}

الدراما الرمضانية من نافذة التعليم إلى الترهيب

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 6 أبريل 2024
هنا/الآن الدراما الرمضانية من نافذة التعليم إلى الترهيب
الممثل محمود نصر في مسلسل "ولاد بديعة"
قدم الغرب في كثير من الأفلام السينمائية والحلقات الدرامية التلفزيونية الأدوار "فوق الواقعية"، سواء بثوب الشر، أو الخير، كبطولات مطلقة، وذلك لتمرير فكرة قبول التحولات الجوهرية المجتمعية والسياسية والثقافية والدينية، مستخدماً أدوات الفن الناعمة، لتمرير الرسائل ودسها في وجبات المتلقين الفنية، من خلال وجود فنانين مشاهير، أو عبر أيقونات نموذجية من أفلام كرتونية قدمت لأطفال الأجيال السابقة، أو الحالية، كما حصل في فيلم "أليس في بلاد العجائب"، وفيلم "باربي"، وفيلم "الحسناء النائمة"، وغيرها، بعضها كانت غايته تقبل المثلية، على سبيل المثال لا الحصر، وتوسيع نطاق قبولها عالميًا، والتي سرعان ما أصبحت كغيرها من القضايا الغربية نصاً حقوقيًا ودستوريًا يمثل قبول المختلفين، ويعاير من خلالها تطبيع المجتمعات الأخرى معه، ويحدد عبر ذلك قرب دول أو بعدها عنه، أولًا من باب الفن الذي يفتح على غرف السياسة وملحقاتها تاليًا.
ولم تتأخر الأنظمة العربية عن الاستفادة من موجة التغيير التي يحدثها الفن في المجتمعات، فقد استخدمت هي الأخرى السينما، وبعض الدراما التلفزيونية الحالية، التي اجتاحت شاشات التلفزة، في رمضان خاصة، حيث ترتفع نسب المشاهدة إلى أعلى مستوى، ولكن لأهداف مختلفة عما استخدمها الغرب، الذي روج للتغييرات بناء على فكرة قبول الاختلاف، والمصالحة مع المختلفين، حتى في القيم الدينية والمجتمعية، انطلاقًا من "ثيمة الحريات والديمقراطيات"، بينما كان الفن في بلادنا مختلف الهدف والوجهة.
فقد قدمت كثير من الدراما التلفزيونية أعمالها الرمضانية ببطولات مطلقة لأشرار، أو مجرمين، بغطاء الأمراض النفسية الوراثية منها، أو المكتسبة التي تكاثرت مع ضغوط الحياة وتنامي المشكلات الاقتصادية واشتعال الحروب، والغاية من تقديم هذه الأدوار ليس إحداث تحولات قيمية كما هي حال الغرب، وإنما تحميل المجتمعات الشعبية مسؤولية الخراب الذي حل بها، وتزوير حقائق شخصيات المسؤولين عنها، والتعتيم على أسبابها الحقيقية، فحيث تغيب عنها أفكار الحرية، ويحضر الفساد المالي والمجتمعي والرشوة والخيانات بمستوييها الشخصي والوطني، تتصدر الجهات الرسمية لتكون هي الملاذ لتحقيق العدالة التي غيبها فاسدون منهم، مع تسليط الضوء على أن جرائمهم هي أخطاء فردية، وليست سياسات حكم الأنظمة ورغباتها.
تعاني الشخصيات المتخيلة من كتابها من الأمراض النفسية ذات الأبعاد الإجرامية، وقد  أخذت طريقها إلى أدوار البطولة المطلقة، أو الشخصيات المحورية للأحداث، وخاصة العنفية، أو الإجرامية، أي "نحن اليوم أمام ظاهرة عكسية، حيث صار أبطال الأمس هم أشرار اليوم، وأشرار الأمس صاروا هم أبطال اليوم"، كما يقول كتاب "الأشرار" لمؤلفيه الثلاثة (محمد الهمشري، كريم طه، عمرو كامل عمر)، وحيث استطاعت هذه الأدوار بتعقيداتها وتطوراتها على المستويين الشخصي والتفاعلي أن تكون عامل جذب وتشويق للمتابعين، إلا أنها أيضًا صارت السوط المؤلم الذي يجلد فيه المنتجون مجتمعاتهم، ويذهبون بها إلى حيث تشاء الأنظمة التي ترعاهم وتحمي نطاق تجارتهم.




وعلى أهمية التعمق في النفس الإنسانية التي قدمت الشخصيات الإيجابية، أو السلبية، إلا أن التركيز على تقديم النماذج الشريرة في إطار درامي معلّل بأسباب مرضية، من شأنه أن يستدرج المتلقين للتعاطف معهم، ما يضعنا أمام مخاطر جمة، بخاصة إذا استطاعت بفنياتها وحبكتها أن تحولهم إلى "القدوة أو الأنموذج" الذي تهتدي أو تتشبه به أجيال شابة، ويجعل منهم المجتمع معيارًا جديدًا في مسار التغيير المفاهيمي الذي تسعى له إدارات الإنتاج الموظف، وقد لا ينكر أحد تأثير كثير من الشخصيات الشريرة على الذوق العام للشباب، سواء الفني، أو الشكلي، أو حتى في اللازمة الكلامية.
فبعد أن كانت الدراما التلفزيونية في شهر رمضان المبارك نافذة للهروب من الواقع الرتيب إلى مخيلات الكتاب، ومجسدي شخصياتهم التاريخية، أو الاجتماعية، أو النضالية، من ممثلين ونجوم عالمنا العربي، انقلب بعضها علينا ليصبح أداة تعذيب إضافية، إذ تصدرت الجريمة والمآسي الحدث الذي يستنزف مشاعرنا، وبدل أن يضعنا في مواجهتها، غير متعاطفين مع مرتكبيها، أو متقبلين لمساراتها، صارت مبررًا لقبول السيء خشية قدوم الأسوأ، وخاصة أن المنتجين يقدمون الجرائم على تنوعها وانعكاساتها نتيجة واقعية لمقدمات مجتمعية وأمراض نفسية، يعاني منها المجتمع والأفراد على حد سواء، وقد نجا منها، فقط، "المسؤولون" الكبار في البلاد.
لقد استغلت السياسة في العالم جميعه اتساع أفق الفن، وإمكانية تغلغله إلى مجتمعاتها، وحملته مسؤوليات الترفيه، أو التثقيف، أو الانفتاح على العلوم ومتغيرات البيئة وتهديداتها، إلا أنه في بعض عالمنا العربي انتقل من نافذة التعليم إلى الترهيب، بعد أن منح الفن مساحات من الحريات الممنوعة عن المتلقين له، لبناء جسور مع جمهوره، ما يسهل مهمته كصندوق بريد لها،  تكتب من خلاله الأنظمة رسائلها، وترسم "سيناريوهات مستقبلية" لأبطاله، تمنح فيها جوائزها، وتشدد من أنواع عقابها، ليصبح القادم مقروءًا أمام الشعوب، فها هي ثورات الحرية مساحات من الفوضى والجريمة والفساد، وتلك سنوات ما قبلها عالم من الود والوئام والسلام، فإلى أيهما يختار المشاهد العربي وقد تمثل له العقاب والثواب؟
هذه برأيي رسائل رمضان 2024 في دراما تلفزيونات البلاد التي اجتاحتها رياح ثورات ربيع لم يزهر بعد، وهي دروس فيها العبر لمن يريد السير في دروبها، والتلظي بنيرانها.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.