}

في رحيل محمد الشارخ: سيرة الفقدان وسردية الحياة

هنا/الآن في رحيل محمد الشارخ: سيرة الفقدان وسردية الحياة
محمد الشارخ (1942 ـ 2024)

لم أعد أتذكر بالضبط متى وأين تعرفت على الكاتب الكويتي الراحل محمد الشارخ. ما أتذكره هو أنني تعرفت عليه، في البداية، من خلال شركته الرائدة "صخر"، وأنا ما أزال يافعًا، حين كنت أطالع مجلة "العربي" التي كان يأتي بها أخي إلى البيت في تلك القرية الأطلسية النائية. كانت مجلة "العربي" نافذتنا على العالم، فقد كانت تستهويني باستطلاعاتها وصورها، ومن بينها صور غلافيها الأول والأخير، فكانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها صورة الكومبيوتر منشورة على ظهر الغلاف الثاني لمجلة "العربي"، لأدرك في ما بعد أن ذلك الإشهار هو لمشروع علمي وتقني رائد وفريد من نوعه في عالمنا العربي كان يشرف عليه محمد الشارخ، ويتعلق الأمر بإدخال اللغة العربية إلى الحاسوب.
وتشاء المصادفات أن ألتقي، في ما بعد، بالمؤسس محمد الشارخ، لتجمعني به صداقة جميلة امتدت إلى أن رحل عن عالمنا في آذار/ مارس 2024، فقد التقيت به هنا في المغرب، وخارجه، في القاهرة، والكويت تحديدًا، كما سعدت بالكتابة عن بعض إبداعاته التي استمتعت بها، بل وحصل أن أشرفت على تنظيم بعض اللقاءات في الرباط وطنجة حول عملين إبداعيين لكاتبنا، هما مجموعته القصصية "عشر قصص"، وروايته "العائلة".
لقد أضحى عالمنا العربي، من أقصاه إلى أقصاه، يعرف من هو محمد الشارخ، بمثل ما أضحى يعرف أشياء كثيرة عن مشروعه العلمي والتقني الكبير والرائد، منذ ثمانينيات القرن الماضي، حول صناعة تقنية المعلومات، بما حققه هذا المشروع الفريد من نوعه من نجاحات باهرة، وبما شهده على مدى أزيد من أربعة عقود خلت، من تطوير جيل جديد من التقنيات المتقدمة، بشكل أضحت معه "صخر" علامة بارزة في صناعة تقنية المعلومات وصناعة البرامج العربية.
وإلى جانب اهتمام محمد الشارخ الرائد بعالم الكومبيوتر، يعد، كذلك، من رواد الكتابة القصصية في عالمنا العربي، كما تأسست لدى جيل الستينيات في مصر تحديدًا، عبر نشر مساهمته القصصية الأولى بعنوان "قيس وليلى"، عام 1968، في إحدى المجلات الطلائعية وقتئذ، هي مجلة "غاليري 68"، فامتدت مساهماته القصصية في مجموعة من المجلات الثقافية المصرية والخليجية، إلى أن أصدر عام 2006 مجموعته القصصية الأولى بعنوان "عشر قصص" في طبعة أولى عن دار ميريت المصرية.
قد يتساءل القارئ، منذ الوهلة الأولى، لماذا لم يعنون القاص محمد الشارخ مجموعته القصصية "عشر قصص" بعنوان إبداعي آخر يختاره الكاتب من بين عناوين قصص مجموعته، كما جرت العادة بالنسبة لعناوين معظم المجموعات القصصية والشعرية، أو يختاره من خارج عناوين قصص مجموعته، حيث فضل الكاتب، عوض ذلك، عنونة مجموعته بعدد القصص التي تضمنتها، أي "عشر قصص"؟
شخصيًا، وجدت، بعد قراءة هذه المجموعة، أن عنوانها "عشر قصص" ربما يستجيب أكثر من أي عنوان آخر لتحديد هوية هذا الكتاب، ما دام أن "عشر قصص"، في هذه المجموعة، تعني عشرة عوالم قصصية، في انفتاحها على تعدد القراءات والدلالات وتوسيعها. لذا، أطرح السؤال بصيغة أخرى: هل نحن حقًا أمام "عشر قصص"، أم أننا أمام عنوان مخادع، وأمام قصص كثيرة مراوغة؟
تشكل كل قصة من القصص العشر لهذه المجموعة عالمًا حكائيًا ودلاليًا متكاملًا، بنفَسه السردي الطويل نسبيًا، وبأحداثه وشخوصه وأمكنته وأزمنته وتفاصيله ومغامراته؛ إذ تمكن محمد الشارخ من تكثيف أحداث قصصه وحكاياتها، بشكل نحس معه نحن بانفراد كل قصة بمجموعة من العناصر والمكونات المميزة لها، وخصوصًا على مستوى ما تصوغه هذه القصص من صراعات ومصادفات ومفاجآت، وتكسير لأفق انتظار القارئ في عديد من المرات والمواقف، ما أضفى على كل قصة طابع المتعة والترقب والتشويق.
كما تتميز قصص الشارخ بمستواها التقني الكبير، وبطرائق سردية مختلفة، تلك التي تتداخل فيها تقنيات السينما، بالتشكيل، بالأسلوب السردي البوليسي، وبقدرة الكاتب الخارقة على الوصف والانتقال بالسرد من حالة إلى حالة، انطلاقًا من اهتمام قصصه بالتفاصيل الكثيرة والدقيقة للأشياء ولحيوات الشخوص، من ذلك مثلًا وصف حالات الخوف الكثيرة التي تنتاب الشخوص، بما فيها تلك التي اعترت السارد في قصة "بيبسي"، وفي غيرها من قصص المجموعة، بمثل ما تبدو قصص المجموعة طافحة برمزية الألوان، رغم طابع السوداوية الذي يهيمن على محكياتها. فثمة دائمًا احتفاء بالألوان والأشكال والمشاهد بشكل يمكن أن تحول فيه كل قصة إلى موضوع لفيلم سينمائي مستقل.




فضلًا عن ذلك، تتميز هذه المجموعة القصصية باستيحائها وتمثلها ورصدها لمجموعة من الثيمات والقضايا والظواهر المميزة لمحكياتها والمولدة لدلالاتها ومعانيها، حيث تمكنت هذه القصص من استيعاب كل تلك الأشياء، وفق بناء سردي وحكائي متين ومتماسك.
تتداخل في هذه القصص مجموعة من الموضوعات والأسئلة والحالات المتشابكة في ما بينها، عن الإنسان والوطن والفساد والموت والزواج والطلاق والبخل والندم والسفر والخيانة والصداقة والحب والعنف والخوف والقتل والتذكر والتطهر والنسيان والحلم والحرب والمرض والكرامة والطمع والوسواس والأنانية والإيروتيك والحرية والماء والجمال والغواية والطمع والإرث والمال والدمار والمقاومة والسلطة والعبث والكراهية والاحتيال والمرأة والطفولة والأب والأم والسخرية والضحك، كما نتماهى نحن مع مشاهد عن عوالم الألوان والحيوانات والطيور والحشرات، ونسافر داخل مجموعة من الأمكنة الواقعية والرمزية، في المدينة والقرية، من البصرة إلى الكويت، ومن نيويورك إلى آخن، ومن قانا إلى بيروت، ومن عدن إلى تعز، ومن بلاد الرمان إلى بلد البطيخ. والكاتب، في تعبيره عن ذلك كله، لا ينحاز للجنة على حساب النار، ولا يحلق في السماء بعيدًا عن الأرض، ولا يغني للفرح من دون أن يستحضر إيقاع الحزن، بل يجعلنا نعيش كل هذه الحالات في جو من المتعة والانفعال والانبهار، وهو ما يفتح أمامنا عوالم من الرموز وأجواء الفانتاستيك والأحلام والهواجس والأوهام والتخيلات والاستيهامات والكوابيس والحكم والأمثلة وخطاب المستنسخات، كما هو الشأن بالنسبة لحديث السارد عن الجنة في قصة "مزاح قاتل" (ص 109)؛ وفي هذا الخضم المتشابك من الأحداث، كان الكاتب حريصًا على أن يقدم لنا مفهومه للكتابة، في قوله: "ليس في نيتي أن أكتب عن الجغرافيا والتاريخ، ولا أن أنتقد بلدًا، أو سياسة، أو حكومة، فالمساوئ لا تحتاج لتعداد، فقط أريد أن أكتب عن أحداث أغرب من الخيال. الواقع الرهيب الذي في داخلنا جميعًا. في نسياننا حين نتذكر، في تلك الخيالات التي تفاجئنا حين نلقي رؤوسنا على المخدة وننظر للسقف قبل النوم، أو عندما نصحو منه".
من ثم، تستحق كل ثيمة من الثيمات السابقة قراءة موازية فيها، لاستجلاء خصائصها وتحولاتها الحكائية والدلالية، في تداخلها وتشابكها مع ثيمات وقضايا أخرى مهيمنة، لكن أهم ثيمة تكون هذه القصص قد تمثلتها، بشكل دلالي لافت ومتنوع ومكرور، هي ثيمة "الفقدان"، في تنوع تمظهرها التخييلي والدلالي، أي كموت واختفاء وضياع واغتراب وحرمان وفواجع ودمار، بما يولده ذلك لدى الشخوص من إحساس بالخوف، بما هو خوف من الطبيعة ومن البشر، ومن شعور بغياب الثقة والأمان والحياة داخل الأسرة وخارجها، وداخل الوطن وخارجه أيضًا...
تنكتب سيرة الفقدان، إذًا، في هذه القصص على امتداد جغرافيا الوطن العربي وخارجه، من أول قصة حتى آخر قصة في المجموعة، ويكفي أن نتتبع بعض حالات وصور الفقدان في كل قصة على حدة، كي نلمس، في مستوى آخر، مدى مراهنة هذه القصص جميعها على تمثل سؤال الحياة والموت، وسؤال الوجود والعدم، فيما يشبه كتابة سيرة الفقدان فيها، هذا الذي يطاول الإنسان والبنيان على حد سواء.

القصص



ابني ليس ابني
في القصة الأولى "ابني ليس ابني": يتجسد الفقدان في مجموعة من الصور المتداخلة في ما بينها. ففي الوقت الذي تحاول فيه حصة بنت خالد السميراني، زوجة حسن بن فلاح الفريجي، نسيان موت أخيها الأكبر في حادث مروع، يحتل العراق الكويت، مما نتج عنه افتقاد حسن وحصة لابنهما الذي اعتقلته القوات العراقية، ولم يعثرا عليه، بالرغم من المساعي التي قام بها والده لدى القوات العراقية بالبصرة، حيث قدموا له هناك "ولدًا" آخر، بدل ابنه الحقيقي. كما تطفح هذه القصة بمجموعة من صور الموت والقتل والحرب والاختفاء في أقسى درجات عنفها، كتلك المولدة لحالات الرهبة والخوف لدى الشخوص، والمجسدة للفقدان والضياع. فثمة شخوص تموت وتقتل وأخرى تحرق...

الحفلة
في قصة "الحفلة": يفقد بشارة أباه، بعد نكبته في سوق الأسهم، وإصابته بانسداد في الشرايين، وانتحاره في المستشفى، حيث أقفل غرفته ذات ليلة، وقطع شرايينه بسكين الأكل (ص22). ويتجسد الفقدان، في مستوى آخر، في الحرمان الذي تولده الرغبة الشبقية لدى ذلك البستاني الأفغاني الذي يكتفي بالبصبصة إلى جسد وفخذي الساردة وصديقتها سارة.

وليمة إبراهيم منصور
في قصة "وليمة إبراهيم منصور": يبلغ الشعور بالخوف مداه التخييلي وتأثيره النفسي، بعد أن تعطل محرك الزورق الخشبي الذي أقل العائلتين إلى الضفة الأخرى، وسرعان ما ستواجه العائلتان جحافل الأسود، التي تتربص بها: "نغلق النوافذ ولا نجرؤ على تغطية السقف المفتوح خوفًا منها... وها أنا أرى الموت. هل رأيته أنت؟ الخوف الذي ينغرس في البطن والسيقان التي تتجمد. الموت. الموت الموت" (ص 47).


ديرة بطيخ
في قصة "ديرة بطيخ": يموت عز الدين أبو إحسان، ويفقد إحسان ثروته قسرًا، بعد أن أرغمه ملثمون دخلوا عليه الصالة بسكاكينهم ومسدساتهم الكاتمة للصوت. يموت إحسان إثر ذلك، حيث بدا في الصباح بلا حراك أو دقة قلب (ص61).

الحسناء
في قصة "الحسناء": يضيع كل من السارد وجون فرصة الالتقاء بتلك الحسناء، كما يضيع البرمان زوجته التي تركته بعد أسبوعين من مجيئهما إلى نيويورك: "حتى الآن لم أعرف أين هي؟ منذ سنتين لم تتصل، وأنا لم أسأل عنها..." (ص77).

قانا
في قصة "قانا": يتماهى الفقدان القسري بالرغبة في الحياة بالتطهر، حيث تتجسد صورة أخرى من صور الفقدان من خلال محفل "الموت": في مقابل موت أخت ووالدي نبيل أحمد المعروف بتوم كروز إثر الغارة الهمجية على كنيسة الأمم المتحدة بقانا. ظل توم كروز يردد، على امتداد القصة، "لا أريد أن أموت"؛ بعد أن لم يستطع أبوه حمايته: "لم يحمه أبوه، ولا يعرف لماذا أتى به إلى هذه الدنيا وهو لا يستطيع أن يحميه" (ص82). كما تتضافر، في هذه القصة، صور أخرى للفقدان، من خلال الموت، حيث لم يعد خليل وابن عمه عماد من وادي المقاومة، ويقتل البرابرة في سيبرنيتيا 7000 مسلم، كما يقتل توم كروز المرأة العجوز والعميد محسن...

مزاح قاتل
في قصة "مزاح قاتل": يرتبط الفقدان باللعنة التي تطارد الأزواج والزوجات على حد سواء، بما يوازيه من استلذاذ بحالات الفقد. يموت أزواج خزنة، الواحد تلو الآخر وهي ترثهم. يموت عبد الله الزوج الثالث لخزنة بالمستشفى، هناك حيث لفظ أنفاسه، بعد اصطدام سيارته بسيارة إصلاح أعمدة النور الكبيرة، هو الذي تسبب في موت زوجها خالد بن حمود في مكتبه ويده على التلفون... كما تموت والدة عبد الله والحسرة في قلبها (ص107)، ويموت محمود السوسي زوج خزنة بالسكتة القلبية، هو الذي طلق زوجته وهي في النفاس في مولودها الخامس. تموت أم خزنة ويموت زوج نعيمة في سقوط الطائرة، يقول السارد: "كيف لخزنة أن تقتل الرجال واحدًا بعد آخر، تستولي على أموالهم وتتزوجهم" (ص107)، ويردف: "خزنة قاتلة لا تصبر. تريد الزواج مرة رابعة. فقط تستبدل رجلًا بآخر" (ص109). ثمة، إذًا، رغبة دائمة، في هذه القصة، للتغييب والفقدان...

زياد غالب وابنه تيمور
في قصة "زياد غالب وابنه تيمور": يبلغ الافتتان بالفقدان مستوى تخييليًا ورمزيًا لافتًا، من خلال تلك العلاقة غير المتوازنة بين ابن ووالده، حيث تتدخل السخرية والتهكم والضحك لبلورة خطابات رافضة للقيم، تتحول معها علاقة الابن بأبيه إلى "موضوع ساخر": "هل كان تيمور سببًا في موت أبيه، طبعًا لم يقصد ولم يخطط لذلك. في الواقع وحقيقة الأمر إنه ما كان يريد لهذا المخلوق المضحك أن يموت" (ص120).

بيبسي
في قصة "بيبسي": تتوازى صورة الفقدان بالخوف مرة أخرى: "نحن لا نخاف الموت، بل المرض الذي يسبق الموت. الخوف من أن أموت بسبب سكتة قلبية تصيب الطيار. أو بسبب معتوه اختطف طائرة وقاتل في غرفة القيادة مع قائدها ومساعديه، أو لعطل من تلك الأعطال التي يبحثون عنها في الصندوق..." (ص128). وتبقى خاتمة هذه القصة مفتوحة على جميع الاحتمالات الممكنة، بعد أن تاه الطيار بين الجبال، ولم يعد للطائرة بنزين كاف (ص151).

رائحة الباقلاء
في قصة "رائحة الباقلاء": تموت زوجة هاني: "ماتت. ماتت. ولم يبق لي أحد..."، يقول زوجها (ص155). ويموت ولداها (أحمد وخالد) اللذان سقطا معًا قبل عشر سنوات من مراجيح الأطفال العالية فماتا مباشرة، ولم ترغب زوجته بالإنجاب ثانية... لم ترد أبناء تفقدهم في ما بعد (ص160). عدا كونها قصة طافحة بكلام كثير عن الموت وطقوس الوجع والقبور… فيصبح الموت بذلك فضاء رمزيًا لتشييد التخييل وبناء القصة.





ومن أهم خصائص الكتابة السردية في هذه المجموعة، كون ثيمة الفقدان فيها تتلون بالسخرية والتهكم تارة، وبالخوف الشديد تارة أخرى، بشكل يجعل اللغة القصصية فيها تتميز بـ"شعرية الجملة السردية المخضلة بندى المجاز والمتكئة على كوميديا سوداء يختلط فيها الضحك بالبكاء والواقعي بالسوريالي"، على حد تعبير وجدان الصائغ، في قراءتها لمجموعة الكاتبة العراقية "فقدانات"، وذلك من أجل تمرير خطابات رافضة لضياع القيم، داخل مناخ زمني عربي ملبد بالعجز والحرمان...
بموازاة تلك الأجواء السوداويةـ والمناخات الأكثر مأساوية المتخمة بالفجيعة والفقد، المهيمنة على قصص مجموعة محمد الشارخ القصصية، انطلاقًا من كونها تطفح بعدد من المشاهد السوريالية، والفجائعية، والأحلام، واعتياد الفقدان، والكوابيس، التي تتسلل إلى راهننا العربي، بما فيها تلك الكوابيس التي تنغلق عليها بعض نهايات هذه القصص، في عجنها ذلك كله بقضايا السياسة والمال والاقتصاد، مما يبرز الإنسان العربي، في بعض هذه القصص، كائنًا هشًا وضعيفًا، سريع التقلب في مواقفه ومبادئه وقناعاته، أمام بريق المال، واختلاط الأوراق، وإغراء السلطة، وتبدل اليقينيات، وخصوصًا لدى تلك الشخوص التي ترعاها الأنظمة وتسقيها، والمجسدة لحالات ومواقف وإرغامات معاكسة، حتى لماضيها القريب، كالديكتاتورية والقمع والاستبداد والرجعية والتواطؤ والتسلط والجبروت؛ بموازاة ذلك، إذًا، تراهن هذه القصص على رسم صور أخرى للبطولة والشهامة والمقاومة فيها، سواء في الكويت (مقاومة الغزو العراقي)، أو في المغرب (المقاوم محمد الزرقطوني)، أو في قانا (في وادي وتلال المقاومة)، أو في غيرها من الأمكنة المرجعية والرمزية التي تستحضرها المجموعة، كما تنضح بامتلاء الحياة فيها، بتجليات صورها المختلفة وبرمزيتها أيضًا، أي كفرح ومتعة وضحك ومغامرات وشبق واستلذاذ، حيث تبدو شخوص هذه القصص، في أحايين كثيرة، مقبلة على الحياة، بلهفة وكثافة ورغبة وحب، ولو عبر احتمائها بالحلم من الدمار والتوتر والغياب.
من ثم، فقراءة هذه القصص تفرض علينا استعدادًا نفسيًا وذهنيًا وثقافيًا خاصًا، بمنظورات وحواس مختلفة. فكما تدفعنا هذه المجموعة إلى قراءتها من خلال ما تكشف عنه من مواقف ومتاهات وصور مشهدية، طبيعية وسينمائية وتشكيلية وبصرية وجمالية، فهي تكشف لنا، كذلك، عن فضاء قصصي ودلالي خصب، تنبعث منه روائح مختلفة: رائحة الجسد والعطر والورد وروائح احتراق الجثث ورائحة العفن، ويرغمنا، إلى جانب ذلك، على أن نتحسس من خلاله خفقان قلوب شخوصه، وتصلنا منه أصوات الغارات والطائرات والحيوانات، وأصوات الشخوص، كموظف الطيران، في قصة "بيبسي" الذي: "كان صوته عاليًا وحادًا... كان صوتًا نشازًا يخدش الأذن، حتى أنني تمنيت لو يكف عن الصراخ بالركاب"، أو كأمينة، زوجة إحسان عز الدين في قصة "ديرة بطيخ"، تلك المرأة التي "في صوتها بحة ما إن تنطق كلمتين حتى يذوب المستمع ويطرب، ويظل يتذكر ذاك النغم ويستجلب فرص العودة لسماعه" (ص52). تلك أصوات مختلفة، وغيرها، تنسج خيوط هذه القصص، لكن أهمها يبقى هو صوت الكاتب محمد الشارخ، الذي وإن انحبس وهج صوته برحيله، فستظل عوالم قصص مجموعته وأعماله السردية الممتعة شاهدة على مدى امتداده في قرائه...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.