}

عن الفن في مواجهة القتل

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 26 يناير 2024
آراء عن الفن في مواجهة القتل
يجرم الفنان السوري سميح شقير كل قاتل
عادة ما تكثف الأفلام القصيرة الحدث، أو الفعل الدرامي، للوصول إلى المتلقي عبر استخدام الأدوات السينمائية ذاتها للأفلام الطويلة، من صورة ـ سواء كانت صامتة، أو ناطقة ـ وممثل، سواء اعتمد المنتج على البطولة الفردية، أو الجماعية، إلا أن المتلقي في فيلم "منضمدها" يجد نفسه أمام حالة مختلفة، حيث يقدم العاملون عليه الحب للوطن، والانتماء له، كاملًا من دون نقصان، ويتحدثون إلى المشاهد بلغة الذكريات، والتطلع إلى المستقبل، يمسكونه من يده، ويذهبون به إلى عمق مأساته، ثم تعلو به الأيدي الناعمة إلى لحظة التسامي على الجراح وبلسمتها، فيعيش داخل الصورة حالة صراعه الدامي، وحلمه القادم، وهو ما يجعل من ذلك المشهد فيلما طويلًا عمره 12 عامًا من التضحيات والموت والتهجير والتشرد، من لحظة صار السلاح لغة الحوار، وصارت كلمة "الحرية" تهمة وجريمة إرهابية، حتى ذلك اليوم الذي تلتئم فيه جراح السوريين جميعهم.
خلال ثلاث دقائق، عبرت سيدات السويداء في فيلم قصير جدًا عنوانه "منضمدها" عن رغبتهن في رتق خارطة الوطن الممزقة إربًا، عبر جمعهن أجزاء سورية المبعثرة شمالًا وشرقًا وغربًا وجنوبًا، وتضميدها بحبهن وخيوط أملهن، حاكت أياديهن خارطة وطن أصابه الوهن، ووضعنها تحت الشمس، كأنهن يجابهن السلاح والرصاص والطائرات وقوى الأمر الواقع بخيط وإبرة، بأياد ممدودة للسلام لا للحرب، للحب، حيث لا مكان للحقد، لم يتركن ركنًا من سورية إلا وعملن على إعادتها إلى حيث هي قلب سورية، في قلوب سيدات السويداء، فمن حيث أنت تسعى إلى حل الصراع في سورية، ستراه كما صورنه لك، فالوطن هو قطعة حب واحدة تحت ضوء الحقيقة.
فيلم "منضمدها" هو إنتاج محلي لم ترصد له موازنة مالية، ولا يبدو أن كاتبته، الدكتورة لجين حمزة، هدفت إلى اكتشاف نجوم دراما، فقد عملت سيدات محافظة السويداء على تجسيد فكرتها البسيطة، بفطرة الأم، التي تجسر الخلافات بين أولادها بالحب، وتصل ما بينهم بالمودة، وتبحث في عمق المشكلة، وتصنع مسار الحل الذي تجاهله المتصارعون في سورية، وعلى سورية، لثلاثة عشر عامًا.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن وحدة سورية "الوهمية"، يصارحنا الفيلم بصورته الطبيعية الصادقة للمصور أسامة هلال ـ رغم أنها ليست بالتقنيات عالية الجودة، وبمدته القصيرة، وهي أننا نعيش حالة التقسيم كما هي في الحقيقة، مجرد "نتف"، حيث تحكم سورية الممزقة قوى الأمر الواقع بسلاحها وتبعياتها من النظام إلى الفصائل بمسمياتها المختلفة، لتبدو سورية كأنها تلك الأقمشة المترامية كما صورتها "حمزة" في فيلمها على طرقات وصخور أرض السويداء.




لقد أراد الفيلم أن يضيء على الواقع، كما هو، من حقيقة كون البلاد اليوم، هي شتات ممزق على المستوى "السلطوي" الحاكم للمناطق، بيد أن سيدات السويداء أردن التأكيد أن هذا التقسيم لم يستطع التسرب إلى ديمغرافية سورية، إلى شعبها الصامد، فبقي السوريون متمسكون بوحدتهم، ويعملون على جمع أجزاء بلدهم المتناثرة بين الداخل والخارج، بين المحلي والدولي، وما بينهما، أو معهما، من فطور سامة من نظام وفصائل ومنظمات تسلقت وتطاولت على هذا الواقع.
حاكت أيدي السيدات "الممثلات" تلك القطع المتناثرة جميعها، لم تستثن منها أي قطعة، بمعنى أنها دعوة إلى وحدة كل سورية، عبر فيلم بسيط في فكرته وتصويره وإنتاجه، لكنه ثري في معناه وغايته، وهو الأمر الذي يتطلب في معناه السياسي لقاء الأضداد مع بعضها، للمضي إلى الحل الشامل الذي يحفظ وحدة سورية، وفقًا لكل القرارات الدولية، أي ما يحكمه النظام، مع ما هو تحت سيطرة جبهة النصرة، ومع ما هو تحت حكم فصائل المعارضة، وأيضًا ما يسمى الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سورية، وكل هؤلاء مع السويداء المحافظة الثائرة في وجه النظام السوري.
مضمون أي دعوة إلى وحدة سورية وشعبها لا يختلف، سواء طرحت عن طريق الفن، شعرًا، أو غناء، أو أفلامًا، أو عبر طروحات سياسية، من أحزاب، أو منظمات، أو هيئات دولية، وهو ما يجعل كثيرًا من الراغبين في إنهاء الصراع السوري، والتعجيل في بناء الدولة الديمقراطية، يبحثون عن المشترك بينهم، ويتجاوزون أخطاء هنا، وخطايا هناك، على أمل أن يكون القاسم المشترك بينهم هو الوطن بكل مساحته، كما هي تلك الخارطة التي حاكتها سيدات السويداء الثائرات، فيه المواطن الحر هو السيد والحاكم والمحكوم.
ولعل ضمن هذه المفاهيم تنطلق دعوات فردية وجماعية للحوار بين أطياف تدعو إلى الديمقراطية، وتحملها كشعار لها، ومنهم الفنان السوري سميح شقير، الذي وظف فنه في خدمة ثورة الحرية والكرامة، منذ انطلاقتها، وواجه بكلمته ولحنه وغنائه كل معتد على حرية السوريين، من دون أن يجرد أي طرف من سوريته، حيث تحمل دعوته إلى فتح الحوار بين ثائري السويداء والإدارة الذاتية الهدف ذاته، وهو رتق الفتق السوري الذي يكبر مع الزمن، وذلك لإيمانه أن القطيعة بين الأطراف المتصارعة لن تثمر دولة واحدة، وأن ترميم جسور التواصل بين السوريين هو ما يبني الأوطان الحرة، ولأن للثورة أدواتها السياسة، وأدوات السياسة في كل زمان (حرب أو سلام) هي الحوار وبناء جسوره، فإن فتح مساراته خطوة للتعريف بالمشتركات لتعزيزها، والإشارة إلى مكامن الخلل عند كل طرف لتجاوزها، وليس للغرق فيها.
يجرم سميح شقير كل قاتل، ولا يتجاوز مطلب العدالة عند كل طرف، حتى من يحاورهم، أو يعاديهم، أليس هو القائل في أجمل أغاني الثورة وتميمتها التي تتردد على الألسنة في كل يوم "يا حيف"، ومنها "اللي بيقتل شعبه خاين، يكون من كاين، والشعب مثل القدر والأمل باين"، فهو القابض على ثورته من قبل أن تبدأ ثورة السوريين، ولا يزال قابضًا على هذا الجمر، على أمل أن تثمر تلك الثورة وطنًا للجميع، ما يجعل من كل تهجم على دعوته للحوار من دون البحث في مضامينها التي لا تدعو إلى تجاهل أخطاء وعثرات المتحاور معهم، مجرد اصطياد في ماء سورية العكر، والذي يأمل سميح بتسامحه أن يجعله نقيًا من كل عيب.
لم تستطع كل أسلحة العالم أن تخمد صوت الفن السوري، ولن تستطيع، من الرسم إلى التمثيل إلى الشعر إلى العزف، إلى كل أنواع النضال السلمي ضد الاستبداد، ليس في سورية، وحسب، وإنما في كل مكان يناضل فيه الإنسان من أجل كرامته وحريته، وها هو سميح شقير الثائر السوري يشارك أطفال غزة حلم الوطن الكريم، ويهزم معهم قاتلهم، كما كان من أغنيته "يا حيف" التي عرى فيها قاتل الأطفال: "زخ رصاص على الناس العزل يا حيف، وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف"، إلى أغنيته المهداة لأطفال غزة، وتقول كلماتها كما كتبها على صفحته في فيسبوك: "عنكم، عن الباقي منكم، عن رعب داهمكم، بيحكوا، وكل الحكي عنكم، وما في أيادي ترد النار عنكم، أو تنتشل أشلاء ولاد، تحت ردم منازلكم، بيحكوا بحقوق الإنسان، وقدامن دمات العزَّل، عم تسيل على الحيطان، لا ضو ولا مي ولا دوا، وحدو الموت بكل مكان، يا صوتي هز الأكوان، خبرهم عن مركب حلم، جرحوا صخر الشطآن، وقلن لو شفتو طير انسجن، اسألوا مين السجان، واللي رايح منو وطن، رح يرجعلوا كيف ما كان".

*كاتبة سورية.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.