28/ 9/ 2000 ـ البودي
مثل كل سنة، في هذا اليوم، حاولت أن أستعيد الطالب الذي كنت في الثانوية الصناعية في اللاذقية، صبيحة الانفصال الذي شلّني بين إقليمي الجمهورية العربية المتحدة.
ومثل كل سنة، في هذا اليوم، حاولت أن أستعيد المدرس الذي كنت في الرقة، عشية الموت الذي أودى بي مع جمال عبد الناصر.
لكن شارون نازعني على هذا اليوم حتى انتزعه.

8/ 10/ 2000 ـ اللاذقية
هل نسينا مجزرة الحرم في مثل هذا اليوم، قبل عشر سنوات؟
كان الأقصى الهدف الرئيس لكاخ ـ هل نسينا كهانا؟ كما كان لجماعة البيت بزعامة جرشون سلومون. والحشمونيون بزعامة بوال لاتر حاولوا نسف الصخرة.
هل نسينا ما فعلت أيضًا منظمة الأقصى بزعامة الحاخام لينفجر قبل...؟

9/ 10/ 2000 ـ اللاذقية
رأيت القدس أول مرة في عينيكَ عندما همستَ: أنا من بيت حنينا.
في تلك الظهيرة، كان هواري بومدين قد انقضّ على أحمد بين بيللا في الجزائر. كنا خارجين للتو من الامتحان، وأسرابهم وأسرابهن تنادينا ملء حديقة الجامعة. الآن تضيق الحديقة بأسرابهم وأسرابهن المندفعة إلى السفارة الأميركية، وأنا مسمّر أمام التلفزيون.
بعدكَ بأكثر من خمس وعشرين سنة، رأيت بيت حنينا لأول مرة وأنا أكتب الجزأين الأخيرين من "مدارات الشرق". طبعًا، كان الاحتلال قد صنع القدس الكبرى وضيّعك.
لكي أعثر عليكَ جعلتُ روجينا في الجزء الثالث (التيجان) تنتسب إلى بيت حنينا. استعدتكَ، واستعدتُ قدسك كما كانت قبل أكثر من ستين سنة، وروجينا تتهادى في حديقة الجامعة الأميركية في بيروت، بصحبة فؤاد الباشا، كما سنتهادى أنت وأنا في حديقة جامعة دمشق نهار الانقلاب الجزائري.
انتسبت روجينا وفؤاد إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي على يد (الزعيم) أنطون سعادة، الذي سيسمي فلسطين بسورية الجنوبية. هاجرت روجينا إلى بوسطن. وفي لندن ـ في الجزء الرابع: الشقائق ـ ستلتقي بفؤاد، ثم ستجمعهما ببيروت وقد أوشكت إسرائيل على أن تقوم، وعاد الزعيم أنطون سعادة من هجرته أيضًا.
روجينا التعبة والقرفة همست لفؤاد بخوفها على بيت حنينا. وعندما همس لها بسره مع الزعيم عانقته وراحت تلعق كتفيه اللذين فاحت منهما رائحة بيت حنينا.
كان الزعيم قد أمر فؤاد: اذهب إلى القدس. وفي القدس التقى فؤاد برفاقه. في القدس، راح يطلع لنفسه من شرفات العمارات المتصلة في مشيرم، من بوابة مندلباوم، من السلاسل الحجرية والمدرجات والأسلاك التي تسور كنيسة النوتردام، من ساحة باب العمود، من القنصلية البريطانية والمقاهي المحاذية، من عتمة البيت الذي آواه يومًا في بيت حنينا، من السلاح الذي يهربه رفيق ـ في الحزب ـ في الجيش السوري، ومن سر الجمهورية الشامية ـ سر الزعيم الذي يفضحه الرصاص طوال الليل.

بعدما ضاعت فلسطين فضاع فؤاد، مضت به روجينا إلى عيد سيدة صيدنايا، والخلق يتوافدون كما في كل عيد، من أنطاكية التي كانت قد ضاعت مع اسكندرون قبل عشر سنوات، ومن حمص وبيروت و... ومن القدس. وثمة، في الفج الصخري المثلج المعتم، ابتدأ فؤاد يعثر على فؤاد، أما روجينا، فلعلها الآن عجوز أو قبر في بيت حنينا، ولعلها لا زالت صبية في رواية، أو في واحد من شوارع القدس العتيقة.

11/ 10/ 2000 ـ اللاذقية
على أحد أن يحكي لمحمد جمال الدرة حكاية سلفة مروان جوارش: كان يا ما كان، في سالف الزمان، كان فيه طفل اسمه مروان، وعمره ثلاث سنين، اشترى له أبوه بذلة مموهة ولعبة ـ بندقية احتفالًا بتوقيع اتفاق أوسلو في 13/ 9/ 1993. لبس مروان البذلة، وحمل اللعبة، ومشى من بيته إلى رأس الزقاق، وإذا بدورية. رأى العساكر المدججون مروانَ المدجج فاندفعوا هاربين، على ذمة مراسل وكالة رويترز في القدس.
القدس
القدس

15/ 10/ 2000 ـ البودي
وهذا محمد الدرة المصري يمضي بحجر إلى المعبر.
لمحمد الدرة الفلسطيني، ولمحمد الدرة المصري، سأحكي حكاية جمال بخيت ـ الذي لم ألتق به منذ ذلك المساء البعيد في الشارقة ـ مع بياع الموز الإسرائيلي الذي أشرف على المذبحة، أي مذبحة، لا فرق: مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل (25/ 2/ 1994)، أم مذبحة دير ياسين (8 ـ 12 / 4/ 1948)، أم مذبحة جامع الملك داود في اللد 19/ 7/ 1994)، التي أبدع فيها إسحاق رابين، وموشيه دايان، أم مذبحة صبرا وشاتيلا (16 ـ 18/ 9/ 1982) التي أبدع فيها شارون أم...
قال جمال:
بياع موز إسرائيلي
شارب من دمنا
ع الباب وقف ينادي
لمجلس شعبنا
ويقول يا بختنا
النيل الإسرائيلي حيمشي ف أرضنا
ويخصب طمينا
وح ناكل موز طويل ونبطل زحلقه
وح نزق العروبة على قشر الزحلقة.

22/ 10/ 2000 ـ برج بوعريريج ـ الجزائر
حسن خضر، وغسان زقطان، ومريد البرغوثي، و... وكل الصديقات والأصدقاء الفلسطينيين الذين عادوا بعد اتفاق أوسلو، كتبوا شروخ العائد.
محمود شقير، مثلًا، صدم قدس الطفولة والشباب من زمن ما قبل المنفى بقدس العائد، وكتب: "كانت ملامح الكثيرين من أصدقائي تثير الأسى، فلم تعد صورهم مطابقة للصورة التي كنت أحملها لهم في الذاكرة. أصابتني الخشية من عدم القدرة على تجديد ما كان بيني وبينهم".
وليانه بدر رثت عالم الروائح الساحرة الذي اندثر في القدس: كركبة من الدكاكين بلا أية خصوصية حلت محل الذاكرة الشرقية المضمخة. قالت ليانة: تفكك النسيج الداخلي الذي يؤلف موسيقى المكان، والحاضر والواقع التراجيديان يصنعان للقدس عولمتها.
الآن، وبعد ثمانية عشر يومًا من الانتفاضة، تلتئم الشروخ جميعًا، ليس فقط في ذلك العائد الفلسطيني أو المقيم، بل في روحي، أنا كفلسطيني أيضًا، لأنني سوري، أو لأنني عربي... أو لأنني...

24/ 10/ 2000 ـ الجزائر
لا أدري ما الذي يعيدني هذا الفجر إلى عاموس عوز. ربما لأن أحدًا افتقد منذ 28/ 9/ 2000 حتى هذا الفجر صوتًا، مهما يكن خافتًا، بل ومداورًا لأيّ من حمائم الإسرائيليين. وربما هي القدس التي ولد فيها عاموس عام 1939، القدس التي عاشت فيها حنة بطلة روايته "ميخائيلي"، التي ظهرت في مصر بعنوان "حنة وميخائيل".
عاموس رسم قدس الأربعينيات التي احتضنت طفولة حنّة: حارة كريات شموئيل على حدود حارة القطمون، كما ستحتضن شبابها في الخمسينيات: شارع بن يهودا، أو مقهى عطارة، أو سينما تل أور، أو شارع ميلساندا، وشارع الأنبياء، وشارع الصحة، وشارع ملاحي، وحي المصرارة: مقام ميخائيل جونين قبل الزواج من حنّة.
لماذا لم يتناهب هذا الفضاء المقدسي أيضًا فؤاد الباشا؟ ألأن إسرائيل كانت موشكة على القيام؟
ليس هذا بالمهم الآن يا عاموس، كما أن صمتك ليس بالمهم. وليس بالمهم أن تذكّر باراك ـ قبل أن ينطوي هذا الفجر ـ كما ذكّرت بيغن عام 1982 أن هتلر قد مات. المهم يا عاموس أن التوأمين الفدائيين العربيين خليل وعزيز، اللذين حلمت حنّة أنهما يأخذانها من زوجها، هما الآن قد تقمّصا في محمد الدرة الفلسطيني الذي تقمص في محمد الدرة المصري الذي يتقمّص في...

29/ 10/ 2000 ـ اللاذقية
لجنة تقصّي الحقائق، لجنة تحقيق دولية، لجنة...
على أحد أن يذكّر بمذبحة كفر قاسم في مثل هذا اليوم من عام 1956.
لجنة التحقيق الإسرائيلية حكمت على اللواء شدمي ـ الذي أمر بالمذبحة ـ بالتوبيخ، وبغرامة قرش. وحكمت على الرائد شموئيل مالينسكي بالسجن سبعة عشر عامًا، وعلى الملازم جبرائيل دهان بالسجن خمسة عشر عامًا، بعدما أُدينا بقتل ثلاثة وأربعين عربيًا، ولكن الحكم: مع وقف التنفيذ.

2/ 11/ 2000 ـ البودي
هذا يوم بلفور الذي منعناه من زيارة الحرم قبل أن يخلق شارون، وطردناه من الشام قبل أن يخلق بيريز. لكن شارون زار الحرم، وبيريز أنجز اليوم اتفاقًا مع الختيار.
لماذا لا أجهر بخوفي على الانتفاضة؟ ألأنهم يموتون وأنا أتفرج على التلفزيون؟ كيف يمكن أن تستمر الانتفاضة حتى... حتى متى؟
سأدع الفذلكة للذين روعتهم هبة الشوارع العربية كما لم تروعهم الانتفاضة. سأدعهم يحمّلون في الفضائيات والدوريات هبة الشوارع العربية جريرة الهزائم المبكرة والهزائم المتأخرة. سأحيي ذكرى وعد بلفور، فالانتفاضة تنادي، الشوارع تنادي، وها هي الصخرة قد نافت على اثني عشر ذراعًا من أذرعة الأمان، والقبة فوقها نافت على اثني عشر ميلًا، ونساء البلقان يغزلن ليلًا في ضوء الدرة الحمراء التي تتوسط عيني الغزال الذهبي المحوّم فوق القبة، فيما تستظل القدس حين تطلع الشمس بظل القبة، كما يستظل أهل الرامة وسواها من الغور بذلك الظل الفاتن كل غروب.