}

كيف أصبح "فيسبوك" عدوًا ثقافيًا عندنا؟

بوعلام رمضاني 29 سبتمبر 2022



تعلمت تاريخيًا أن انعكاس أي اكتشاف علمي في أي مجال كان على الحياة العامة بوجه عام والشخصية بوجه خاص، يتوقف على الإنسان المستعمل للوسيلة المكتشفة. الفوائد التي جنيناها من كل الاكتشافات العلمية لا تعد ولا تحصى، وكانت وما زالت تخدمنا يوميًا ومن بينها وسائل التواصل الاجتماعي التي تعد ثمرة عظيمة لثورة رقمية مذهلة. على رأسها يأتي "فيسبوك" الشعبي بطبيعته، والأكثر نفعًا في تقديري، حتى بترهات وتفاهات وترهيب الحمقى الذين أدانهم الكاتب الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو، والذي تحوّل عند الذين أساءوا فهمه شماعة تعلق عليها كل مساوئ "فيسبوك"، وكأنه شر في المطلق وفي كل الحالات دون وضع القضية في إطارها السوسيو سيكولوجي والسياسي والثقافي والحضاري لمقاربتها علميًا في الزمان والمكان.

أبدأ بمن تسمى بالنخبة أو بمن يسمى بالمثقفين في عالمنا العربي بوجه عام، وفي وطني بوجه خاص، والذي مكثت فيه مؤخرًا خمسة أشهر أكدت لي مجددًا وبشكل غير مسبوق كيف أصبح "فيسبوك" عدوًا ثقافيًا عندنا بدل توظيفه كمنبر تواصل يضمن فسحة تعبير كلها حرية إلا على محترفي المصادرة والقمع والشعبوية والتزمت والإقصاء والتخوين والمطاردة للرأي المخالف الآخر. في هذا المنبر الذي يفلت لحارس البوابة الذي تعودنا عليه في صحف أحادية التوجه والرأي تحكم فيها شرطة في أزياء مدنية وفرت لنا الحد الأدنى من الحرية عكس ما يحدث اليوم، لا تواصل ولا نقاش بين كبار وصغار الكتاب والفنانين والمبدعين بوجه عام رغم تنوع توجهاتهم الفكرية واللغوية. إذا أحصينا عدد المثقفين الذين يثرثرون في المقاهي وفي الصالونات المكيفة وفي بيوتهم بحرية أكبر تفرضها الجدران غير المريبة وغير المشكوك في أمرها، وأحصينا عدد المثقفين الذين يكتبون في الفضاء الافتراضي الحر وغير المسبوق لمناقشة نظراء لهم في قضايا مصيرية، نكتشف بسهولة مؤلمة حجم البون الشاسع الذي يفصل بين ادعاءات وتبجح الكثير منهم وخاصة حملة الشعارات الشعبوية وواقع حضورهم المخجل عبر "فيسبوك". إذا ظهر أحدهم، فيظهر لكي يطعن في مثقف ويشتمه ويصادر حقه في التعبير ويلومه في اختيار هذا الكاتب أو ذاك أو يعاتبه على نخبويته الأكاديمية كما حدث للزميل شنيقي مؤخرًا. عوض مناقشة من نختلف معهم بالأدلة والبراهين الدامغة، يصمت معظم المثقفين ويخشون الخوض في قضايا ومشكلات سياسية يعانون من تبعاتها إما تحت وطأة الخوف والجبن والولاءات الجديدة القديمة لصناع الفساد المستمر رغم تغير القادة والوجوه، أو تحت وطأة شعبوية متزمتة يرفض أصحابها حرية تعبير من يختلفون معهم أيديولوجيًا وفكريًا، وهكذا حولوا "فيبسوك" من منبر للحوار أو المناظرة أو الخصومة الفكرية الطبيعية إلى فضاء حرب طاحنة على طريقة داحس والغبراء. هكذا أيضًا حول من يدعون تمثيل الوعي "فيسبوك" إلى منبر لتكريس الإقصاء الثقافي، وفي المحصلة إلى عدو ثقافي تدفع ثمنه الفئات الشعبية البسيطة الحالمة بنقاش نخبوي مستنير ومتسامح يخدم الجميع دون استثناء بغض النظر عن اختلافات ضرورية وحتمية وعادية لا تؤدي حتمًا إلى خلافات تقطر عدوانية وحقدًا واحتقارًا، وهنا يستوي الكثير من أصحاب الشعارات الأيديولوجية المتضاربة، وتلك هي الطامة الكبرى.

 دان الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو الذين أساءوا فهم "فيسبوك" 



أنا الصحافي الذي يحترم كل صاحب جهد بغض النظر عن عيوبه وحدوده وتوجهه، يتعلم يوميًا فيسبوكيًا بفضل كاتب وإعلامي كبير مثل الدكتور أحمد شنيقي، وناقد وأديب وأكاديمي في حجم السعيد بوطاجين، وباحث إعلامي ممتاز مثل فوزي سعد الله، ودارس ومتيم بالأدب مثل بوداود عمير، وروائيين مثل واسيني الاعرج وأمين الزاوي ومحلل اجتماعي مثل ناصر جابي وصحافيين كبار مثل إبراهيم قارعلي وأحميدة العياشي (كسرا مؤخرًا القاعدة التي أتحدث عنها بتبادلهما حوارًا حضاريًا تجاوز الأيديولوجية التي أصبحت مبرر الكسالى والجبناء الكثر). اقتصر على الأسماء التي تكتب بانتظام لافت، وليس لي عداوة تجاه أحد من الذين لم أذكرهم، وهدفي معالجة الموضوع منهجيا بمقاربة حافلة بالأسماء التي تؤكد صحة مقاربتي لا غير، وأعتذر مسبقًا إذا فاتتني بعض الأسماء الأهم من التي ذكرتها أو مماثلة لها. تحول "فيسبوك" المنبر الحر إلى عدو ثقافي نتأثر جميعًا بمخلفات جبن البعض وشعبوية البعض الآخر واحتقار وانحطاط أخلاق وشرطة أراء ومعتقدات كثر. يحزنني أكثر إلى درجة التحسر حينما يطلق العنان العاجزون عن كتابة خمسة أسطر للشتم والإستهزاء ساخرين من الذين يكدون ويجتهدون مواظبين على التحليل والتنوير غارقين في البحث والاستقصاء، وأنا شخصيًا تعلمت الكثير من الباحث الذكي فوزي سعد الله، المتخصص في تاريخ القصبة والأندلس بوجه عام، وأواظب على قراءة المقالات التي تكتبها الأسماء المذكورة سواء التي تنشر في الصحافة أو مباشرة في الصفحات الفيسبوكية. وكثيرة هي الحالات التي اختلفت فيها مع بعضهم، الأمر الذي لم يدفع بي إلى الاستخفاف بهذا الاسم أو ذاك.

عن جهوية الكثير من المثقفين التي تصل في كثير من الأحيان إلى مستوى الانتماء إلى القبيلة أو الدشرة كما يقال عندنا في الجزائر، حدث ولا حرج، وفي كثير من الأحيان لا يختلف الشيوعي أو اليساري عن القومي المتزمت والإسلامي المتطرف أو الوطني استنادًا لمعيار الإقصاء المتبادل، وشخصيًا سعدت حينما ناقش الزميل العياشي زميله قارعلي معترفًا بموهبته الشعرية التي برزت فجأة عبر ألفية خرج صاحبها إبراهيم من معطف مفدي زكريا، والتي اختلف فيها العياشي مع إبراهيم فكريًا وليس أدبيًا.

أخيرًا، تحزنني مأساة تحول "فيسبوك" إلى عدو ثقافي، حينما أسمع بعض المثقفين يتحدثون عن رفضهم لـ"فيسبوك" الذي شغل الشباب والنساء بوجه خاص وتسبب في رفع نسبة الطلاق في تقديرهم، وحينما أسمع صحافيًا كبيرًا متقاعدًا يقول إن "فيسبوك" هو صنيعة المخابرات في الوقت الذي يقضي وقته في مهاجمة المختلفين معه أيديولوجيًا وغير قادر على مناقشة أحدهم حتى في الصحف الورقية. أموت حزنًا أكثر وأكثر وأتحول إلى جثة تقرأ وتكتب، حينما أتأكد أن بعض المثقفين المواظبين على الإقصاء وخطاب الشعارات منفصلين عن الحياة الفكرية التي يختلفون مع أصحابها لغويًا وأيديولوجيًا داخليًا وخارجيًا، تكونوا بلغة واحدة لا تسمح لهم بالاطلاع فيسبوكيًا أو عن طريقة القراءة التقليدية، والأمر ينطبق في الجزائر الضحية على المعربين والمفرنسين على السواء بوجه عام وليس في كل الحالات. هؤلاء أعداء أنفسهم، وليسوا أعداء "فيسبوك" فقط، تهمهم الثرثرة الشعاراتية في البيوت والمقاهي. لهذا السبب كل المقاهي في الجزائر مليئة حتى الآخر ليس بمحدودي التعليم فقط وبالأميين كما يقال، بل تمتلئ أيضًا بالذين يدعون أنهم من حملة القلم، وبدل توظيفهم للكتابة ردًا على الذين ينتقدونهم، يفضلون إطلاق العنان لألسنتهم القبيحة والمسيئة للذين يسيطرون على ألسنتهم.        


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.