}

رسوم حسن صقر الروائية للطائر الميمم شطر الجنوب السوري

نبيل سليمان 30 سبتمبر 2023

في السطور الأخيرة من رواية حسن صقر "طائر الرحيل"، يرفرف طائر بجناحيه، ثم يبسطهما ميممًا شطر الجنوب السوري، غير آبهٍ ـ ظاهريًا على الأقل ـ بما يجري تحته في دمشق، وقد عجز، لأمرٍ ما، عن اللحاق بسربه.
قد لا تكون وجهة السرب هي نفسها وجهة الطائر. وقد يكون طيران الطائر جنوبًا عودةً إلى رحم الانتفاضة السورية في درعا سنة 2011. وقد يقرن المرء بين هذه العودة، وبين ما تمور به السويداء منذ أكثر من شهر. وأيًا يكن الأمر، فرواية "طائر الرحيل" هي الرواية الثانية لحسن صقر، والمتعلقة بما يعصف بسورية منذ 2011، بعد روايته "شارع الخيزران" (2014). وكما كتبت بصدد هذه، أكرر بصدد "طائر الرحيل" أن هذا الكاتب التسعيني يواصل الألق الكلاسيكي الذي يزداد ندرة في كتابة الرواية العربية. ولست أنسى ذلك النذير الذي أطلقه حسن صقر في روايته "امرأة قرب التمثال" (2001)، والممنوعة في سورية، حين يجأر فيها مصطفى قبل عشر سنوات من الزلزلة السورية: "أسرعي يا سورية فالأمر في غاية الخطورة".

تنطلق "طائر الرحيل" من قرية السماقية، حين طلب أحمد محجوب لابنه نادر يَد نور الهدى ابنة (الإقطاعي الرأسمالي) تاج الدين دخيل. وأحمد محجوب مدرس للتاريخ، وشيوعي متزمت في ماركسيته، لكنه ليس حزبيًا. وفي هذه البداية، يدور هذا الحوار بين شخصيتين عابرتين: "هل سمعت بما جرى في السماقية؟/ كلا، ماذا؟ هل حصل زلزال؟/ إذن، اقرأ هذا الخبر. إنه فضيحة". والفضيحة هي هذا التعقيب على الخبر: "كثيرًا ما ينتهي الشيوعيون على موائد الرأسماليين".


الحرب
يرى تاج الدين دخيل فيما يرى النائم أن أحمد محجوب ينقضّ عليه هادرًا: "أتسأل يا حيوان عن الوضع العسكري في جبهات القتال، وأنت السبب في كل ما يجري من دمار وقتل في سورية؟". وينتفض تاج الدين هادرًا: "صحيح الدولة مشغولة بالمؤامرة الكبرى على البلد، لكن هل يجوز أن تترك الحيوانات تسرح وتمرح على هواها؟". والرواية، إذًا، تبدأ بعدما آلت الثورة السلمية ـ أو الانتفاضة أو الحراك ـ وقمع النظام لها، وما أسرع عليها من العسكرة والأسلمة والأصابع الإقليمية والدولية، بعدما آل كل ذلك إلى الحرب الوحشية، حيث اعتقدت قرية السماقية أنها ربما تكون في منأى عما تسميه الرواية (الكارثة)، لكنها دفعت ثمنًا باهظًا لقاء هذا الاعتقاد "إذ انهال عليها الشهداء مثلما ينهال مطر الشتاء، وكان أولهم العقيد أحمد العباس القادم الآن مع موكب مهيب تحف به الزغاريد".




تصور الرواية جنازة العباس في مشاهد سرعان ما باتت مألوفة في القرى بخاصة، حيث يهدر مكبر الصوت بمآثر من أذاق الأعداء كؤوس الموت الزؤام، ودافع عن الأرض والعرض قبل أن يصرعه الإرهاب عن طريق الخيانة. ويندغم هدير المكبر بزخات الرصاص، بينما يتقدم رجل الدين، وتقدم الرواية أرملة الشهيد وابنته، والمشرف على الجنازة العقيد حسان الذي يسلم الأرملة مظروفًا فيه نقود، وتصير حنجرته مكبر الصوت إذ يهدر: "نحن نجابه بصورة غير متكافئة أعداء حاقدين جاءوا من كل أنحاء العالم كي يدمروا هذا البلد، لذلك فنحن كلنا مشاريع شهداء". ولكن ماذا لو صدق الهمس بأن تابوت الشهيد فارغ، أو بأن ليس فيه غير قطع من جسد العباس؟
يدور بين مدرس التاريخ والعقيد حسان حوار يشارك فيه المجدور الموالي للنظام، الذي كان في درعا حين قدحت فيها شرارة الانتفاضة. وفي هذا الحوار الكاشف والعاصف يتساءل المدرس أحمد محجوب: "أليست خان شيخون وداريا وسراقب، وغيرها كثير، جزءًا من الجغرافيا السورية؟". وإذ يجيب العقيد حسان بالإيجاب، يتابع المدرس: "أليست الدولة مسؤولة عن جميع المواطنين الذين يعيشون في هذه الجغرافية؟"، فاشترط العقيد في جوابه ألاّ يمدوا أيديهم إلى دول أخرى لتدمير دولتهم، لكن المدرس يتابع: "أليس من المفروض أن تجد الدولة وسيلة للتعامل مع مواطنيها غير الحرب؟"، فيتوالى هذا الحوار الملغّم:
العقيد: "هذا صحيح، غير أن الحرب قائمة في سورية لتنفيذ مآرب الدول الأخرى، الصغيرة منها والكبيرة".
ـ إذن، حروبنا بالوكالة، وشهداؤنا حتى بالوكالة.
ـ هذا صحيح.
ـ ولذلك فالحرب طويلة، والهاوية ليس لها قرار.
ـ أنا معك في كل ما تقول، ما عدا أن الجيش لا يستطيع أن يتخلى عن واجباته في الدفاع عن الوطن مهما دفع من أثمان باهظة.
وهنا ينبري المجدور الموالي مجلجلًا: "الدولة لا يجوز أن تنهزم أمام شراذم جاءوا من كل أنحاء العالم، ولا همّ لهم سوى القتل والتدمير، لذلك فالنصر حتمي"، فيشارك في الحوار رجل يعلن أنه كان موظفًا في درعا قبل الأحداث، وما فتئ يتساءل: "كيف تُترك محافظة مجاورة لإسرائيل، وملاصقة للأردن، في أيدي موظفين لا همّ لهم سوى النهب!"، فيندفع المجدور دامغًا قول الرجل بالحجج الواهبة التي مهمتها التشكيك، فيتدخل المدرس أحمد محجوب متسائلًا عن الانقلاب الجماهيري في درعا ضد السلطة: "لماذا تثور طبقات كادحة فقيرة، ضد حزبٍ تُعَد الاشتراكية ركيزة أساسية من ركائزه بدلًا من أن يدافعوا عنه إذا تعرض لمأزق؟". ويعلل المجدور ذلك بالنفط والبترودولار، لكن أحمد محجوب ينهي الحديث بقوله: "يجب أن تفتشوا عن الكرامة المفقودة قبل البترودولار".
وآخر ما يتعلق بالحرب في رواية "طائر الرحيل" هو ما يتولاه السارد عن الشهادة والشهيد، ابتداءً بالعقيد أحمد عباس، وانتهاءً بذي الأحزمة الناسفة والموعود بالجنة الذي يفجر نفسه في خيمة عزاء.
ترفض نور الهدى خطوبة نادر لها، ليس لأنه ابن المدرس الشيوعي خصم أبيها، أو لأنه لا يزال يدرس اللغة الإنكليزية في الجامعة، بل لأنها مرتبطة بالنقيب جهاد الذي ستبتر قنبلةٌ ساقيه في جوبر من ضواحي دمشق. وبينما تعرض نور الهدى الزواج على الضابط الكسيح، يحرضه نادر على أن يكتب رواية عن الحرب، منظّرًا أن الحرب جماع تجارب وخبرات، وهذا وحده لا يشكل رواية كعمل فني يُعتد به، لكنه يقدم المادة الخام لعمل روائي قد يكون عظيمًا. وإذا كان نادر يبدو هنا قناة للكاتب، فهو يقترح أن يتعاونا: الضابط المعطوب جسديًا، وهو المعطوب روحيًا، الأول يكتب، والثاني يقدم النصح ويشترك في الكتابة.



تتواصل الحرب في الجامعة، حين يودي في 14/ 10/ 2013 انفجار بطالبة وطالب عاشقين، وبعامل الكافيتريا، بينما كان أستاذ يحاضر في تجربة العبث في المسرح الحديث، ويقرر أن الكوارث ـ كالحرب الدائرة في سورية ـ علقم للأفراد، لكنها للشعوب مخاض لا بد منه. أما نادر فيؤكد لزميلته غنوة أننا كلنا متورطون في الإثم، وليس من حضور للعقل، والانقسام هو سيد المواقف. وحين يذهب نادر إلى دمشق يرى المدينة العصية على التملك، والتي لا تسلم زمامها لأحد، تمد جناحيها في زمن الحرب بين ماضٍ سحيق ومستقبل مترامي الأطراف، وكل منهما أشد غموضًا من الآخر. وفي دمشق، يلتقي بفاتن من المهجرين من ريف حماة، والمقيمة مع أمها وأختها في مدرسة في حي البرامكة، بعد ما قُتل أبوها. وإذ تقدح شرارة الحب بين فاتن ونادر، يلفعهما اليأس من المستقبل. فما من أحد يعرف النهاية، بحسب فاتن. وبحسب نادر يكفي أنّ لدينا الماضي والحاضر: فالأفضل لنا وللأطفال ألا يجيء المستقبل: "الأزمنة كلها متشابهة، فقط نحن نكذب على أنفسنا، فنرش العطر حيث تتفسخ الجثث". ولئن كنا جميعًا مهجّرين، ونعيش سلسلة من الكوارث، فقد صار لدينا عدد كبير من الأطفال الذين رأوا آباءهم يذبحون أمام أعينهم، وهذه مشكلة إضافية تمنع الأجيال القادمة من أن تنسى ما حلّ بها، كما يرى نادر الذي سيودي به وبفاتن في ختام الرواية انفجار، فيستحيلان إلى كتلتين نازفتين تمتزج دماؤهما، مجيبة على نداء الحب الذي أرسلته فاتن "ولكن بعد فوات الأوان".


الجنون
من الحرب ما هو جنون، والعكس صحيح. وبذا تنبض رواية "طائر الرحيل"، التي تحشد ثلاثًا من شخصياتها المجنونة. ففي جنازة العقيد أحمد العباس يظهر مجنون السماقية عطا الذي يعرف التوقيت بدقة دونما ساعة (؟). ويرد هذا المجنون محذرًا، وهذا ما يغدو لازمةً أثناء التشييع: "إياكم أن تنسوا خان شيخون". أما لماذا خان شيخون، فلأن عطا نزح مع أسرته منها بعدما أقامت هناك ثلاثة أجيال (40 سنة). وما كان النزوح إلا خوفًا من العنف الطائفي أثناء ما عرفته ثمانينيات القرن الماضي من الصراع المسلح بين السلطة والإخوان المسلمين.

جمانة، شقيقة نادر، هي المجنونة الثانية، وذات الحضور الكبير في الرواية. وإذا كان شقيقهما مروان الطبيب الذي سيترك عمله وأسرته ليتصوف، هو (المجنون) الثالث، فالأهم هو جمانة التي أخفقت في زواجها، وذاقت العذابات إلى أن رُميتْ في العصفورية.
من جمانة، سُلبت قواها العقلية عنوة، كما يخبر السارد ونادر، واقتص الجميع منها في مكان هو مقدمة شنيعة للموت: مشفى الأمراض العقلية بالتعبير المهذب. وقد اعتادت جمانة في عزلتها أن تطرح أسئلة ميتافيزيقية تستدعي بطبيعتها إجابات فضفاضة، كأنْ يكون السؤال: هل دخل البعوض سفينة نوح؟ ولما ضربت جمانة مجنونة أخرى على عينها، فأتلفتها، وصار مصيرها إما السجن، أو الطرد من المصح/ المشفى/ العصفورية، حضر نادر الذي تتناهشه النزيلات شبقًا. وعبر المديرة وغندور الذي تخشاه النزيلات، ومع سميرة نصار عضو الجمعية النسائية الخيرية، لا تتعرى العصفورية وحدها، بل المجتمع الذي يتولاه من يرمون بعيدًا عن المدن بيوت الدعارة والمصحات الصدرية والعقلية و... وللقراءة أن تصل بين ما ترسم الرواية من الجنون، وما ترسم من الحرب الوحشية المدمرة، وليس ذلك بالمشهديات، أو الحوارات فقط، بل دومًا في تسريد الأفكار والأمشاج الفلسفية وأسئلة الاجتماع والسياسة، ومن ذلك أن تلتمع في الرواية أسماء إليوت، وشكسبير، والمتنبي، والسياب، ودانتي، وسعيد عقل، وجيمس جويس، وسواهم. وإذا كانت رواية "طائر الرحيل" كما أراد لها كاتبها، مجلى لـ"صراع بين الخير والشر في إدارته لعجلة التاريخ" فقد كان هاجس حسن صقر دومًا هو مواجهة الإنسان لمصيره، وهو إيقاظ الإنساني في الإنسان. وتلك هي روايات حسن صقر "شارع الخيزران"، و"امرأة قرب التمثال"، وسواهما، مثل ترجماته عن الألمانية، تؤكد كل ذلك في مناداتها للفلسفة والفنون والأسطورة بخاصة، كما في كتابي هابرماس "الدين والعقلانية"، و"الخطاب الفلسفي للحداثة"، وكتاب ماكس فيبر "الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقى"، وكتاب جوزيف كامبل "قوة الأسطورة".

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.