}

هل السينما فرجة فقط أم ثقافة وفرجة واستثمار اقتصادي؟

محمد بنعزيز محمد بنعزيز 21 يوليه 2023
آراء هل السينما فرجة فقط أم ثقافة وفرجة واستثمار اقتصادي؟
لقطة من فيلم L'ILE DE SUKAWAN
عرض المخرج والأستاذ الجامعي الكندي جونثان ترامبلاي/ Jonathan Tremblay (مخرج فيلم L'ILE DE SUKAWAN) ماستر كلاس عن المونتاج وتصحيح الألوان في قاعة سينما الصحراء بمدينة أغادير ضمن فعاليات الدورة الرابعة عشرة من المهرجان الدولي للشريط الوثائقي والتي عقدت بين 5 و10 يونيو/ حزيران 2023. عرض المخرج كان في الصباح، وكانت القاعة ممتلئة، وهذا شيء جديد تمامًا. فالمهرجان استضاف عشرات طلبة الفن السابع وهم أكثر اهتمامًا بالأفلام والمناقشة من الزبناء التقليديين للمهرجانات، الذين يحضرون حفليْ الافتتاح والاختتام، ولا يشاركون في نقاش، ولا يكتبون عن ندوة، أو عن فيلم.
تابع الطلبة المخرج الكندي وهو يعرض، وليس يقول، لأن ما يشرحه معروض أمام الحضور على شاشة تزيد مساحتها عن عشرة أمتار مربعة.
يبيّن المحدث بصريًا كيف يتم التحضير للتلوين في التصوير، وهنا يتم الحصول على المادة الأولية، بعدها يجدي التلوين (film calibration)، وهو عمل فني يحتاج موهبة وتفكيرًا.
يربط المخرج بين ماضي السينما وحاضرها الرقمي، مبرزًا أن التلوين مثل إعداد الصورة في زمن لابيليكيل، ويضيف: يبني اللون مظهرًا سينمائيًا للفيلم، ويدخل التلوين ضمن Art graphique. ويستنتج: لكل هذا أثر جمالي ودلالي.
لتوضيح ذلك، يطرح المتحدث أسئلة: ما علاقة كيمياء اللون بحكاية ومزاج شخصيات الفيلم؟ كيف يستخدم الإيتالوناج/ étalonnage  ميزان الألوان؟ كيف تبني الألوان حالة نفسية؟ كيف تحكي الألوان الحكاية؟ كيف يعبر اللون في اللقطة عن دفء المشاعر؟ يعرض المخرج الصور الخام، ثم تلك المعدلة، ويبيّن نوع التغيير التقني الذي أدخله عليها... يشرح أنه من دون استحضار هذا في التصوير يصعب تنفيذه في مرحلة ما بعد الإنتاج. ويحذر: يستهلك التلوين زمنًا طويلًا، لذا فهو مكلف.
يشرح المخرج الكندي ويعرض اللقطات ثم يتلقى أسئلة من قبيل: كيف يؤدي تعديل ألوان صورة إلى جعلها تنتمي إلى زمن آخر؟ وهل سيؤثر ذلك على تعبيرية ومصداقية الصورة كوثيقة؟
يبني المخرج مداخلته من خلال السؤال والجواب والمثال المرئي. هذا عمل ممارسين محترفين وليس عمل معلقين يتغنون بروعة السينما كفن معبر عن الحياة.
هكذا يُصنع الجمال في الورشات بالصوت والصورة واللون أمام الطلبة. وينبع هذا الدرس من نظرية المعرفة الحديثة القائمة على الملاحظة والتجريب، وليس على التحليل الماورائي، أو النفسي للجمال.
تتجنب الورشات التطبيقية البيداغوجيا الميكانيكية التي تقوم على محاضرة طويلة. وقد عاش غابرييل غارسيا ماركيز هذه التجربة في منتصف القرن العشرين، حين ذهب إلى إيطاليا لتعلم السيناريو في المركز التجريبي للسينما في روما. هناك وجد دكاترة يحاضرون بفخامة عن التاريخ الاجتماعي الاقتصادي للسينما، وعن نظرية اللغة الفيلمية، وكان الطلاب يبقون جامدين تترنح رؤوسهم من النعاس، والسبب ـ بحسب ماركيز ـ أن ذلك لم يكن سيناريو، ولا أي شيء، بل "كان محاضرات مطوّلة مضيّعة للوقت".




يكون الأمر مختلفًا في ورشات مهرجان يستضيف عشرات طلبة الفن السابع، وهم متشوقون لمتابعة أسرار مونتاج الصورة والصوت. كتب ماركيز في كتابه "ورشة سيناريو كيف تحكى الحكاية؟": "من دون معرفة قوانين المونتاج ـ وهي في مقام علم النحو السينمائي ـ لا يمكن لكُتّاب السيناريو أن يكتبوا مشهدًا واحدًا صحيحًا". يتم تعلم الإخراج والمونتاج والتلوين بالتدرب عبر تحليل الفيلم، أي تفكيكه إلى أجزائه الصغرى لإدراك كيف يتشكل. هذا التدريب الميداني ضروري، ويقر أندريه تاركوفسكي بتواضع: "إن تجربتي توضّح بأن تعلّم شخص ما في معهد للسينما لا يخلق منه فنانًا".
من حضر، وماذا يحتاجون؟
جلّ الحضور هم طلبة ومنتجو ومخرجو ومصورو أفلام وثائقية يحضرون ورشات كثيفة ومناقشات أفلام باختيار مسبق للجانب الفني الذي سيُحلل. بهذا يصير المهرجان مَشتلًا سينمائيًا يترك أثرًا مغروسًا، وليس جولة عابرة.
إن الطلبة أكثر اهتمامًا من الزبناء التقليديين، وكثير من هؤلاء ينددون بالمهرجانات التي يحضرونها، فلقد فقدوا الشغف بالفن.
إن الحل الذي سينقذ المهرجانات السينمائية المغربية الجادة من الرتابة هو أن يكون نصف الضيوف طلبة يحضرون ورشات نقاش وتدريب في تيمة المهرجان.
يحضر من يحتاج إلى معرفة وخبرة بالأفلام لينتقل من المشاهدة والاستهلاك إلى التعلم والإبداع والإنتاج. إن للرغبة دورًا كبيرًا في التعلم. ليس هناك تعلم من دون جهد ذاتي... هكذا يتم تسخير الشغف والرغبة ليصيرا فيلمًا مثلما يتم تسخير قوة الريح لتصير كهرباء. هكذا يترك المهرجان أثرًا ثقافيًا وتعليميًا بعد حفل الاختتام. وفي حالة مهرجان الشريط الوثائقي ستتم معاينة ما نوقش في الورشات وصوّره الطلبة على شكل أفلام في الدورة المقبلة في عام 2024. وهكذا يمتد الفعل الفني.
لتعميم هذه التجربة التي شاهدتها في مدينة أغادير يجب ربط المهرجانات الفنية وكليات الفنون لكي يتلقى طلبة شعب فنون العرض تكوينًا نظريًا وتطبيقيًا في الميدان.
ففي مهرجان مسرح يحضر طلبة مسرح. وفي مهرجان سينما يحضر طلبة سينما. وفي مهرجان موسيقى يحضر طلبة موسيقى وصوت في السينما. وهكذا يتحول كل مهرجان إلى مشتل يحتضن مواهب في الإبداع والتنظيم لتشبيب القيادات الثقافية على أمل استبدال رؤساء المهرجانات الذين اجتازوا العهدة الخامسة في زمن العولمة.
وثمة نقطة أخرى. يستقبل المغرب أكثر من 250 ألف سائح أسبوعيًا منذ بداية 2023. سياح لا يعرفون العربية لا يمكن إمتاعهم باللغة، فيطلبون أن يشاهدوا فنون العرض المغربية. العين تنتصر. هذه مسألة فنية ذات أبعاد اقتصادية وجيوسياسية لتسويق صورة المغرب عالميًا. لقد صارت الصور وسيلة تواصل وأيقونة هوية. وهي لم تدرس بعد، وقد اعترف رولان بارت "إن الكتب التي تتناول الصورة أقل من كتب باقي الفنون" (بارت، الغرفة المضيئة، ص12).
يرتبط تشجيع السياحة حاليًا بانتشار فنون العرض. الجمهور يريد أن يرى. صار إبداع الصورة وفهمها ضروريين، لذلك تقتضي الهندسة الثقافية الربط بين قطاعات المعرفة والتعليم والفرجة والتسويق لمكافحة الفقر وإنتاج الثروة.
تهدف السياحة إلى جلب أفراد من دول أخرى لينفقوا نقودهم عندنا. نتيجة لذلك تؤثر السياحة الكثيفة اجتماعيًا ولغويًا وقيميًا واقتصاديًا في كل المجتمعات. عمليًا، تحمل السياحة نفسًا تحديثيًا للسوق وللعلاقات الاجتماعية. إن السياحة تمرين للتعايش والتسامح مع غرباء دينًا وعرقًا ولغة. بغرض التعامل مع هذا المعطى الثقافي والاقتصادي يحتاج الطلبة إلى معرفة تقنيات صناعة الصور المتحركة، لأنها صارت أساس الفن والتواصل التجاري والسياسي والتعليمي. الصورة تكتسح كل المجالات. وبحسب العالمة باتريشيا أوفدرهايدي، منذ 2006 شكل تحميل الفيديوهات نصف المساحة الإجمالية في الإنترنت.
هذا زمن زاد فيه الطلب على الفيلم الوثائقي،  فما تبعات هيمنة التواصل السمعي البصري على التواصل الكتابي في المجتمعات الحديثة؟
كان التواصل السمعي البصري في المجتمعات القديمة محصورًا في التفاعل المباشر بين أفراد في مكان ضيق. ثم صار هذا التواصل يجري عن بعد بفضل الثورة التكنولوجية. لقد صارت الشاشات أكثر انتشارًا ربما من الموز والخبز، وهذا يستدعي التعامل نقديًا مع ما تعرضه من صور خبرية وعاطفية ودعائية... ولضبط ومفاهيم تحليل هذه الأبعاد وفتح نقاش حولها، لا بد للمتدخل من منجز بحثي مكتوب، أو مصور، أو هما معًا، للتواصل مع الجمهور عامة، ومع الطلبة خاصة، في مواضيع محددة، ولخلق دينامية ثقافية ممتدة. هكذا سيكون المهرجان مشتلًا سينمائيًا، وليس وجبة سياحية.
لا بد من تكييف التعليم العالي مع المعطيات الجديدة بخلق صلة وصل بين النظام التربوي ومؤسسات الفرجة، حينها ستكون المهرجانات الفنية محركًا للنشاط التعليمي لدى الطلاب.
ويحتاج تسيير هذا الربط بين الكليات ومهرجانات الفنون خيالًا ميدانيًا، طاقة كبيرة للمتابعة، وبصيرة نافذة لتشخيص المواهب وحسن توظيفها، إضافة إلى فن إدارة العلاقات العامة قصد حل المشاكل التي تعترض فعل التنشيط في سيرورته.
ولكن قبل هذه الهندسة الثقافية هنالك سؤال يحتاج توضيحًا من وزيري الثقافة والتعليم العالي: هل السينما فرجة، أم هي ثقافة وفرجة واستثمار اقتصادي؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.