}

هل أصبحت الإيكولوجيا أفقًا للفكر؟

فريد الزاهي 25 يناير 2024
آراء هل أصبحت الإيكولوجيا أفقًا للفكر؟
أندري غورتز، فليكس غواتاري وريجيس دوبريه

 

يبدو أن الإنسان المعاصر قد تناسى تمامًا التحديد المنطقي والمعرفي الأرسطي باعتباره حيوانًا ناطقًا. وهو بذلك، ومن خلال هوس الفلسفة العقلانية الديكارتية وتوابعها، لا زال يقيس تطوره بتملك الطبيعة والسيطرة عليها، فأمسى اليوم ضحية لها ولذلك الهوس. لقد غدت المدنيّة والحضارة رديفًا لتدمير الغابات والأوساط الطبيعية المحيطة بها؛ ولبناء "أوتوروت" أو توسيع طريق أو تشييد مطار جديد، لا يُتورع عن اقتلاع أشجار نادرة كالبلوط أو الأركان. وحين يتم ذلك بوحشية، لا يتم التفكير في إعادة التشجير. فالحيوان الناطق بات يعتقد يقينا أنه كفّ عن أن يكون حيوانا، لأنه صار سيد الطبيعة التي يتحكم فيها كما يتحكم في مطبخه.

بيد أن السحر ما لبث أن انقلب على الساحر؛ فمن ثقب الأوزون المفزع وذوبان مجْلدات الشمال والجنوب، إلى التصحر، مرورًا بظواهر التسونامي والجفاف وتغير مواعيد الفصول، أضحت الطبيعة تنتقم من هذا الاستهلاك الفظيع لها، ومن تسخيرها بشكل نهم لبناء حضارة تقدّس العمل والاستهلاك وتبذير الخيرات والبنايات الشاهقة وإنتاج البلاستيك.

التفكير في الطبيعة تفكير في مآل الإنسان

نحن في طفولتنا كنا نعبر المدينة القديمة والجديدة على الأقدام لنجد أنفسنا وسط البساتين والحقول الشاسعة المحيطة بنا. عقودًا بعد ذلك تجد أن مدينة الطفولة صارت وحشًا ضاريًا، يضج بالسيارات والشوارع والبناء العشوائي. لقد صار مركز المدينة، الذي كان يشكل حاضرتنا وحاضن حياتنا، نقطة صغيرة في مجال شاسع يصعب أن يتعرف عليه المرء. فلكي تصل من الأطراف التي تطورت في كافة الاتجاهات، عليك أن تقطع مدنًا أخرى بكاملها... ليس هذا فقط، فالنهر الذي كان يخترق المدينة بمياهه الرقراقة، وكنا نمارس فيه العوم ترطيبًا لجو الصيف الحارق، اندثر واندثرت معه معالم كثيرة حولت المدن إلى كيانات تغيرت معالمها تمامًا وعلينا أن نستكشفها باستمرار كأننا لم نعش بها. حتى العيون التي كنا نرتادها للنزهة في الجبل استولت عليها شركات التعليب لتبيع مياهها المعدنية للعموم في قوارير البلاستيك.

بعيدًا عن الحنين الفجّ، تفترض هذه التحولات التفكير، ما دامت حياة الإنسان المعاصر عبارة عن طاحونة أو آلة كبيرة للإنتاج والاستهلاك والخراب. وإذا كان الأطباء في غالبيتهم الساحقة لا يفكرون في الجسد إلا بشكل ضمني وعفوي، فعلماء الطبيعة ليسوا بالضرورة هم وحدهم من يفكرون في الطبيعة، وإن كانوا يمنحون لنا المعطيات التي تمكننا من تقدير هول المخاطر المحيقة بها. ونحن هنا لا نتحدث عن الناشطين الإيكولوجيين، الذين دقوا نواقيس الخطر منذ أواخر الألفية السابقة، ولا عن الأحزاب الإيكولوجية التي أدركت أن السياسة يمكنها أن تكون مدخلا لفرض احترام الطبيعة. بيد أن الآلة الوحشية لنظام الإنتاج والاستهلاك، لا زالت تمتلك ناصية السياسة العالمية، بترسانتها الحربية والنووية، كما بجشعها في امتصاص خيرات الأرض.

ليس من قبيل المصادفة أن يكون أتباع ماركس من المفكرين المعاصرين هم الذين بلوروا فكرًا وفلسفة إيكولوجية. فقد بنى ماركس فكره "الرومانسي" الطوباوي على مفهوم نقد الرأسمال ونظام العمل القائم على الاستلاب، في قرن كانت فيه الرأسمالية جشعة ومتوحشة ومعتدّة بنفسها، لا تؤمن إلا بمفهوم التقدم الصناعي والاستيلاء الإمبريالي على خيرات الشعوب الأخرى. ويعتبر المفكر الفرنسي أندري غورتز من أهم المفكرين المنحدرين من التيار الماركسي الذين ساءلوا تدمير الطبيعة في العلاقة مع الوجود الإنساني بمعناه الفينومينولوجي والسارتري. ففي الوقت الذي كانت فيه السارترية ذات مسحة ماركسية كان هذا الفيلسوف يتقصى بعدها الإيكولوجي مركزًا بالأساس على معاداة المنحى الإنتاجي والرأسمالية والتقنو علم. لقد اختار غورتز منذ بداية السبعينيات نهجًا إيكولوجيًا سياسيًا شاملًا، مستهديًا بالتوجه الإنساني للماركسية. وقد أكد هذا المفكر منذ 1976 على أن الرأسمالية العالمية، وهي تدفع بالرواج الاقتصادي، الذي يفرضه منطق الربح، إلى حدوده القصوى هو ما أدى إلى الأزمة الإيكولوجية منذ نهايات القرن. لهذا، خلافا للنزعة البيئية، لا يمكن للإيكولوجيا إلا أن تكون مناهضة للرأسمالية، وذلك ضدًا على كافة أشكال الإيكولوجيا العلموية والتكنوقراطية. فالإيكولوجيا، لدى هذا المفكر، لا يمكن فصلها عن منظور تحويل العلاقات الاجتماعية وتغييرها. وهي تهدف إلى تحطيم التنظيم الاجتماعي القائم على القيمة الاقتصادية والذي يتابع التنمية من أجل التنمية.

في الفترة نفسها سيصدر الطبيب النفساني اليساري فليكس غواتاري كتابًا يبلور فيه تصوره للثورة التي سماها "ثورة جزيئية" La revolución molecular (1977)، بعد أن ساهم مع جيل دولوز في كتابهما الطليعي: "الرأسمالية والشيزوفرينيا، ضدًا على أوديب"، حيث بلورا عدة مفاهيم جديدة يهمنا منها بالأساس هنا مفهوما الجذمور والترحيل. والجذمور مفهوم نباتي يغدو مجازًا لبناء فكر لا مركز له ويتطور في شكل شبكي. والترحيل أو تعطيل الموطن يدخل في هذا السياق باعتباره تغييبًا للمركز أيضًا، وانتشارًا جذموريًا يتعارض مع الأنموذج الأرسطي.

بعد أيار/ مايو 1968 سوف ينتمي غواتاري، الذي ظل متصلًا بجميع الحركات الاحتجاجية الفرنسية، إلى اليسار الجديد المعادي للإنتاجية. وفي كتاب "الإيكولوجيات الثلاثة" (1989)، الذي صدر ثلاث سنوات قبل رحيله، سينظّر لمفهوم "الإيكوصوفيا" باعتبارها مقابلًا بيئيًا للفيلوسوفيا. إن الفكر الإيكولوجي، حسب هذا المفهوم، يلزم أن يكون ذا ثلاثة تفرعات: الإيكولوجيا البيئية التي تهتم بعلاقة الطبيعة بالمحيط البيئي؛ والإيكولوجيا الاجتماعية التي تهتم بالعلاقة بالمجتمع بالواقع الاجتماعي والاقتصادي؛ والإيكولوجيا العقلية التي تهتم بالعلاقة بالنفسي وقضايا الذاتية البشرية. التفكير الإيكولوجي لدى غواتاري، بقدر ما هو مركّب يتطلب ويستدعي "إيكولوجيا شمولية" و"جزيئة"، وبقدر ما هو ذو بعد اجتماعي له جذوره الذاتية والجمالية. وهو في هذا المنحى يتقاطع بشكل واضح مع غورتز في نقد الحركات البيئوية التي تفصل البيئة عن الفرد والمجتمع. إن رأسمالية العصر الراهن، التي يسميها غواتاري "الرأسمالية العالمية المندمجة" لا تحترم الترابيات الموجودة ولا أنماط العيش التقليدية، ولا أنماط التنظيم الاجتماعي للمجموعات الوطنية. إنها نظام هيمنة شامل يتحكم في كافة الأنشطة البشرية العالمية. إنها، من ثم في نظر غواتاري، استعمار جديد مهيمن ومتحكم وشامل بكافة الآليات التي يتوفر عليها.


ومع أن غواتاري لم يعش إلا إرهاصات العولمة إلا أن تصوره كان نبوئيًا. فهذا المفكر الذي قرأنا له في شبابنا، وتعلمنا منه حرية الفكر النقدي، بعيدًا عن دوغمائيات جعلت منا ثوريين من غير ثورة، عرف كيف يحول التمرد إلى نقد يفكك أوصال الأيديولوجيات الرأسمالية العالمية المندمجة.  لقد كان فكره في أواخر القرن الماضي يستشرف ليس فقط تحولات المجتمع والذات والجماليات اليومية والفنية، وإنما مآلات البشرية التي غدت تعيش في أوهام جديدة مبنية على فردانية ذرية لا تواصل مباشر فيها.

لقد أدركت هذه الرأسمالية خطورة الفكر الإيكولوجي عليها، فسعت إلى تمثله وتطويعه لمصالحها، بغية تغيير جلدتها، لخدمة أفضل لمصالحها وباستراتيجيات تواصلية ذات بعد "إيكولوجي". وهكذا، فإن الشركات البترولية والمعدنية وصناعة السيارات الكبرى أضحت ترفع شعارات الدفاع عن البيئة والمحافظة عليه، وتبلور مفهومًا للتنمية المستدامة وللطاقات المتجددة وغير ذلك من "التدابير" التي لا تعمل من ورائها سوى إلى ذر الرماد في العيون وطمس التبصر إزاء الأهوال التي كانت وستظل سببا لها.

من الأيديولوجيا إلى الفكر البيئي في العالم العربي؟

يبدو أن الدول في بلداننا العربية، كما بعض الفنانين وجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، هي التي باتت تحمل شعارات الدفاع عن البيئة. أما المثقفون والساسة فلا زالوا منغمسين في الدفاع عن قضايا سياسية وفكرية وأيديولوجية من قبيل التنوير والعقلانية والحقوق المدنية وما إلى ذلك، تاركين هذه القضية الكبرى لتكنوقراطيي حكوماتهم ودولهم؛ وكأن التفكير في البيئة منفصل عن الذات والمجتمع والفكر والممارسة السياسية. صحيح أن هذه البلدان لا تعرف المعضلات الإيكولوجية التي يعرفها الغرب، غير أن العديد منها لا زال يخضع في مجالات نمائه الاقتصادي والاجتماعي على فوضى رأسمالية متوحشة لا تعير اهتماما للإيكولوجيا بوصفها علاقات اجتماعية وجماليات. وهكذا البيئة غدت هنا حصان طروادة يمتطيه كل من يرغب في أن يبرز انتماءه لريح العصر. والطاقات البديلة غدت صناعة بدورها تستهلك ما تستهلكه نظيراتها.

وهو ما أبعدنا عن النظرة التي أرساها غورتز وغواتاري. يبدو أن دارسينا ومفكرينا يعزفون عن التفكير الفلسفي والأنثربولوجي والسوسيولوجي بل والنفساني في الإيكولوجيا. لقد تركوها لطلبة المدارس الفنية لكي يتعلموا فيها عزف سيمفونيتهم عن الجمال والطبيعة والجماليات الإيكولوجية، ولكي يقوموا بمونوغرافيات بحثية عن الجماليات الإيكولوجية واختلافها عن الجماليات الفنية، كما عن التصميم ودوره الإيكولوجي. لا غرو أن هذا التفكير الإيكولوجي في مجمل أبعاده لا زال للأسف في بداياته لدينا، وهو بدأ يستجذب اهتمام الدارسين بعد أن قام بعض الفنانين والسينمائيين بالاقتراب منه بشكل حثيث.

حتى الترجمة بالعالم العربي مرت مرور الكرام على هذه الموضوعات. ولسوء حظ القراء أنهم لم ينتبهوا منذ أكثر من عقدين إلى فصل فريد وقوي ومؤسس للفكر الإيكولوجي، من ترجمتي عام 2002 لكتاب "حياة الصورة وموتها" لريجيس دوبريه بعنوان: ما بعد المنظر الطبيعي. وهو فصل قد يبدو تاريخيًا، غير أنه يظل باهرًا بتصاديه الذكي مع أفكار غورتز وغواتاري، وفي الآن نفسه بإعلان نهاية المنظر الطبيعي في الفن كما في الحياة السائلة المعاصرة، لأن الفن المعاصر يجعلنا نسبح في الهواء في كافة الاتجاهات، وبهذا تغدو نظرتنا سائلة بدورها ومعلقة فوق الأرض، مجتثة من جذرها الطبيعي. لقد أدرك دوبريه أن المدنية العولمية البصرية والرقمية تحول كل شيء إلى صور في شاشات الهواتف الذكية والحواسيب. والطبيعة التي لا تتطلب فقط التأمل الجمالي والمتعة البصرية، بل تتطلب أيضًا العمل اليدوي للفلاح. وإنسان المدن الكبرى المستعجل والحاشر أنفه في هاتفه، حوّل الطبيعة إلى فكرة أو بالأحرى إلى صور رقمية متداولة تؤثث شاشات الاستقبال. والفنانون الذين يرسمون الطبيعة غدوا فنانين من الدرجة الأخيرة مهما أتقنوا ذلك. لهذا يقول دوبريه بحسرة لا حنين فيها: ليس لنا أن نُفاجأ إذا ما غدا عالم الغد "عالمًا من دون فلاحين"، ومن ثمّ "عالمًا بدون فن"، أي عالمًا بدون طبيعة في نهاية المطاف... ألم يكن هذا صيْحة مبكرة لربط الجماليات بالإيكولوجيا، رغم أنها مهمة بالغة التعقيد، وتتطلب فكرًا نقديًا وجماليًا وسياسيًا في الآن نفسه؟     

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.