة: "إذا كنت تشعرين بالملل، فاذهبي واقرأي كتابًا".

5- /100/صفحة قبل النوم

غير أنّي أعدت من جديد وسادتي للوضعية التي تسمح لي بأنّ أسند عليها ظهري، وأتابع القراءة، من حيث توقّفت إلى الصفحة /100/! كما يتفاخر أمامنا صديقنا الطبيب فائز عطاف، بأنّه، مهما بلغت انشغالاته، التي تتراوح بين /6/ و/12/ عملية جراحية، كبيرة وصغيرة، مدفوعة ومجّانية، يوميًا، فلا بد له، قبل أنّ ينام، وهو مستلق على فراشه، من أنّ ينهي قراءة /100/ صفحة، لا تزيد ولا تنقص، بأيّ حال من الأحوال، من الكتاب الذي يضعه بجانبه على كوميدينة السرير تحت المصباح. فأسأله بكل جِدِّية: "وماذا إذا كان الكتاب بكامله /80/ صفحة أو /110/ صفحات؟".

"عاش بورخيس /87/ سنة، وألّف /70/ كتابًا، في الشعر والقصّة والمسرح والمذكرات، لا يقول فيها شيئًا سوى الصمت" (الصورة: غيتي)


6- النسر

أخبرني د. فائز بلغة الواثق من كلامه التي اعتاد استخدامها في عيادته ليحوز على ثقة مرضاه به كمنقذ لهم من آلامهم ومخاوفهم، وقناعتهم بصحة أي علاج يقترحه عليهم، أنّ هناك معادلة، قد نعدّها في بادئ الأمر، لا أكثر من هرطقة، لكنّها اختبرت وطبّقت على عيّنات عشوائية مختلفة المصادر، وقد أثبتت صحّتها، في جميع التجارب، أنّه حسب عدد الصفحات التي يقرؤها المرء، على السرير، قبل النوم، يتحدّد عدد سنوات حياته. وأنّه، في الحقيقة لم يختر هذا العدد من الصفحات لمجرّد أنّه عدد جيد بكلّ الاعتبارات! بل لأنّه يعلم أنّه سيموت، تحديدًا، بعمر المئة! ومرة أخرى حين أعود وأسأله: "وماذا إذا كان الكتاب بكامله لا يزيد عن /98/ صفحة، وهذا أمر ليس من المستحيل أنّ يحدث، مثالنا على هذا كتاب بول غوغان (نوا نوا - مذكرات تاهيتي) الذي يبلغ عدد صفحاته، إذا جمعنا الصفحات التي تضمنت التعريف الطويل بصاحبه واللوحات الساحرة لمحظياته من الفتيات اليافعات التاهيتيات، الرقم نفسه؟". عندها ينظر الطبيب الجراح متفرّسًا في وجهي، وكأنه يفحّص بثرة سوداء تحت عيني، ويقول بنبرة خائبة: " كنت أتوقع منك شيئًا أفضل من هذا يا منذر. تقول عن نفسك إنّك شاعر! وحسب معرفتي، للشعراء أجنحة"!

وكما يغمغم بورخيس في نهاية حواره مع المترجم الأرجنتيني سوتو إكالفو جوابًا على ذات الاعتراض، وإن بتحريف بسيط: "كان طبعًا هو صاحب الأجنحة"!

7- ندم بورخيس

في الصفحة /99/ أي صفحة /100/ تنقصها صفحة واحدة، من كتاب (بورخيس - مختارات شعرية) ترجمة وتقديم د. حسن حلمي، وإصدار دار شرقيات في القاهرة، سنة /1999/ أي سنة /2000/ تنقصها، بدورها، سنة واحدة، ولا أظنّ هذا إلّا علامة فأل سيئ ينذر بوقوع حادث مروّع في المستقبل القريب، ربّما بعد سنة، ربما بعد أشهر قليلة لا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة! هناك قصيدة من سطرين لا أكثر بعنوان من كلمة واحدة (ندم):

"أنا الذي كنت رجالًا كثيرين، لم أكن قطّ،

ذاك الذي انتشت في حضنه ماتيلدا باخ".

هذا النوع من العناوين التي يعوّض فيها الشاعر عن نقص ما في القصيدة، التي غالبًا ما تكون، ليس دائمًا، من نوع القصائد القصيرة والمقتضبة، ومثلنا هنا، أنه بدل أن تأتي كلمة (ندم) كعنوان للقصيدة، يمكن أن تكون، وهو ما أقوم بفعله في قصائدي، السطر الأوّل في القصيدة، كأن يقول:

"نادم أنا

الذي كنت رجالًا كثيرين، ولم أكن قطّ

ذاك الذي انتشت في حضنه ماتيلدا باخ".



8- عاشق ماتيلدا باخ الذي مات أربع مرات

لكنّ السؤال الذي أعيا جميع قارئي وشرّاح شعر بورخيس معرفة جوابه، عداك عن غموض المناسبة، التي أدّت، ونحن نعلم الحالة التي بورخيس عليها من هذه الناحية! إلى كتابتها: "من هي ماتيلدا باخ تلك!". قبل أن يتبين لاحقًا لأحد المنقبين في كتابات بورخيس الباكرة جدًّا التي لم يولها هو نفسه أيّ أهمّية، أنّها بطلة إحدى الروايات الشعبية التي كان بورخيس يكتب في صحيفة محلية مراجعات نقدية قصيرة عنها وعن سواها من الكتب الصادرة حديثًا، تنشر عادة في الصفحة ما قبل الأخيرة، مغفلة حتّى من ذكر أسماء أصحابها. وكانت امرأة ذات نصيب كبير من الجمال، تعيش علاقة حب جارف مع رجل، لا تعرف عنه سوى أشياء قليلة، يأتي لعندها من مدينته القريبة، لا بلاتا، جنوب بوينس آيريس على الأغلب، انتهت فجأة بضربة قاصمة عند موته بحادث سير مروّع وهو في طريق ذهابه إلى بيتها! غير أنّها في مساء يوم ماطر، بعد ما لا يزيد عن ثلاثة أشهر من الافتقاد والحزن، وبينما كانت تستعد لتأوي وحيدة إلى سريرها، سمعت طرقًا مألوفًا على بابها، فإذ بحبيبها الميّت بلحمه وعظمه يقف أمامها، ليعيدا سيرة حبهما الجارف، بعد شعور عميق بالفقدان. ولكن القدر الأعمى الذي كان يتربّص بهما، عاد وقتل العاشق بحادث سير مشابه إلى حد بعيد، وهو في طريقه إلى بيتها. وهذه المرّة لم يمض شهر فبراير بأيامه الثمانية والعشرين، حتّى عادت وسمعت في مساء ماطر النقرة الأليفة ذاتها على بابها، وألبيرتو ذاته بلحمه وعظمه، وسيجارته المبللة، ولكن ليس المطفأة، عالقة في زاوية فمه، يقف أمامها! من يصدّق، القدر الذي يقتله يعيد إحياءه! أو ربّما هناك قدران، واحد يقتله وواحد يعيد إحياءه! هذه المرة رجته أنّ يبقى قربها، ولا يغادر بيتها أبدًا، وهذا ما فعله بكلّ طيب خاطر، ولكن بعد فترة زمنية ليست قصيرة، قال لها إنّه لا بد له من السفر إلى مدينته لإنجاز عمل يتعلّق بورثة عائلية لا يستغرق منه سوى يومين أو ثلاثة على الأكثر! وكما كانت تخشى، كما كانت تعرف من داخلها على نحو مؤكد، مات وهو في طريقه عائدًا لعندها بحادث سير مروّع آخر! من يصدّق؟ يصدّق من سيصدّق أنّه للمرّة الرابعة، ولم يمضِ أكثر من أسبوعين على وفاة ألبيرتو دي سييرا، أنّها، عادت ذات مساء ماطر من زيارتها لأمّها المريضة، لتجده مستلقيًا على الكنبة الكبيرة التي لا يصلح سواها للعناق والمضاجعة السريعة عندما تقتضي الظروف، في غرفة الصالون الواسعة الأرجاء! لا بد أنّه شبح، فهي بنفسها رأته ميتًا عندما استدعوها لتتعرف على جثته، بعد أنّ عرفوا أنّها صاحبة السيارة التي يقودها! "أنتم لستم سوى شبح ألبيرتو! لا لا يمكن أنّ يكون هذا حقيقة"، راحت المجنونة تصيح، جربوا أيضًا وضعوا أنفسكم مكانها، وهي تطلق عليه رصاصتي مسدسها الصغير ذي الفوهتين، الذي تحرص على حمله داخل حقيبتها، في كلّ مرّة تعلم أنّها ستعود متأخّرة إلى البيت.

9- التوائم الأربعة

الحقيقة أنّ ألبيرتو دي سييرا وأشباحه الثلاثة، كانوا التوائم الأربعة الذين ولدتهم السيدة إيميليا دي لاتوري، من رجل غريب أسمر البشرة وأجعد الشعر، ليس أرجنتينيًّا على الأرجح، عاشرته لأيام معدودة، معاشرة الأزواج، وهي بالكاد تعرفه، تركها بعدها من دون أنّ يقول لها شيئًا، ماتت بعد ولادتهم مباشرة، فأخذوا التوائم الأربعة إلى الميتم، وتربّوا هناك، حيث كانوا ينادونهم أربعتهم باسم واحد، لاستحالة أن يميّز بين ملامحهم أو أصواتهم أو حتّى طريقة نظراتهم أحد! منذ ما يقارب الثلاثين سنة!

10- الصمت

لا أحد يعرف الحدّ الفاصل بين الصادق والمزيّف، بين الأصيل والمنتحل، بين الحقيقي والسراب، في كلّ ما كتبه، وكلّ ما تكلّم به عن نفسه، عندليب الرمل. شيء واحد يمكن لنا أن نتساهل مع أنفسنا ونقوله عنه: "عاش بورخيس /87/ سنة، وألّف /70/ كتابًا، في الشعر والقصّة والمسرح والمذكرات، لا يقول فيها شيئًا سوى الصمت"...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 8/6/2023


* توفّي د. فائز عطاف وزوجته د. هالة سعيد، بعد /6/ أشهر من تاريخ كتابة هذه القصيدة، ضحية الزلزال المدمر الذي ضرب غرب سوريا - جبلة، الساعة الرابعة والثلث، فجر 6/2/2023. من قال إنّ الشعر لا يتنبأ! بالكوارث على الأقل.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.