}

في ديمقراطية الكتابة: أولوية المضمون على الشكل

طلعت قديح 7 مارس 2023
آراء في ديمقراطية الكتابة: أولوية المضمون على الشكل
(GettyImages)

الرواية والقصة والشعر والنثر والمقالة أشكال مُؤطّرة لمسمى كتابي ما، تبلور لإسقاط المفهوم على قالب الكتابة، من خلال الارتكاز على الأطروحات الأدبية من جهة، والمناهج النقدية المؤسسة لهذا الفهم من جهة أخرى.

وبتفاوت تقنيات البحث في جنس الكتابة نتساءل: هل تعدو الأحكام الدّالة على الجنس الأدبي حكمًا خالصًا لا يمكننا مراجعته؟ فقط لأن الاجتهادات السابقة ثبّتَتْ تلك المسميات وفق تنظيم دلالي، وتحولها من الاختراع إلى الممارسة العملية، ثم التنظير لها بوصفها إنتاجًا غير قابل للأخذ والردّ.

لا بدّ من الإشارة إلى أن أغراض الجنس الأدبي أغراض متصلة سندًا، وإن اختلفت متنًا، باختلاف تقنية الكتابة المتبعة أو في مدار التجنيس للكتابة. ولذلك؛ فإن حتمية الانفتاح على الهالة المقدسة للمفاهيم المقولبة، تأخذ المهتمين بالشأن الأدبي إلى إعادة تشكيل الاعتبار الأدبي للكتابة، بوصفه جسمًا إداريًا يخضع لعمليتي المراجعة والتنسيق، واللتين تشكلان محور التجديد الأدبي.

هذا التجديد يحاذي العصر ويبحث في إرساء مثبَتات اعتبارية للاجتهادات القائمة على أطروحات علمية وفكرية، دون إغفال الحالة الإنسانية الشعورية في نتاج القالب الكتابي أو في تذوقه. وهذا الأمر لا يعني إهمال الاعتبار الأدبي للتراث، وجعل قاعدة التجديد "البداية من مسافة الصفر" منطلقًا للبدء! إذْ فيه ميل مستغرب لبخس جهود جبّارة من السابقين، بل ويناقض مبدأ الحرية في التعبير وحفظ حقوق الملكية الفكرية الإبداعية، وطمسًا لحقبة تفاعلية، وفصلًا مؤثرًا بين الأصل الموروث والتحوّل المعرفي ضمن بلورة منظومة واصلة بين الأصول التراثية والتجديد الفكري، ناهيك عن العنوان الأول "الحرية".

ومن أبرز القضايا التي شغلت المشهد الأدبي، وما زالت، في ميزان التأطير الكتابي، قضية الشعر والنثر. ولا أريد هنا أن أدخل في رحى ما يمكن أن يعتبر من فصيلة "لا يسمن ولا يغني من جوع". إلا أنني وكحلٍّ معتبر، أعتقد أننا يجب علينا أن نضع الأمر في نصابه المشترك، ألا وهو إبداع الكتابة، بغض النظر أكان شعرًا أم نثرًا، ورغم قناعتي أن التجنيس مهم في توصيف شكل الكتابة، بالإشارة إلى اعتباريته العميقة، بيد أن ذلك سيدخلنا في "معمعة"، وسنسرف في حرث البحر دون طائل.

وفي هذا المضمار يطلق الشاعر أدونيس بعض أطروحاته الفكرية في قول الشعر، في مقابلة معه، ويدفع بفكرة أن كلمة "شعر" اختراع من قبل النّقاد والمؤرخين للتبسيط. وهناك شعراء! وقد وضع ثلاثة شروط لاستحقاق لقب شاعر، وفق رؤية تاريخ الشعر حسب قوله، وهي أولًا، امتلاك الشاعر لغة خاصة داخل اللّغة العربية، والتي يكتب بها بالمعنى الاستقلالي؛ "صوتٌ مستقلٌّ" بشخصيته الشعرية. ثانيًا، ابتكار علاقات جديدة ما بين الكلمات والأشياء السائدة، إذْ يجب أن يبتكر علاقات جديدة من جميع النواحي. وثالثًا، أن يكون شعره مليئًا بالنوافذ والطرق التي تفتح آفاقًا جديدة للتساؤلات وللتفكير. ويردف أدونيس قائلًا: "حينها يمكن القول عن الشاعر بأنه شاعر، ولا يمكن أن يكون شاعر مثل شاعر آخر". وشبّه الشعراء الكبار بتعايشهم كجيران في غابة واحدة.

وفي اتجاه آخر تطفو على السطح إشكالية متعلقة بتقييم الكتابة في مرحلتها الأولى ثم تقويمها بفعل النقد الأدبي. وخلال هذه المرحلة تبرز مكوّنات متشابكة من علاقات فعل القراءة والكتابة؛ مكوّن لعلاقة القارئ بالكاتب، وآخر لعلاقة الكاتب بكينونته التي يحاول منها بث أفكار لمعرفة مدى التأثير على الوعي والمشاركة في القضايا الحادثة، ناهيك عن المنظومة، وهنا يكمن الاختلاف في الاستقبال، وباختلاف درجاته وتأثيراته التي تتباين ضمن مشهد يراقب المسار العام للقراءة والكتابة.

علينا جميعًا، المهتمون بالكتابة بمشاربها، أن نعترف أن الإنتاج البشري إنتاجٌ متغير في حقيقته، ضمن اجتهادات وعوامل منظورة، كالمكان والزمان والكينونة المجتمعية، والتاريخ والكثير من المتغيرات التي يكون فيها الاختلاف أمرًا حتميًّا، ولا يغيب عن الذهن أن الإجابات عن الاختلاطات الفكرية هي في ذاتها متغيرة، ولا يوجد فيها شيء ثابت بتطور الفكر البشري.

وفي ذات السياق؛ ما الذي يجعلنا مقتنعين بصوابية فكرة عن أخرى، وبمعنى آخر؛ ما السبب في تبينّنا لفكرة ما، ونفورنا من فكرة أخرى، على الرغم من أن الاختلاف ليس منهجيًا، بل يدخل أيضًا في كثير من العوامل التي يمكن أن تؤثر في الحكم على الأطروحة.

إن هذا الأمر يوقد المحاولة في فتح آفاق للتساؤلات الوجودية للتفكير الإنساني، وأكثر نجاعة هي تلك التساؤلات التي تتولد منها تساؤلات متشعبة، قد تكون أشد تعقيدًا. فكلما أفرزت القضية الفكرية نوعًا من التفكير؛ ذهبت الأمور إلى منحنيات يمكن أن تخرج عن الإطار المحدد، ليس لشطط في التفكير، بل لأن المسارات متوالدة، تمامًا كشخص يتعارف على شخص آخر صدفة، فيكتشف أنهما قريبان من نفس شجرة العائلة من الجد الثاني مثلًا.

 أدونيس يدفع بفكرة أن كلمة "شعر" هي اختراع من قبل النّقاد والمؤرخين للتبسيط 


إشكاليات النص

إن الإشكالية في مجمل هذه القضية هي إنسانية المعرفة، ومعنى ذلك أن النقد الأدبي بمناهجه واتجاهاته، يعتبر في بوتقة الاجتهادات الفكرية العميقة، لكنها لا ترقى إلى الثبيت والتدعيم كعلم ثابت مقارنة بالعلوم الأخرى. وهنا تتضح الإشكالية في اختلافات الممارسة النقدية بين منهج وآخر، ومدرسة وأخرى، في مشهد يقترب من مفهوم "التكتل". فلكلٍّ مُنظِّرُوه المعتبرون، وأنصاره المتتبعون لسياقات الحالات الأخرى، آخذين على عاتقهم الاندماج بالتأثير في مجتمع القراءة المتخصص أو تشكيل منظورات تفاعلية وتفعيليّة يكون مرتكزها "مشاهير الكتّاب"، وبعض القرّاء ذوي الهمة في مهام الشغب لإثارة المشهد. وقد يصل الأمر في هذا العصر إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا، في تأليب وإحداث اختلافات تصل لمعارك فكرية بين أطراف مختلفة المشارب والمآرب.

وفي اعتقادي أن ثمة مفاصل مشتركة للخروج من هذه الإشكاليات وجعلها تحت مظلة واحدة وهي الفن، ما يمنح رحابة يمكن من خلالها الحفاظ على دسامة الاعتبار الأدبي دون إقحام قالب الكتابة بشكله الحاضر في إحداث تنازع الأطراف وتنافر الأمزجة، مما سيرهق المشهد، ذاهبين بالمساهمات والأطروحات المكتوبة أو المرئية الخاصة إلى تذبذب في الأداء وتشظٍّ يؤثر على العملية الإنتاجية للأدب.

"لا للاستبداد بالرأي، نعم لحرية الكتابة"، شعار سيطلقه أولئك الذين يعتبرون المعارك النقدية إثراءً للعملية الأدبية، بمختلف مكوناتها، متمترسين خلف "حرية التفكير" معلنين أن الاختلافات دليل على الاجتهاد واحتمالية الصواب. فإن جانب الاجتهاد صوابًا، فهو هدف منشود وضروري، وإن ذهب الاجتهاد لركن غير مطروق، فسيكون ذلك تأسيسًا لنهج التجديد في الفكر الإنساني، نافضين غبار الركود في أطروحات موروثة، ووضعها في ميزان فكري يتناسب مع تطور آليات البحث والابتكار. ولكننا نتساءل: هل يمكن أن تتحرر التسميات أو الخصوصية في المسمى الكتابي عبر الزمن بفعل أجيال قادمة، تؤمن بعدم التجنيس، وتعتبر الشكل مجرد لوحة إعلانية لمنتج ما، إذ حالهم كمن يقف خارج محل يعرض بضاعة باسمها دون أن يدلّل على ماهيته؟

إن الإشكالية في مجمل هذه القضية هي إنسانية المعرفة، ومعنى ذلك أن النقد الأدبي بمناهجه واتجاهاته، يعتبر في بوتقة الاجتهادات الفكرية العميقة، لكنها لا ترقى إلى الثبيت والتدعيم كعلم ثابت مقارنة بالعلوم الأخرى

وفي المقابل: أليس هناك من يحاول المحافظة على التراث بوصفه فعلًا مقدسًا وإطارًا جامعًا، لكنهم يقعون في شرك تقدم الفكر والزمن؟ فما كان تجديدًا ذات يوم؛ أصبح مع مرور الزمن تراثًا، وجاءت أفكار أخرى تحل محله في التعريف والوظيفة. ثم يخلق من هذا التوجه تساؤلات عديدة، أبسطها؛ إذا كان الإبداع هو الإتيان بما ليس موجودًا، فهل ينتفي وجه الإبداع عن الجديد الذي أصبح موجودًا؟

الكتابة عجين الروح، وفيها يُعمل الكاتب محبته في الحروف، فإما أن يختار كتابة حارقة، يكوّن من خلالها منظمة تخدم فكره وتوجهاته، وإما أن ينثر من روحه ما يرشد أو يهيئ لغيره واحة مما يمكن أن يكون ملاذًا لفكر وروح.

الإحساس بثقل المسؤولية نزيف، يحاول فيه المشتغل بالكتابة أن يواصل البحث عن الأسئلة، ليَخضّ مداخيل القوة الفكرية في شخصية القارئ أولًا، وفي شخصية الكاتب الآخر، وهو قارئ أيضًا. وهذا الإحساس يأتي من الوعي بقيمة الكتابة، باختلاف أغراضها، الحاضرة بقوة في عالمنا وخاصة المشهدين الأدبي والثقافي.

الكتابة كمنعٍ للفوضى

الكتابة منحة لمزيد من التعبير، ويكفي أن نقول إن الكتابة مانعة للفوضى، إذ أن الكتابة فعل وعي تام، وبالتالي تكون نهجها منظمًا، وهذه الناحية الفنية هي التي تفرز الكتابة السمينة عن الكتابة الغثة. وضمن هذا الإطار يكون الإقناع هو الشرارة المحركة لقيمة الكتابة ومعرفة تأثيراتها على مسار الفهم والتحول والتقييم. وعليه فإنني أعتقد أن التعبير الشكلي في الكتابة قد يصل إلى زاوية لامسة للفهم، لكنها لا تصل إلى أُسّ التأثير الحقيقي الذي يحول الفكر من فكر لفكر آخر عبر أداة الإقناع والتفكير العميقين.

وفي سؤال لي للكاتب الدكتور شكري المبخوت: "لماذا تكتب ولمن تكتب؟"، يقول المبخوت: "أكتب في أجناس قوليّة مختلفة، لذلك تتعدّد دواعي الكتابة ويتعدّد الجمهور الذي أخاطبه. فأنا أحرّر البحوث اللسانيّة والنقديّة الأدبيّة لغايات معرفيّة خاصة من قبيل نقل المعرفة الحديثة والمشاركة في النقاش الدائر كونيّا حول قضايا مخصوصة. وبالمقابل أكتب المقال والعمود الصحافيّ حين أجد تدخّلي في تناول بعض القضايا الفكريّة والثقافيّة والأدبيّة ضروريّا لرد أطروحة أو فكرة شائعة. فهي كتابة لا تخلو من جدال خافت أحيانًا كثيرة. أمّا كتابتي السرديّة في الرواية فهي لمعالجة ضروب من الحيرة عن مسائل في المجتمع، وهي تثيرني ولا أجد لها إجابات أصوغها في مقال فكريّ. علاوة على ذلك فإنّ الرواية تسمح لي بتأمّل مجتمعي ونقده وبيان أنّ وحدته الظاهرة مجرّد وهم، بما انّ الصراعات المختلفة تشقّه. بهذا المعنى يتراوح الجمهور عندي بين قلّة قليلة من المختصّين الملّمين بحيثيّات المسائل العلميّة، وبين جمهور عريض جدّا ممّن يتابعون الصحف والمواقع الإلكترونيّة، ويهتمّون بشواغل ثقافيّة أو ممّن يطالعون الروايات".

أما القاص يسري الغول فقد وجد ملاذه بين الكتب. إنه حالم يعشق الحياة التي يهابها رجال ونساء المخيم، فيغرق في التفاصيل ليصير جزءًا من الأبطال، ثم يقرر أن يصنع أبطاله، ليهرب ممن يشبهونه إلى عوالم خلابة، إلى رحاب الخيال، ويلقي بحروفه- قنبلته بوجه العالم ويمضي ساخرًا من الحياة.. الفلسطيني/ ابن الغول، مثلًا، وغيره لا يموتون، بل يصنعون حيواتهم في غمار الفقر والجوع والتشرد والموت ليصيروا أنبياء ورسلًا لأوطانهم السليبة. نحن نكتب لنحيا فالكتابة فِعل جنون، وفعل انفجار وفعل انتحار.

البروفيسور محمود عثمان، وهو شاعر ورئيس قسم القانون في الجامعة اللبنانية، عرض وجهة نظره بقوله: "في الواقع لا أملك جوابًا جاهزًا ولا مقنعًا. نشأت في وسط يمجّد العلم والأدب، فوجدت حافزًا للكتابة، ربما أذكاه الشعور بالفقد. هل هو توكيد للذات أم بحث عن معنى لحياتي، لعل الأسباب كثيرة ولا ندركها، ربما أكتب من أجل نفسي، من أجل شغفي ومتعتي، ومن أجل التعبير عن تميز ما، أو طمعًا في شهرة وتقدير. وربما أحاول رسم عالم أكثر جمالًا وفرحًا ونقاءً. عندما تقرأ أو تكتب، تضاعف نفسك، وتعيش حياتك عندما تكتبها. وتدوّن اللحظات والأحاسيس التي تريد القبض عليها، لتأبيدها. فالكتابة نوع من التذكر، نحن نعيش في الذكرى. أكتب لأكون كل ما أرى أو أسمع أو أحدس أو أحس. إنّ ذبول بنفسجة يؤلمني وإنّ تفتحها إشراق في نفسي، وهذا ما أحاول قوله".

يقول الفيلسوف الفرنسي رولان بارت: "إن الأدب ما هو إلا سؤال ينقصه الجواب"، وعلى هذا يمكن القول إن الإشكاليات السابقة والحاضرة والمستقبلية ما هي سوى نتاج إنساني فكري يساهم في بلورة منظومة حرية فكرية راغبة في الاختراق وتعدد مخرجات الإبداع، للتطلع والوصول إلى ديمقراطية الكتابة.

*شاعر وناقد فلسطيني- غزة. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.