}

أعمال وديع خالد: سردية بصرية فلسطينية لحكاية أصحاب الأرض

مليحة مسلماني 26 أبريل 2024
هنا/الآن أعمال وديع خالد: سردية بصرية فلسطينية لحكاية أصحاب الأرض
وديع خالد
توغل أعمال الفنان الفلسطيني وديع خالد في الحالة الفلسطينية وما يرتبط بها من هويّات ذاتية وجمعية تشكّلت عبر عقود من المعاناة تحت الحكم الاستعماريّ؛ لتسيطر على أعماله الأخيرة ثيمة العائلة الفلسطينية بشخوصها الرئيسيين: الأب والأم والأطفال، فتظهر العائلة في بعض أعماله في حالات من الالتفاف والاحتضان، أو الاصطفاف والتكاتف، وكأنها تعيش حالة طوارئ دائمة، فتبدو على أهبّة الاستعداد لكارثة، أو فجيعة. فالتهديد اليوميّ للحياة على مدار عقود من الاحتلال، وغيرها من مظاهر استعمارية، كالاعتقال والحصار والحواجز والملاحقة والمنع وتقييد حرية الحركة، شكّلت خريطة الوعي والوجدان لدى الفلسطينيين، الذين يعيشون قلق الفقد والتهديد بشكل يوميّ ومستمرّ.

(وديع خالد)

ولد وديع خالد عام 1986 في مخيم العرّوب شمال مدينة الخليل، لعائلة هُجّرت إبّان النكبة من قرية عراق المنشية (جات الكنعانية)، ويقيم حاليًا في مدينة رام الله. شُغف بالرسم منذ طفولته، فكان ينفّذ الرسومات على جدران المخيم، كما أقام معرضًا فيه عندما كان عمره 13 عامًا، لتبقى سمة الفن الجداري حاضرة في عدد من أعماله المتأخرة. شكّلت حياة المخيم وذاكرة التهجير والنكبة المرجعية الأمّ في تكوين هويته الفنية، يضاف إلى ذلك تجربة الاعتقال التي استمر خلالها بالرسم مستخدمًا مواد بسيطة، كزيت الزيتون والفحم، لتنفيذ رسومات على الملابس التي كانت تحضرها المؤسسة الدولية للصليب الأحمر للأسرى. درس تخصص الغرافيك في جامعة البوليتكنيك في الخليل، كما حصل على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة القدس في أبو ديس.
من أبرز مشاريعه الفنية "تاريخ الفن الفلسطيني للأطفال" (2016)، الذي يضم مجموعة من القصص القصيرة التي تُروى عبر لوحات فنية، والتي يتم التركيز  فيها على شخصيات فلسطينية بارزة من فنانين وأدباء. تُقَدّم القصة القصيرة للطفل، وكما يوضح الفنان: "بمشهد صُوَري متتابع متكامل، إذ تنمّي لديه الثقافة البصرية، وصولًا إلى التمعّن والاستمتاع بالعمل الفني، مخلّدًا في ذاكرته المواقف المهمة المطروحة في حياة شعبنا. بالإضافة إلى صور الشخصيات المفصلية". شارك وديع خالد في عدد من المعارض المحلية والدولية، ويقام له في بداية أيار/ مايو القادم معرضٌ في غاليري ArtBooth في أبو ظبي، وذلك بالاشتراك مع الفنان أسامة دياب (فلسطيني من مواليد سورية).

القضية القديمة الحاضرة
(وديع خالد)

خلال العدوان الحالي على غزة، حيث يشهد العالم جرائم تطهير عرقي، وحصارًا تجويعيًا وإباديًا بحق الغزّيين، أنجز وديع خالد مجموعة من الأعمال، التي نفّذ معظمها بتقنية الأحبار على الورق، مستمرًا في تشريح الموضوع الفلسطيني وتصوير انعكاساته على الإنسان، ومتأثرًا بالأحداث القاسية في غزة، والتي يتناولها في أعماله غير منفصلةٍ عن سياقها الفلسطيني الشمولي، بل بامتداد القضية الفلسطينية الزمنيّ والجغرافي.




كما يستمر وديع خالد في تعزيز هوية بصرية أسلوبية تميّزه في المشهد التشكيلي الفلسطيني المعاصر، بأسلوب يدور في فلك الواقعية، والانطباعية وما يميزها من بحثٍ في العلاقات بين الضوء والظل، إضافة إلى ميلٍ إلى الاستلهام من التعبيرية، واعتنائه الدقيق كذلك بالخطوط والتقسيمات الهندسية التي تميز أعماله، والتي تعزّز من جماليات العمل الفني. وتُقرأ هذه الخطوط والتقسيمات باعتبارها تعبيرًا عن تشظّيات جوّانية خلّفها الاستعمار في الذات الإنسانية، وفي المكان الفلسطيني.

البيت ــ الأسرة ــ الذات
يتخذ وديع خالد من الأسرة ثيمةً يحيل بها إلى البيت، الذي يتسع بدوره ليختزل البيت الأوسع/ الوطن، كما تعكس أعماله التي تصور الأسرة الفلسطينية خريطةَ الوجدان والوعي في الذات/ الفرد، وبذلك تصبح الأسرة موضوعًا يحيل إلى مستويات عدّة من التأويل. يصور أحد الأعمال أبًا يحتضن أطفاله فيظهرون في حالة أقرب إلى النوم جالسين، ما يحيل إلى عدم وجود شعور حقيقي بالأمان. يتشح جميعهم بالكوفيّة الفلسطينية، التي تظهر بدورها في كثير من أعمال الفنان باعتبارها إعلانًا رمزيًا واضحًا لهوية الشخوص والمكان.
حالة الاحتضان والتفاف أفراد الأسرة حول بعضهم بعضًا في عدد من الأعمال هي إحالة إلى الحاجة إلى الآخر في واقع محاطٍ بالتهديد المستمر، والحاجة إلى الحماية، وإلى شعور الأب بمسؤولية مضاعفة في ظل هذا الواقع الاستثنائي. يصور عمل آخر زوجين من دون أطفال في المشهد، يبدوان في حالة من الإنهاك، أو اليأس والانتظار الطويل. تظهر المرأة في أحد الأعمال بالزي التقليدي، تحتضن إطارًا لا تظهر فيه صورة وموسومًا بشارة الحداد السوداء، في إشارة إلى الفقد والابن الشهيد، ما يترك جرحًا لا يندمل في كثير من الأُسَر الفلسطينية، التي فُجعت باستشهاد أحد الأبناء. يحتضن الزوج زوجته فيبدوان في تكوينهما الكليّ أشبه بالمربع. وحالة المربع، التي يعزّزها الإطار في منتصف اللوحة، هي إحالة إلى محاولة الاحتماء ببيتٍ ومأوى، عبر الالتفاف حول الذات والآخر القريب منها.
يدخل عنصر العود إلى بعض الأعمال، وهي الآلة التي يعزف عليها الفنان نفسه، يحتضنه الأب الذي يظهر وحيدًا في بعض الأعمال، أو إلى جانب زوجته، أو وسط أطفاله في أعمال أخرى، كما في عمل يظهر فيه الأب جالسًا على كرسي يعزف على العود، ومن حوله زوجته وأطفاله، جميعهم بأعين معصوبة، في إشارة إلى عدم الرغبة في رؤية العالم الخارجي الموسوم بالسوداوية، والانسحاب نحو الذات والأسرة. يذكّر غطاء الأعين أيضًا بحالة الاعتقال؛ فالشعب الفلسطيني المحاصر بالحواجز العسكرية وجدار الفصل، والمرهونة حياة أفراده لحكم استعماري، هو أشبه برهائن لدى هذا الاستعمار. أما العود فإحالة إلى محاولة التمسك بأملٍ وبجماليات الحياة، والإبقاءِ على إيقاعٍ وتناغمٍ يحفظ تماسك وتوازن الذات والأسرة.

القداسة والتاريخ
تقترب الأسرة الفلسطينية من مرتبة القداسة حين يصور الفنان السيدة العذراء حاملةً السيد المسيح، حجابها الكوفية الفلسطينية، وتتحول الهالة فوق رأسها إلى دائرة سوداء. هذا العمل هو استمرارٌ لثيمةٍ وجدت في كثير من أعمال روّاد الفن الفلسطيني، وهي الاستلهام من التاريخ الديني، وقصة السيدة العذراء والسيد المسيح، وما تضمّنته من لجوء ومعاناة وبشارات، وتوظيفها ضمن الواقع الوطني الفلسطيني المعاصر؛ فالمسيح الذي سار درب الآلام هو البشارة والخلاص، وكذلك الفلسطيني، الذي واجه أشكالًا من المعاناة، يبقى حالمًا بالخلاص/ التحرّر، وساعيًا إليه.

لوحة العشاء السري 

يستلهم وديع خالد مواضيع أعماله ورموزها من مختلف مصادر التراث الفلسطيني الوطني والثقافي والتاريخي، ويتكرر استلهام التراث الديني التاريخي في لوحة بعنوان "العشاء السرّي"، التي نفّذها مرتين، بألوان الزيت، وبالأحبار في عمل آخر، وهي تمثّل إعادة اشتغال على اللوحة الشهيرة "العشاء الأخير" لدافنشي، غير أن وديع خالد يضع الحكاية التاريخية ضمن سياقها التاريخي والجغرافي والوطني الفلسطيني؛ عبر ظهور السيد المسيح في اللوحة متشحًا بالكوفية الفلسطينية، ومن ورائه مشهد لمدينة القدس، ومن حوله تلامذته، ومن أمامه مكعّب إسمنتي، وهي إشارات تؤكد رسائل وطنية انطوى عليها العمل، من ضمنها  فلسطينية السيد المسيح، وفلسطينية حكايته، وتكرار التاريخ على أرض فلسطين، عبر الملاحقة والمؤامرات التي تستهدف وجودها وتعيق تحرّرها وخلاصها.

المرأة ــ الوطن ــ الهوية
للمرأة حضور بارز في أعمال وديع خالد، يصورها بحالات وجدانية متعددة تتراوح بين الخاص والعام، وغالبًا ما تظهر بالزي التقليدي الذي يشكّل الفنان زخرفته لا كما هي في الواقع، بل من تقاطعات الخطوط والأشكال الهندسية التي تميز أعماله.




"صفيّة" هو عنوان أحد الأعمال الذي يستوحيه الفنان من شخصية رئيسة في رواية "عائد إلى حيفا" لغسّان كنفاني، والتي تعود إلى حيفا مع زوجها سعيد بعد غياب عشرين عامًا، للبحث عن ابنهما الذي تركاه في مهده قسرًا خلال أحداث النكبة، ليكتشفا أن ابنهما أصبح جنديًا في جيش الاحتلال، ويعيش مع عائلة يهودية استولت على بيتهما.
في اللوحة التي نفّذها الفنان، تُخفض صفيّة رأسها باتجاه ركبتيها، وتغطي وجهها بيدها، وتظهر شرائط من القماش على يديها وقدميها، لتحيل إلى حالة من الألم والتشظّي. مرة أخرى، يجعل التكوين البصري العام، الأقرب إلى المربع، من المرأة، عنصرًا رمزيًا يختزل البيت/ الوطن، وفلسطين المكان والإنسان. وصفيّة هي رمزٌ للكلّ الفلسطينيّ الذي يحاول لملمة شتات ذاته والاستناد إلى بيت ــ وطن، غير أن الواقع الاستعماري يخلق حقائق مأساوية وتناقضات، تجعل الهوية الجمعية في معركة دائمة ونضال مستمر للحفاظ على وجودها وتماسكها.
المرأة في أعمال وديع خالد عنوان للوطن، وللهوية الوطنية بامتدادها التاريخي والتراثي والثقافي، وهي أيضًا عنوان للمقاومة؛ تظهر في أحد الأعمال، ومن ورائها قرص الشمس، حاملةً الكوفية الفلسطينية التي تبدو كستارة وخلفية، إذ تعد كل من الهوية والمقاومة مرجعيات أساسية في الوجود الفلسطيني. في عمل آخر، رُسمت المرأة ضمن تكوين أقرب إلى الشكل البيضاوي، تحمل فأسًا في يدها، ويظهر مما يشبه بقجة معلّقة في صدرها فتى ملثّم يحمل غصن زيتون. الفأس وغصن الزيتون إحالات إلى الأرض والعلاقة الوثيقة بها، بينما التكوين البيضاوي إشارة إلى المرأة باعتبارها الرحم ــ الوطن الذي يستمر في إنجاب المقاومين.
تحشد لوحة أخرى لأمّ ترضع طفلها دلالات متعددة حول الأمومة والوطن والمقاومة؛ وعنوان اللوحة "أمّ سعد"، المستوحى من رواية بالاسم ذاته لكنفاني، وتمثّل أمّ سعد فيها رمزية للأمّ الفلسطينية المهجّرة والكادحة التي تربّي المقاومين. رُسمت الأمّ بطريقة مضخّمة وأسطورية ليحتل جسدها معظم مساحة العمل، إضافة إلى تضخيم الأعضاء، وهو ما يميز كثيرًا من شخوص وديع خالد، ما يجعلهم قريبين من شخصيات أسطورية تُخرج العمل عن دلالاته الذاتية الضيقة، لتحيل به إلى مواضيع عامة وطنية وتاريخية.

لوحة أم سعد 

المقلاع (النبلة أو الشُّعبة) في يد أم سعد هو إشارة إلى المقاومة الشعبية التي تميز بها الشعب الفلسطيني في الانتفاضة الأولى بخاصة، بينما الكوفية التي يتشح بها الطفل هي عنصر بصري يختزل دلالات تشير إلى المقاومة والثورة والتاريخ والهوية الثقافية بشموليتها. يتناول العمل العلاقة بين المرأة والوطن التي عالجها الفن الفلسطيني عبر مراحله المختلفة وطرحها أدب المقاومة كذلك، من حيث تشبيه علاقة الفلسطيني بأرضه بعلاقة الطفل بأمّه. أما فعل الإرضاع فهو إحالة إلى توريث الهوية والتاريخ والحق في الأرض، أي توريث الحكاية الفلسطينية للأجيال المختلفة.
تسيطر حالة المقاومة بشكل أوضح في عمل آخر؛ يظهر في الجانب رجل ملثّم بالكوفية، ويحمل سلاحًا، وفي الوسط تحضر المرأة في حالة من النهوض والاستنهاض، وفي الخلفية طفلان يحملان الحجارة. يجمع العمل بين مراحل تاريخية في مسيرة النضال الفلسطيني؛ فالملثّم والسلاح إحالة إلى الثورة الفلسطينية التي انطلقت في أواخر ستينيات القرن الماضي، والتي عادت إلى الظهور عبر صورة المقاتل في غزة، أمّا الحجارة في أيدي الطفلين فهي إحالة إلى أطفال الحجارة الذين تميزت بهم الانتفاضة الأولى وسمّيت باسمهم.
أعمال وديع خالد هي استمرارية للسردية البصرية الفلسطينية لحكاية أصحاب الأرض، فلا شكّ في أن القضية الفلسطينية تبقى الموضوع الأكثر سيطرة على أعمال الفن الفلسطيني المعاصر، خاصة مع استمرار مظاهر الاستعمار وازدياد حدّة عنفه في العقود التي تلت عملية السلام، والتي تصاعدت بشكل كبير خلال الحروب المتكررة على غزة، وآخرها العدوان الحالي الذي يقترب من أن يكون نكبة أخرى. وما يميز أعمال وديع خالد هو سعيها للتوغل عميقًا في الذات/ الهوية الفردية والجمعية الفلسطينية، عبر أسلوبٍ تميزه الخطوط والتقسيمات والأشكال الهندسية والعلاقات بين الضوء والظل، لإظهار خريطة الوجدان والوعي الجمعييْن على سطح العمل الفني، فتبدو أعماله وكأنها سعي الهوية نحو التماسك والنهوض عبر واقع الحصار وتقطيع الأوصال والتشظّي، فتصير شظاياها فسيفساءَ تكوينها ووجودها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.