}

في ذكرى رحيل حنا مينة: العجوز والرواية والبحر

آراء في ذكرى رحيل حنا مينة: العجوز والرواية والبحر
(حنا مينة)

بحلول صيف هذا العام، تحل الذكرى الخامسة لرحيل أحد أبرز كتاب رواية البحر في العالم العربي. إنه الروائي العربي السوري حنا مينة، الذي فارق الحياة بتاريخ 21 آب/ أغسطس 2018، مخلفًا للخزانة العربية مجموعة من المؤلفات الإبداعية، الروائية والقصصية والمسرحية، والمقالات والدراسات.

تبقى السيرة الحياتية لحنا مينة من بين أهم ما تركه للقارئ العربي، بالنظر لاستثنائيتها ولفرادتها، واعتبارًا لما يتخللها من محطات حياتية نادرة، ضم مينة بعض عناصرها المتشظية في قصته الشهيرة "على الأكياس"، التي يحكي فيها جزءًا من سيرته كعتّال في الميناء، وفي بعض رواياته السير ذاتية الممتعة، من قبيل "بقايا صور" و"المستنقع"، وفيهما معا يستوحي محطات من سيرته الذاتية. وقد وصف الناقد المصري الراحل صلاح فضل رواية "المستنقع" بكونها "الأعظم من بين السير الذاتية على الإطلاق والأوفر صدقًا والأغنى فكرًا"، بشكل اعتبر معه حنا مينة "واحدًا من أبرز الروائيين العرب، ممن استثمروا سيرهم الذاتية، بشكل لافت، في رواياتهم".

وتكمن بعض جوانب استثنائية سيرة حنا مينة في كون الرجل ينحدر من أسرة فقيرة، وهو وضع حال بينه وبين استكمال دراسته، بعد حصوله على شهادة التعليم الابتدائي، نظرًا لسوء أحوال عائلته المعيشية، فضلًا عن تفاقم أمراضه، وتعرضه للطعن بالخنجر ليلًا في أحد الشوارع، حيث كان يعمل بائعًا لإحدى الجرائد السورية. كما عُرف عن كاتبنا كونه جرّب محنة السجون، وتعرّض للنفي خارج بلده، بمثل ما عرف بعمله بحارًا وحمالًا في مرفأ اللاذقية، وموزعًا لجريدة "صوت الشعب"، وحلاقًا، قبل أن تغويه حرفة الأدب، فكتب القصة القصيرة والمسرحية والرواية... وتكاد سيرته الذاتية، في بعض جوانبها، تشبه سير بعض الكتاب الكبار في العالم، من قبيل الروائي الأميركي إرنست همنغواي، على مستوى بعض محطات الحياة والكتابة لديهما، وخاصة ما يتصل منها بعلاقة الروائيين معًا بالبحر وبالكتابة عنه.

وتشاء المصادفات أن يرحل عنا حنا مينة في عز شهر أغسطس/ آب، المعروف بإقبال الناس فيه على ارتياد البحر للاصطياف والاستجمام. هذا البحر الذي احترفه مينة كبحّار على المراكب، فعشقه وأحبه، فاشتهر بالكتابة عنه، حيث اعتبر مصدر إلهامه في كتابة مجموعة من الروايات التي تناول فيها البحرَ وحياة البحّارة، وما يحيط بها من أخطار وأهوال، ما جعل سيرته الذاتية، في محطات مهمة منها، ترتبط بالبحر بشكل لافت.

فمن المعروف عن حنا مينة كونه قد اشتغل بحارًا، وتلك كانت مهنة أجداده أيضًا. وانسجامًا مع البحر، جعل مجموعة من أعماله الروائية اللاحقة تغيّر بوصلتها نحو البحر، بعد كل ما اكتسبه من خبرات ومعارف مباشرة عن البحر وحياة الصيادين والبحّارة، في وقت تحاشى فيه معظم الأدباء العرب خوض مغامرة الكتابة عن البحر، لأنهم، حسب حنا مينة، "خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب". في حين يرى حنا مينة أن: "البحر كان دائمًا مصدر إلهامي، حتى أن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب"، مضيفًا، في هذا الإطار نفسه: "في البدء لم أقصد شيئًا، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشمًا على جلدي، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب بأن أموت... تعرفون معنى أن يكون المرء بحّارًا؟".

واللافت في سيرة مينة الأدبية، كما احتوتها عديد من المواقع الإلكترونية، أنها غير مكتملة، رغم اكتمال سيرة الحياة، ولم يتم استدراك تحيينها. فعلى سبيل المثال، توقفت مجموعة من المواقع التي أرخت لسيرة مينة الأدبية عند عام 2005، باعتباره العام الذي حصل فيه الكاتب، اعترافًا بإنتاجه الأدبي، على "جائزة الكاتب العربي" من اتحاد الكتاب المصريين، بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على تأسيسه. فيما حاز حنا مينة جائزة أخرى كبرى من المغرب، هي "جائزة محمد زفزاف للرواية العربية"، في دورتها الرابعة، من مؤسسة منتدى أصيلة، في إطار موسمها الثقافي الدولي في صيف 2010، "تتويجًا لمجموع أعماله، وتقديرًا لإبداعاته التي طبعت عقودًا من زمن الرواية بشكل خاص والمشهد الأدبي العربي بشكل عام". وكان رئيس الجائزة، محمد بن عيسى، قد أشار في كلمته بالمناسبة إلى "أن ثمة أواصر خاصة ومشتركة بين الأديب السوري حنا مينة ومدينة أصيلة المغربية، تتمثل في المكانة الخاصة التي يحظى بها البحر لديهما".

تجدر الإشارة إلى أن هذه الجائزة لا تخلو بدورها من أهمية خاصة، فقد حاز عليها أيضًا عدد من الروائيين العرب، من بينهم الروائي السوداني الطيب صالح، والروائي الليبي إبراهيم الكوني، والروائي المغربي مبارك ربيع، وغيرهم. وكانت الظروف الصحية لحنا مينة، بسبب تقدمه في السن، قد حالت دون حضوره حفل تسلم الجائزة، وإن حرص الكاتب على إرسال كلمة مسجلة بالمناسبة، تم بثها خلال الحفل، بدا فيها كاتبنا متأثرًا بهذا التتويج، معترفًا بالقيمة المعنوية للجائزة القادمة من بحر المتوسط...

وقد حرص مدير عام منتدى مؤسسة أصيلة محمد بن عيسى على أن تصل الجائزة للفائز حنا مينة بسورية، وتم ذلك بواسطة الملحقة الثقافية لسفارة المغرب بسورية، الشاعرة وفاء العمراني، التي حضرت بدورها الاحتفالية، فألقت كلمة بالمناسبة، وتسلمت الجائزة نيابة عن "البحار العجوز"، كما وصفه الروائي السوري نبيل سليمان، عضو لجنة الجائزة، الذي غادر أجواء الحفل وموسم أصيلة، إثر توصله لحظتها بخبر تعرّض منزله للقصف بمحافظة اللاذقية. فيما كلفت شخصيًا بالإشراف على بعض فقرات تلك الاحتفالية، من بينها إشرافي على ندوة عن تجربة حنا مينة الروائية، وإعداد كتاب جماعي عن هذه التجربة، بإيعاز من مؤسسة منتدى أصيلة، وهو كتاب صدر بالمناسبة عن المؤسسة ذاتها، بعنوان "حنا مينة: الكتابة والبحر"...

في هذا السياق، أذكر أنني لم أرتبط بقراءة روائي عربي، خلال مرحلة زمنية طويلة نسبيًا، وفي مرحلة عمرية معينة، بمثل ارتباطي بقراءة أعمال حنا مينة، وخصوصًا رواياته الأولى الصادرة إلى حدود بداية الألفية الثالثة، حيث حصل، بعد ذلك، أن خفت إيقاع قراءاتي ومتابعاتي لنصوصه الروائية المتلاحقة، رواية بعد أخرى، موازاة مع تفاقم التراكم الروائي العربي في جميع المشاهد الروائية العربية تقريبًا، بشكل أصبح متعذرًا معه إيجاد الوقت الكافي لمواكبة سيولة الإنتاج الروائي العربي الجديد وقراءته، في تراكم نصوصه وتناسل أسمائه.

ويعود تعلقي بهذا الروائي الاستثنائي، وإعجابي بتجربته الحياتية والإبداعية، وبعوالمه الحكائية والسردية، إلى فترة زمنية سابقة، حصل أن تواجدت خلالها بليبيا... كان ذلك في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، في رحلة مغامرة عجيبة مع أصدقاء الطفولة، لم أعد ألتقي بهم اليوم، انطلقنا فيها بالسيارة من المغرب وعبرنا الصحراء الجزائرية، من غير أن نمر بالأراضي التونسية، وتلك حكاية أخرى. استغرقت إقامتي في ليبيا شهرًا ونصف الشهر، قضيت معظمها بمدينة صغيرة تسمى "غريان"، تبعد عن طرابلس حوالي ثمانين كيلومترًا.

وأمام وفرة الوقت في أثناء إقامتي في مدينة غريان، في انتظار السراب ربما، موازاة مع انعدام أماكن خاصة لتزجية الوقت بتلك المدينة الصغيرة، التي أصبح لها، بعد ذلك، ذكر في نشرات الأخبار الدولية إبان الثورة الأخيرة بليبيا، حصل أن قصدت مكتبة عمومية صغيرة بغريان، فإذا بي أجدني أمام ذخيرة مغرية من روايات حنا مينة، وبعض الروايات المصرية والمغربية القليلة جدًا. اغتنمت الفرصة لملء الفراغ القاتل بتلك المدينة الفارغة، التي كانت بدورها تعيش أيام الحصار المفروض على ليبيا من لدن الولايات المتحدة. انكببت على قراءة ما يتوفر في المكتبة من روايات حنا مينة المنشورة في دار الآداب البيروتية. ولحسن الحظ أم لسوئه، لم يحدث أن عكر مزاجي أي زائر للمكتبة، طوال فترات ترددي عليها، وكأن لا قراء في تلك المدينة التي كنا نتسابق فيها كل صباح للحصول على حصة من لحم الجمل، لكن دون جدوى. وأمام هذا الوضع، أصبحت أنا من يفتح باب المكتبة صباحًا وأغلقه مساء، بعد أن مكنني المسؤول عنها من مفتاح قاعتها، فأعفيته أنا من مداومة الحضور، وتلك أيضًا قصة أخرى.

كانت تلك هي البداية الحقيقية لتعلقي بعوالم مينة الروائية، فقد شعرت لحظتها بأن حكايات رواياته ومغامراتها وأحداثها، تستجيب لرغائبي وأحاسيسي وذوقي وانتظاراتي. أتذكر أنني قمت وقتها بكتابة مقال، كان عبارة عن قراءة في "المقدمات الروائية" العديدة التي تزخر بها روايات حنا مينة الصادرة عن دار الآداب، وقد أثارتني تلك المقدمات الطويلة، التي كان جلها عبارة عن دراسات للروايات المقدم لها، وهي من توقيع بعض الأدباء والنقاد الكبار، من بينهم الناقدة السورية نجاح العطار، كما في مقدمتها لرواية "الشمس في يوم غائم". قمت بإرسال المقال، الذي كتبته بخط اليد، من ليبيا إلى القسم الثقافي لجريدة "العلم" المغربية، وقد وجدت المقال، بعد عودتي إلى أرض الوطن، منشورًا في الملحق الثقافي للجريدة، وقد أعدت نشره، بعد ذلك بفترة، في كتاب نقدي صدر لي بعنوان "الفوضى الممكنة"، بعد أن تحوّل المقال إلى دراسة، أضفت إليها قراءات أخرى في مقدمات روايات عربية أخرى.

تواصل إعجابي بروايات حنا مينة وتعمق افتتاني بعوالمها الروائية، وخصوصًا بعد أن تعرّفت على صديق جديد بمدينة الرباط، كان يدرس الطب وقتئذ بكلية الطب بالعاصمة، وهو اليوم طبيب نفساني بناحية مسقط رأسه، وكاتب قصة ورواية، هو الطبيب الأديب عبد الحكيم امعيوة، الذي وجدته بدوره، لحظة تعارفنا، مفتونًا بقراءة الرواية العالمية، وخصوصًا الروايات الألمانية، بحكم تمكنه من اللغة الألمانية، بمثل افتتانه كذلك بعوالم حنا مينة الروائية، وخصوصًا البحرية منها؛ افتتان وجد صداه، فيما بعد، في رواية امعيوة الأولى بعنوان "بعيدًا عن بوقانا"، الصادرة عن منشورات اتحاد كتاب المغرب، وفيها يستوحي بدوره عوالم البحر، ما يشي بمدى تأثره بشيخ رواية البحر في عالمنا العربي.

أتذكر أننا كنا، امعيوة وأنا، نقبل برغبة عاشقة على التهام روايات حنا مينة، وكثيرًا ما كانت تلك الروايات تشكل موضوع جلساتنا ونقاشاتنا وسمرنا، فكان كلما ظهرت رواية جديدة له في المكتبات المغربية، سارعنا لاقتنائها، رغم ارتفاع سعر روايات دار الآداب، على الأقل بالنسبة لي، أنا ذلك الطالب الذي كنته.

وحدث ذات شتاء من عام لم أعد أتذكره، ربما تم ذلك في تسعينيات القرن الماضي، أن زار حنا مينة الرباط، باستضافة من اتحاد كتاب المغرب، في لقاء مفتوح بكلية آداب الرباط. وحين غادر مدرج الكلية، بعد إلقاء محاضرته، وجدنا نترصد خروجه بباب المدرج لننفرد به، وندعوه إلى جلسة كنا قد هيأنا لها ظروفها وشروطها، جلسة قد تمكننا نحن من الاقتراب منه، والتحدث إليه، والتعبير له عن مدى إعجابنا برواياته وعوالمه الروائية الساحرة، وإجراء حوار معه. ناديت حنا مينة لحظة مغادرته المدرج باسمه: "أستاذ حنا"، متوقعًا منه ردًا قد يشجعني على التمسك برغبتنا في دعوته، فرد على ندائي بكلمة "أيوا"، حيث بدا منزعجًا، ربما من لقاء الكلية الذي كان باردًا تمامًا، مثل برودة جوّ ذلك المساء، وكان ذلك واضحًا من نبرة صوته وهو يرد على تحيتنا، تراجعنا لحظتها إلى الخلف، ونحن نرقبه وهو يغيب في ظلام الممر المؤدي إلى خارج الكلية.

تحولت خيبة أملي في التحدث إلى الأستاذ حنا مينة إلى إقبال عجيب على التهام رواياته والكتابة عنها في مرحلة زمنية سابقة. تعلقت بشخوص رواياته، وبطبيعة مغامراتها، وأعجبت بالعناصر السيرذاتية في مجموعة منها، كما سحرتني قدرة هذا الروائي على خلق عوالم حكاياته وشخوصها وتنويعها، من رواية إلى أخرى.

وإذا كان حنا مينة ونجيب محفوظ يعتبران من أغزر روائيينا العرب إنتاجًا روائيًا، فيمكن القول إن مينة، بتنويعاته الروائية اللافتة، وباستراحاتها الإبداعية الممتعة، قد بقي وفيًا للطابع الإبداعي المجدد في رواياته، من غير أن يسقط في شرك التكرارية المملة، والتي تشي عادة بنهاية مبدع شجاع. فحين كان حنا مينة يحس بضرورة الخلود إلى استراحة إبداعية، كان يلجأ إلى التنويع في شكل رواياته وموضوعاتها، بمثل استراحته الروائية الممتعة في روايته "النجوم تحاكم القمر"، في انشدادها إلى مرحلة روائية، كانت فيها كتابة الرواية عنده تتشيد انطلاقًا من إقامة تفاعل وحوار إبداعي مع سابقاتها من رواياته، حيث بدت شخوص الرواية في لحظة محاكمة لمبدعها، الكاتب الواقعي.

وإذا كان الروائي الراحل قد اشتهر، طوال مساره الإبداعي، بعدة ألقاب، يأتي على رأسها لقب "روائي البحر"، فإن هذا لا يعني أن كتاباته الروائية قد انحصرت فقط عند حدود استلهام موضوع البحر فيها، بقدر ما توزعت موضوعات رواياته الأخرى على مجموعة من القضايا الذاتية والإنسانية، ما جعله يلقب كذلك بـ "أديب الحقيقة والصدق"، و"كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين"، ومن بين تلك الموضوعات، نذكر المكون الأتوبيوغرافي فيها، فيما تناولت روايات أخرى قضايا سياسية واجتماعية، من بينها قضايا الاستغلال والمعاناة والحب والفقر والهامش والألم والكفاح والوطن والجشع والجمال والمرأة، هاته التي بدا أن لها حضورًا خاصًا ومميزًا في رواياته، وغيرها من القضايا التي تتناول المعاناة الإنسانية في مجتمعه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.