}

السابع من أكتوبر: فاتحة طوفان الحكاية الفلسطينية

مليحة مسلماني 19 نوفمبر 2023

يفتتح السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 فصلًا جديدًا من فصول الحكاية الفلسطينية، لتفيض بشكل نوعي وهائل، منتصرةً إلى حد كبير على نقيضها ــ البروباغندا الصهيونية، التي نشأت بدورها بالموازاة مع تشكّل الفكر الصهيوني في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العشرين؛ بالاستناد إلى ركائز عديدة أبرزها نفي وإنكار الوجود الفلسطيني، كما تمثّل في الشعار الصهيوني "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"؛ فالفلسطينيون في الفكر الصهيوني هم مجموعة "سكان عابرين"، و"متخلّفين"، وتزخر الكتابات الصهيونية الأولى بأوصاف للعربي، من بينها "بربري"، و"متخلّف"، و"لا يفهم إلا لغة القوة"، والأخيرة أيضًا أحد أهم الأسس التي يقوم عليها الفكر الصهيوني، بكونها، أي القوة/ العنف، وسيلة رئيسة لتحقيق "الأهداف القومية" في إقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين[1].

"حيوانات بشرية"
اليوم، وبعد حوالي مئة عام من زرع البذور الأولى لهذه الأفكار الصهيونية، فإن انعكاساتها ونتائجها تحضر وبقوة في مشهدية الحرب العنيفة والهستيرية على غزة، وفي الممارسات المكثّفة واللاإنسانية في الضفة الغربية والقدس، من الاقتحام، والاعتقال والتنكيل بالمعتقلين، وتعريتهم وإهانتهم[2]، ما يذكّر بالصور القادمة من سجن "أبو غريب" في العراق، وتعذيبهم حتى الموت[3].
تتمثل نتائج الفكر الصهيوني بدايةً في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، وأبرزها ذلك الذي أصبح مادّة للنقد اليومي عبر مقالات ومخرَجات بصرية على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يبدو أنه سيُسجّل كأبرز المقولات الفاشيّة في التاريخ الحديث، وكوصمة عارٍ في تاريخ دولة الاحتلال، وهو تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، الذي قال فيه "فرضنا حصارًا كاملًا على غزة... قطعنا الكهرباء والطعام والمياه والوقود، نحن نحارب حيوانات على هيئة بشر، ونتصرّف وفقًا لذلك".
لم تقف التصريحات العنصرية والإبادية عند غالانت، بل أكّدها إسرائيليون آخرون من بينهم مردخاي كيدار، الباحث من جامعة بار إيلان، والذي رفض مساواة الفلسطينيين بالحيوانات قائلًا إن وصف الفلسطينيين بالحيوانات هو "تحقيرٌ للحيوانات"!! يُضاف إلى ذلك تصريحات صحافيين، وضباط وجنود، وناشطين إسرائيليين على مواقع التواصل الاجتماعي، يرون في قتل الأطفال الفلسطينيين أمرًا "عاديًا"، وبل ويجب قتلهم، كما يقول الصحافي الإسرائيلي يهودا شلزينجر: "لا يوجد أبرياء في غزة... كل طفل سوف يكبر ليصبح إرهابيًا... امسحوا، واقتلوا، ودمّروا، وأبيدوا".



أفول عهد البروباغندا الصهيونية 
البروباغندا المستندة الى ركائز صهيونية قديمة، كتفوّق ونقاء العرق اليهودي، وثنائية "اليهود ـ وغير اليهود"، وإنكار الوجود الفلسطيني، وضرورة استخدام القوة، التي يروَّج لها اليوم عبر عبارة مضلِّلة هي "حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس"، في محاولة لإضفاء الشرعية على عمليات الإبادة الاستعمارية وجرائم الحرب، هذه البروباغندا، والتي وُظّفت لخدمتها أدوات إعلامية وسياسية وموارد مالية هائلة، تقف اليوم على حافّة الهاوية، مهزوزة وأقرب إلى الهزيمة، أمام طوفان الحكاية الفلسطينية، التي تفيض بدورها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي ميادين وساحات التظاهر المؤيّدة للفلسطيينين، التي تشهدها دول كثيرة في مختلف أنحاء العالم.
إذًا، فما الذي حدث بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي? كيف انقلبت الرواية، على الصعيد الجماهيري في العالم، وفي خطاب عدد من الشخصيات الناشطة والسياسية والدولية، ضد المستعمِر لصالح المستعمَر؟ هذا الانقلاب يمكن استقراؤه من نشاط مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأحداث، وبروز نشطاء ومؤثرين عرب وأجانب يروون الحكاية الفلسطينية ليس منذ السابع من أكتوبر فحسب، وإنما أيضًا منذ النكبة عام 1948؛ لتنتشر نصوص ومواد بصرية هائلة تسرد قصة احتلال فلسطين، وتفضح جرائم الاحتلال على مدار عقود، بأساليب مبسّطة تصل إلى وعي المتلقّين على اختلاف جنسياتهم ومستوياتهم الثقافية والتعليمية. كما يقوم هؤلاء النشطاء بدحض وتفنيد الرواية الصهيونية في ما يتعلق بأحداث 7 أكتوبر وما بعدها وما قبلها.




كما يمكن استقراء هزيمة الرواية الصهيونية، وانحياز الجماهير إلى القضية الفلسطينية، من انتشار حملات المقاطعة للمنتجات والبضائع الإسرائيلية والشركات الداعمة لإسرائيل، على نطاق واسع وفي بلدان عديدة، وتكثيف الدعوة لهذه المقاطعة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي عبر مخرجات بصرية هائلة. ويمكن الاستقراء كذلك من حجم التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وتفوّقها بشكل كبير، من حيث عددها وحجم المشاركين فيها، على تلك المؤيّدة لإسرائيل، كما هو مبيّن في تقرير على موقع "معهد دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي، يقول إن 95% من التظاهرات الجارية في العالم منذ بدء الأحداث هي مناهضة لإسرائيل ومؤيّدة للفلسطينيين، في مقابل 5% منها مؤيدة لإسرائيل[4].
لعل أحد الأسباب الرئيسة لهزيمة البروباغندا الصهيونية هو سرعة انكشاف زيف الرواية الإعلامية التي تبنّتها إسرائيل، وتناقلتها وسائل إعلام غربية، حول قتل أطفال، واغتصاب نساء إسرائيليات، في عملية "طوفان الأقصى"، بهدف تأكيد وصمة "الإرهاب"، أو "الداعشية"، التي تطلقها سلطات الاحتلال على منفّذي العملية من "كتائب القسّام" و"حماس"، وهي طالما أطلقت مصطلحات مثل "إرهابيين"، و"مخرّبين" "وبربريين"، على الفلسطينيين كلما حاولوا مقاومة سياسات الاحتلال وممارساته، بما فيها أشكال مقاومتهم السلمية. وبعد 7 أكتوبر، تم التركيز على "الأطفال والنساء"، باعتبارهما الفئتين الأكثر جذبًا للتعاطف العالمي خلال الصراعات والحروب.
وسرعان ما صرّح الرئيس الأميركي جو بايدن أنه شاهد صور أطفال إسرائيليين "تم ذبحهم" على يد أفراد من "حماس"، لينفي البيت الأبيض لاحقًا مشاهدة بايدن للصور بنفسه، مؤكدًا أنه سمع عنها فقط من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كما تشير تحقيقات إلى تراجع وسائل إعلام وصحافيين عن تقارير أولية بهذا الشأن، نتيجة عدم إثبات الادّعاء "بقطع رؤوس الأطفال"، من بينهم صحيفة إندبندنت البريطانية، وقناة "سي إن إن" الأميركية[5].
ويقدم تقرير بالإنكليزية، أعدّه "مركز العودة الفلسطيني"، تفنيدًا للرواية الإسرائيلية حول 7 أكتوبر، ويقول إنه ثبت تمامًا كذب ادّعاءات "الاغتصاب الجماعي"، فهي ادّعاءات متجذّرة بعمق في التوجّهات العنصرية ضد العرب، والإسلاموفوبيا، وإنه "لا يوجد دليل على حالات اغتصاب محددة من قبل الجماعات السياسية الفلسطينية في 7 أكتوبر". ويشير التقرير كذلك إلى أن صحيفة لوس أنجلوس تايمز قامت بإزالة محتوى حول الاغتصاب من مقال رأي بتاريخ 9 أكتوبر/ تشرين الأول، لأنه لم يتم إثبات التقارير المتعلقة بهذا الشأن[6].

إعلام "القسّام"
بالموازاة مع تساقط الادّعاءات الإسرائيلية، استمرت "كتائب القسّام" في نشر روايتها للأحداث، عبر فيديوهات ساهمت في تقديم صورة مناقضة لما قدّمته الرواية الإسرائيلية؛ من بين هذه الفيديوهات واحد يصور عملية إطلاق سراح امرأة إسرائيلية وطفليها، بشكل طوَعي ومن دون شروط، وآخر حول أسيرة إسرائيلية جريحة يقوم أحد عناصر "القسّام" بلفّ ضمادة حول يدها، لتشيد بدورها بتعامل أفراد "القسام" معها، وقالت إنها خضعت لعملية جراحية في يدها مدتها 3 ساعات، وحصلت على الرعاية والأدوية المطلوبة. بينما انتشر مقطع لمستوطنة إسرائيلية تقول إن أفرادًا من "كتائب القسّام" بقوا في بيتها مدة ساعتين يوم 7 أكتوبر، وطمأنوها بقولهم "لا تقلقي... نحن مسلمون ولن نلحق بكم أذى"، وإن أحدهم استأذن ليأكل من الموز الموجود على الطاولة في بيتها.
ولا شك في أن كل ما سبق ذكره من عوامل ومجريات أدى إلى فقدان الثقة بالرواية الإعلامية الصهيونية، وتلك الغربية المنحازة لها أيضًا، ما يفسر تراجع حجم التظاهرات المؤيدة لإسرائيل عما كانت عليه قبل 13 أكتوبر، مقابل تلك المؤيدة للفلسطينيين، فقد كانت نسبتها 30% من مجموع التظاهرات حول العالم، لتتراجع إلى 5% بعد 13 أكتوبر، كما يذكر "معهد دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي.

استمرار الفبركة والتضليل
وتستمر الرواية الإعلامية الإسرائيلية خلال العدوان على غزة بمحاولات إثبات ادّعاءاتها الخاصة بها والمتعلقة بالحرب، عبر نشر محتوى رقمي، سرعان ما يتم كشف زيفه وكذبه؛ ومن ذلك فيديو "ممرضة الشفاء" الشهير، والذي أكّد خبير الإعلام الرقمي والتضليل الإعلامي، مارك أوين جونز، أنه مزيّف ومفبرك؛ وتظهر في الفيديو فتاة تدّعي أنها تتكلم من مستشفى الشفاء بقطاع غزة، وزعمت فيه أن حركة "حماس" "سرقت وقودًا وأدوية من المستشفى"[7].




يضاف إلى ذلك صور وفيديوهات التقطها الجيش الإسرائيلي في كل من المستشفى الإندونيسي، ومجمّع الشفاء الطبي، في محاولة لإثبات الادّعاء بوجود أنفاق لحماس أسفل مشافي غزة، لتلاقي هذه الرواية دحضًا ونقدًا، بل وسخرية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام، لخلوّها من دلائل مؤكدة على الادّعاءات الإسرائيلية، واحتوائها على مبالغة وفبركة وتضليل[8].

مَن "الإرهابيّ"؟
التصريحات الإسرائيلية العنصرية الإبادية التي سبق ذكر بعضها، والتي وصلت إلى حدّ اقتراح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة، كأحد خيارات إسرائيل في الحرب، ثم حجم المأساة الظاهرة على الشاشات ومواقع التواصل، والتي شملت أكثر من 12300 شهيد، بينهم 5 آلاف طفل، و3300 امرأة، وارتكاب المجازر يوميًا، واستمرار أشكال الحصار، والتهجير، وتدمير البنية التحتية للقطاع، واستهداف المستشفيات، كل تلك عوامل أسقطت مقولة "حقّ الدفاع عن النفس"، والتي يصبح واضحًا أنها ادّعاءٌ مضلِّل خارجٌ عن معايير المنطق، بل وعن معايير الإنسانية والقوانين والأعراف الدولية.
وبذلك يصبح "الإرهاب" صفةً تَسِم دولة الاحتلال، و"مجرمو حرب" يصبح اتهامًا يلاحق المسؤولين الإسرائيليين، وذلك على الصعيد الجماهيري الميداني، وفي مواقع التواصل الاجتماعي ــ عبر هاشتاغات نشطة تصف إسرائيل بالدولة الإرهابية والنازية، وعلى صعيد الخطاب الدولي كذلك، كتصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي قال إن إسرائيل "دولة إرهابية" ترتكب جرائم حرب، وتنتهك القانون الدولي في حربها على قطاع غزة، ومن ذلك أيضًا تصريح المرشح الرئاسي الأميركي، تشينك أويغور، الذي قال إن ما تقترفه إسرائيل في قطاع غزة من قصف للأبرياء هو الإرهاب بعينه.



سجن غزة الكبير
منذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي منذ ما يزيد على عقد من الزمن، شهد العالم حروبًا متتالية على قطاع غزة، عزّزت من صور مأساوية حولها في الوعي الجمعي العالمي؛ صور الدمار، وأشلاء الأطفال والنساء وكبار السن، وظروف الحصار، كلها مرسخّة مسبقًا في الوجدان الجمعي ومنذ ما قبل السابع من أكتوبر، عبر حروب خرجت فيها الشعوب للتظاهر بهدف التضامن ووقف الحرب والحصار على غزة.
ثم تأتي الحرب الأخيرة، لتعزّز بشكل قوي من صورة غزة المرادفة للمأساة المستمرة والسجن الكبير. يضاف إلى ذلك هبّات شهدتها كل من الضفة الغربية والقدس والمناطق المحتلة عام 1948، خلال السنوات الأخيرة، كهبّة "باب الأسباط"، وهبّة "الشيخ جرّاح"، و"أحداث اللد"، وغيرها، ولا توجد فعليًا في هذه المناطق مقاومة مسلّحة ومنظمة كتلك الموجودة في غزة. ومع ذلك، فإن صور ممارسات الاحتلال، بين قتلٍ يومي واعتقال وتنكيل، واستلاب أراضٍ، واعتداءات على أماكن مقدّسة، ترسّخت في ذاكرة البشرية حول فلسطين كأرض محتلة، لها حكايتها ومأساتها المستمرة، التي يصبح من الواجب على العالم أن يسمعها. لذا فإن السابع من أكتوبر، الذي شهد "عملية عسكرية" غير مسبوقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، هو أيضًا فاتحةُ طوفان الحكاية الفلسطينية.

هوامش:
1 ـ يُعد فلاديمير جابوتنسكي (1880 ـــ 1940) أبرز من يمثل فلسفة العنف في الفكر الصهيوني. وبشكل عام، أكد أنصار اليمين الصهيوني على أهمية القوة والعنف، ومن هؤلاء أوري تسفي غرينبرغ، الذي يرى أن العرق اليهودي مقدَّس، وآبا أحيمئير، الذي يرى أن "المثل الأعلى الجماعي" يتحقق عبر الألم والعذاب، وأن العربي "لا يفهم إلا لغة القوة".
2 ـ أنظر: "مقاطع فيديو قاسية... مرصد حقوقي يوثق تعذيب جنود الاحتلال لمعتقلين فلسطينيين"، الجزيرة، 31/10/2023، https://bit.ly/3SGvSeW
3 ـ أنظر: "الاحتلال يواصل اغتياله... شهيد الأسر الخامس منذ 7 أكتوبر"، شبكة قدس، 14/11/2023، https://bit.ly/3SGwgdo
4 ـ “New Figures Reveal: The Number of Demonstrations Against Israel has Soared”, INSS, 09/11/2023, https://bit.ly/3FXKD5I
5 ـ أنظر: "تحقيق: حسابات إسرائيلية روّجت كذبة قطع رؤوس أطفال قرب غزة"، الجزيرة، 15/10/2023، https://bit.ly/3QXqu5U
6 ـ أنظر: بالإنكليزية: "تقرير لمركز العودة الفلسطيني حول تفنيد الأكاذيب الإسرائيلية منذ عدوان 7 أكتوبر"، مركز العودة الفلسطيني، 30/10/2023، https://bit.ly/3uhLLhY
7 ـ أنظر: "فيديو ممرضة الشفاء: فبركة وتضليل"، العربي الجديد، 14/11/ 2023، https://bit.ly/46iC3t5
8 ـ Ali Abunimahm, “Need comic relief? Watch Israel’s PR stunt collapse”, The Electronic Intifada, 14/11/2023, https://bit.ly/3MMyiF4
أنظر أيضًا: "المشاهد تكذّب نفسها... كيف احتوت مشاهد "الأسلحة التي ادعى الاحتلال العثور عليها في الشفاء" على دلائل تنفيها؟"، شبكة قدس، 15/11/2023، https://bit.ly/3Qy1osQ

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.