}

أمين معلوف وهويَّاته المتعدّدة

فخري صالح 18 نوفمبر 2022
آراء أمين معلوف وهويَّاته المتعدّدة
أمبن معلوف في منزله غرب فرنسا (Getty Images, 1/10/2021)

 

يعكف الروائي اللبناني الفرنسي أمين معلوف على سبر مفهوم الهويَّة، وقراءة تحولاتها، وتبدلاتها، والمسارات المتعرجة التي تتخذها، وكذلك تعدّد عناصرها، وعدم استغراقها بصورة كليَّة في وجهٍ واحدٍ ووحيد من وجوهها، يسم بميسمه الفردَ أو الجماعةَ البشرية. فهويَّةُ الإنسان، كما تتبدى في عمل معلوف الروائي، متحولةٌ ومتبدلة ومتعددة، لا تنزع إلى الثبات، بسبب العوامل والظروف والتجارب العديدة التي تفعل فعلها فيها، فتغيِّرها وتجعلها تتخذ وجوهًا ما كنا نعرفها فيها من قبل. في روايات معلوف، التي تستمدُّ حبكاتِها من التاريخ العربي، وشخصياته وأحواله وتقلباته، ومساراته غير المتوقعة في معظم الأحيان، نقرأ عن الهويَّات التي تتصادم، في كرِّ السنوات والعصور، لتلتقي مصائرُ أصحابها وتتقاطع، ولو على نحوٍ سرديٍّ، فنيٍّ، وبتدبيرٍ من الروائي نفسه، لتتغيَّرَ الهويات وتغتني، وتصبحَ أكثرَ قربًا من النموذج التعدديِّ الذي يهجس به الكاتب في مجمل عمله.

لعل هذا الهجسَ الدائم بمسألة الهوية، والإيمانَ بقدرة الهويات البشرية على الانفتاح على بعضها بعضًا، (لتتهجَّنَ وتغتني، أو تتقوقعَ على نفسها، وصولًا إلى الاحتراب والتصادم، والدخول في حروب الهوية التي لا تنتهي) هما اللذان قادا معلوف إلى تأليف كتابه، العامر بالبصيرة والفهم والحكمة، الذي ينضح في الوقت نفسه بالحسِّ الإنساني العميق، "الهويَّات القاتلة" (1998). وهو يشرح فيه، بصورة جداليَّة، تتقابل فيها الحجَّةُ والحجَّةُ المضادة، كيف تتحوَّل الانتماءات الدينية، أو القومية، أو الإثنيَّة، أو الأيديولوجية، أو مجموعُها معًا، إلى هويات عنيفة، إقصائيَّة، استبعاديَّة، قاتلة. 

يبدأ معلوف كتابه من أمثولته الشخصية، ومسار الهويات المتقاطعة المتبدلة في حياته كفرد وكاتب، أي من كونه مسيحيًّا لبنانيًّا، اختار الرحيلَ إلى فرنسا بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ليبدأ رحلة الكتابة باللغة الفرنسية، مستلهمًا موضوعاتِ رواياته، وعمله الإبداعي في مجمله، من التاريخ العربي واللبناني، لكي يتأمَّل سبل تبدُّل الهويات والمصائر عبر التاريخ. ومن هنا، فإنه يسأل هذا السؤال الشخصي الذي يلخص جنوح الهويات في عالمنا المعاصر إلى اختزال الإنسانيِّ فينا إلى بعدٍ وحيد مُفقِر للهوية والوجود: "منذ أن غادرت لبنان عام 1975 للاستقرار في فرنسا، فكم من مرة سألني البعض عن طيب نيَّة إن كنت أشعر بنفسي "فرنسيًّا" أم "لبنانيًّا". وكنت أجيب سائلي على الدوام: "هذا وذاك!"، لا حرصًا مني على التوازن والعدل بل لأنني سأكون كاذبًا لو قلت غير ذلك. فما يحدّد كياني، وليس كيان شخص آخر، هو أنني أقف على مفترقٍ بين بلدين، ولغتين أو ثلاث لغات، ومجموعة من التقاليد الثقافية. وهذا بالضبط ما يحدّد هويتي. فهل أكون أكثر أصالة لو استأصلت جزءًا من كياني؟"1.

ليست أصالةُ الهويّة، نقاؤها وصفاؤها، وعدم اختلاطها بأية هوية أخرى، هي ما يسعى معلوف إلى التأكيد عليه. ولهذا السبب طرح مثاله الشخصي الذي يعبِّر عن هجنة الهوية وتبدلها، واغتنائها، عبر مسيرة الحياة وتجربتها، والظروف الضاغطة التي جعلته يرتحل من بلد إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، ومن لغته الأم إلى لغته المُتبنَّاة المختارة للكتابة والإبداع. وهو يسأل، من ثمَّ، إذا كان هناك إمكانية لوجود هوية جوهرية يولد بها الإنسان، هوية غير قابلة للاغتناء بغيرها من الهويات، حيث يفترض البعض وجود انتماء واحد لكل إنسان هو "حقيقته الدفينة"، "وجوهره الذي يتحدد نهائيًّا عند الولادة... ولا يتغيَّر قط" (ص: 9) وهو الأمرُ الذي يجعل من الإنسان حبيسَ الشروط التي تسببت في ولادته لأبوين معيَّنين، ينتميان إلى عقيدة وعرق وثقافة وقومية محددة، فيواصل حياتَه حاملًا هذه الهوية، ومجموعَ الانتماءات التي لا يصيبها التغير، مهما سافر وارتحل أو احتكَّ، بسبل متوقعة أو غير متوقعة، بالهويات والانتماءات الأخرى، التي تختلف في صفاتها عن هويته وانتماءاته.



يمكن القول، في هذا السياق، إن عمل أمين معلوف الإبداعي يقدم نقضًا سرديًّا لهذا التصور المغلق للهوية، حيث نقع في رواياته على اختلاط الهويات وامتزاجها، وتفاعلها، وتناحرها، وتبدلها، وامحائها أحيانًا، وخمودِها في أحيانٍ أخرى، لتحلَّ محلَّها هويات جديدة، تبعًا لشروط الزمان والمكان، والبيئة السياسية، أو الثقافية، أو الروحية. هكذا تتصوَّر روايات معلوف العالمَ والبشرَ والتاريخَ، بوصفهم كيانات متحولة، متغيرة، وفي حالة تبدُّل دائم. فكما أن التاريخ لا يعرف الاستقرار، فإن الهويات لا تصل إلى حالٍ من الثبات، والنمطيَّة، والقالبيَّة، التي يحاول الكثير من دعاة التقوقع والانفصال، واستبعاد الآخر، ونفي تأثيره، إضفاءها على الهوية.

يبدو التصدير الذي يبدأ به معلوف روايته "ليون الإفريقي" (1986) كاشفًا وموحيًا، وتنويريًّا، في ما يخصُّ فهمه لمعنى الهوية. يقول الراوي على لسان حسن الوزَّان/ ليون الإفريقي، في خاتمة ترحُّله بين البلدان والثقافات والأديان والحضارات، في مساره المتعرِّج بين الشعوب المهزومة والمنتصرة، بين الغزاة والمغزوّين، بين من ينعمون بنعمة الاستقرار والسائرين على دروب المنفى:

"خُتنتُ، أنا حسن بن محمد الوزَّان، يوحنا ـ ليون دومديتشي، بيد مزيِّن، وعمِّدت بيد أحد البابوات، وأُدعى اليوم "الإفريقي"، ولكنني لست من إفريقية، ولا من أوروبة ولا من بلاد العرب. وأُعرف أيضًا بالغرناطي والفاسي والزيَّاني، ولكنني لم أصدر عن أيِّ بلد، ولا عن أيِّ مدينة، ولا عن أيِّ قبيلة. فأنا ابن السبيل، وطني هو القافلة وحياتي هي أقلُّ الرحلات توقُّعًا.

لقد عرف معصماي على التوالي دغدغاتِ الحرير وإهاناتِ الصوف، ذهبَ الأمراء وأغلالَ العبيد. وأزاحت أصابعي آلاف الحُجُب ولوَّنت شفتاي بحمرة الخجل آلاف العذارى، وشاهدت عيناي احتضار مدن وفناء إمبراطوريات.

ولسوف تسمع في فمي العربية والتركية والقشتالية والبربرية والعبرية واللاتينية والعامية الإيطالية، لأن جميع اللغات وكلَّ الصلوات ملك يدي. ولكني لا أنتمي إلى أيٍّ منها. فأنا لله والتراب، وإليهما راجعٌ في وقت قريب"2.

تلخِّص العبارات السابقة مفهوم الهوية المتحول الرجراج، كما تختصر، في أقلِّ من صفحة، رحلةَ "ليون الإفريقي"، وعبورَه الدائم بين الثقافات والمعتقدات، والأسماء والصفات، إنْ لم نَقُلْ الهويات. ونستدلُّ من هذا التصدير، الذي أجازف وأقول إنه يكاد يَلُمُّ أطرافَ عمل أمين معلوف، أنه لا شيءَ يمكن أن يمثِّل جُماعَ الهويَّة، أو يعرِّف صفاتها وعناصرها، لأنها قابلة للتغير والاستبدال والانتقال والعبور، وصولًا إلى الانتفاء والتبدُّد والعدم المحض. فلا مكانُ الولادة، أو المعتقدُ الديني، أو الانتماءُ القومي، أو الجنس، أو اللون، أو العرق، أو الطبقة، أو اللغة، تصلح لتعريف الهوية، أو لمِّ شتاتها المبعثر. إن معلوف، في سعيه لقراءة تحوّلات الهوية، يكاد ينفيها ويبددها، قاصدًا من ذلك تبديدَ سحرها، ومحوَ الهالة التي يريد المدافعون عن الهويات المغلقة المصمتة إحاطتَها بها. فليون الإفريقي، بأسمائه وهويَّاته المتعددة، هو "ابن السبيل"، وطنه "هو القافلة"، و"هو لله والتراب"، ولا شيء يدلُّ عليه سوى هذا العبور الذي ينقله من طريق إلى طريق، ومن لغة إلى لغة، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن دين إلى دين، ومن الحرية إلى العبوديَّة، ومن حال الفقر إلى حال الغنى.


بالمعنى السابق يكون الإنسان ابنَ المنفى والعبور والتحوّل وعدم الاستقرار؛ هويَّتُه رجراجة تعبثُ بها رحلتُه في العالم والوجود. ويمكن أن ننظر إلى رحلة "ليون الإفريقي"، بدءًا من ولادته في غرناطة، التي تترقَّب مصيرَها المحتوم، وانتهاءً بكلماته الأخيرة التي يسطِّرها لابنه الذي ولدته له مادالينا اليهودية، بوصفها الترياقَ الشافي من محنة الهويات في زماننا، والدرسَ الذي يتعلمه البشر من شخصية سردية، عاشت في تقاطع الثقافات، والمعتقدات، والمعارف، والتجارب الإنسانية المختلفة والمتعارضة. ولهذا ينصح ليون ابنه بالكلمات التالية: "لقد كنتَ في رومة "ابنَ الإفريقي"؛ وسوف تكون في إفريقية "ابنَ الرومي". وأينما كنت فسيرغب بعضهم في التنقيب في جلدك وصلواتك. فاحذر أن تدغدغ غريزتَهم يا بنيَّ، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور! فمسلمًا كنتَ أو يهوديًّا أو نصرانيًّا عليهم أن يرتضوك كما أنت، أو أن يفقدوك. وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس فقل لنفسك أرض الله واسعة، ورحبة هي يداه وقلبه. ولا تتردد قطُّ في الابتعاد إلى ما وراء جميع البحار، إلى ما وراء جميع التخوم والأوطان والمعتقدات" (ص: 389).

تبدو الهويَّات، بأنواعها وأشكالها وصفاتها المختلفة، الأكثر إثارةً للقلق والخوف في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. فعلى خلفية انتماء البشر إلى هويَّاتهم، العرقية أو الدينية أو المذهبية أو القومية أو الجغرافية أو الثقافية أو الأيديولوجية، تشتعل الحروب والصراعات، وصولًا إلى الإبادات الجماعية التي ترتكب باسم الهوية، وبسببها.

يقول أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة" إن "ما يحدد انتماء شخص إلى إحدى الجماعات هو تأثير الغير بصورة أساسية، أي تأثير الأقربين ـ الأهل، المواطنين والإخوة في الدين ـ  الذين يحاولون استملاكه، وتأثير الآخرين الذين يسعون لاستبعاده" 3. ويفسر هذا التعريف تشكُّل الهويات في مواجهة بعضها، لا بصفتها ماهيَّات جوهرية، تتمتع بالأصالة وعدم القابلية للتفاعل مع الهويات الأخرى، بل كمجموعة من الانتماءات التي تمليها شروط الولادة والبيئة والتربية والتكوين. فليست الهويات "ثابتة، بل هي تتحوَّل مع الوقت وتُحدث في السلوك البشري تغييرات عميقة" (ص: 24).

لكن إذا كانت الهوية متحولة، غير ثابتة، وهي قابلة للتهجين والتأثُّر بالهويات الأخرى، فلماذا شهدنا، عبر التاريخ، كما نشهد في عالمنا المعاصر، وفي أيامنا هذه بالتحديد، حروب هويات طاحنة لا تبقي ولا تذر؟ لماذا تعود الهويات هذه الأيام مسلَّحةً بالتعصب والتطرف، ونفي الآخرين واستبعادهم، وصولًا إلى القتل والإبادات الجماعية التي يندى لها جبين البشريّة؟ يصدق هذا على الغرب والشرق، على المسلمين والمسيحيين، وعلى أتباع الديانات السماوية والأرضية كذلك. يسعى معلوف، كما يشير في الصفحات الأولى من الكتاب، إلى "محاولة فهم الأسباب التي تدعو الكثيرين اليوم إلى القتل باسم هويتهم الدينية والإثنية والقومية وغيرها" (ص: 17- 18)، وهو يرى أن هذه الأسباب تكمن في حصار الانتماءات التي يحملها الإنسان في وجدانه، لا في طبيعة الهويات نفسها التي تتشكَّل، بتأثير عوامل تاريخية، جغرافية، ثقافية، إلخ. ومع ذلك فليست هوية الإنسان "سلسلة من الانتماءات المستقلة، وليست "رقعًا" بل رسمًا على نسيج مشدود، ويكفي أن يُنتهك انتماءٌ واحد لينفعل الإنسان بكل كيانه" (ص: 41) وهو الأمر الذي يحدث الآن، في عالمنا المعاصر، الذي تنفجر فيه الهويات المحاصَرة، ويتمسَّك أصحابها بانتماءاتهم التي تمنع ذوبانهم في كيان الهويات الأخرى، الأكثر قوةً أو عددًا أو غنىً أو تقدمًا أو حداثة. ويقود ذلك، دون شك، إلى تقوقع هذه الجماعات، الأضعف، أو الأقل عددًا، أو الأكثر فقرًا، أو الأقلّ تقدُّمًا وحداثة، وانسحابها من المجتمع الذي يهدد انتماءاتها وهوياتها المنتفضة. كما أن هذا الشعور بالحصار والاستبعاد والتهديد قد يقود هذه الجماعات، في النهاية، إلى التطرّف والعنف والرغبة في الانتقام، بل تدمير الذات والآخرين. ويفسر هذا الشعورُ بالتهديد والحصار لجوءَ بعض الجماعات، أو المجتمعات، أو القوميات، إلى الهويات الدينية التي تمثل في هذه الحالة ملاذًا وحماية.  فـ"عندما تسود الريبة في أحد المجتمعات، تكون الأشكال الأخيرة من التضامن هي الأعمق والأقوى؛ وعندما تخنق كل الحريات السياسية أو النقابية أو الأكاديمية، تصبح أماكن العبادة الأماكن الوحيدة التي يمكن التجمُّع فيها والمناقشة والشعور بالتضامن في المحن والشدائد" (ص 206).



يدافع أمين معلوف، انطلاقًا من الاستنتاج السابق، عن الإسلام المتهم في الأوساط الغربية، السياسية والثقافية، بوصفه مصدرًا للعنف والتطرف ومعاداة الحداثة. وهو يورد، لنقض هذه الصورة النمطية المُقوْلَبة للإسلام وأتباعه، أمثلةً من عصور التسامح التي سادت الإمبراطورية الإسلامية، قرونًا عديدة متوالية، قائلًا إن التطرف الإسلامي ليس طبيعة متأصِّلة في الإسلام بل هو نتاجُ ظروف تاريخية، سياسية، تتعلَّق بالشعور بالهزيمة أمام نموذج غربيٍّ عولميٍّ منتصر كاسح. وقد اتسمت المسيحية، يومًا من الأيام، بنزعات التعصب والتطرف والكراهية، وخاضت حروبًا دموية ضد أعدائها، حتى من أولئك الذين يعتنقون الديانة نفسها، لكنهم يقدمون لها تفسيرًا مختلفًا عن غيرهم من أتباع الديانة المسيحية. "لا أحد يحتكر التطرف، وبالعكس، لا أحد يحتكر النزعة الإنسانية" (ص: 75)، التي يدَّعيها الغرب ويحاول احتكارها منذ عصر التنوير. ومن هنا يمكن القول إنه: "لا توجد ديانة معصومة عن التعصب". يتساءل معلوف: "لو كان أسلافي مسلمين في أرض قد اجتاحتها الجيوش المسيحية، بدلًا من أن يكونوا مسيحيين في بلاد غزتها الجيوش المسلمة، لا أعتقد أنهم كانوا سيستمرون في العيش طوال أربعة عشر قرنًا في مدنهم وقراهم، محافظين على ديانتهم. فماذا كان مصير مسلمي إسبانيا؟ وماذا حلَّ بمسلمي صقليَّة؟ لقد أبيدوا عن بكرة أبيهم، وذبحوا وأرغموا على سلوك طريق المنفى أو جرى تنصيرهم بالقوة" (ص: 81- 82). ويستنتج: "لقد تميز الإسلام، منذ بداياته، بقدرة لافتة على التعايش مع الأديان الأخرى" (ص: 82) فما الذي قاد المسلمين ليصبحوا في زماننا موصومين بنزعات التطرف والتعصب والعنف الدينيَّّيْن، كما نرى هذه الأيام؟ إنه التخلُّف، وعدم القدرة على اللحاق بالغرب، لأسباب سياسية تاريخية عديدة. وهكذا أصبح "العالم الإسلامي... متخلِّفًا عن الركب بعد أن كان رائد التسامح لقرون عديدة خلت" (ص 84).

انطلاقًا من هذا التصوُّر، الذي يضع في حسابه حاجة البشر إلى التعبير عن انتمائهم وهوياتهم، ينادي معلوف بضرورة تشكيل هوية إنسانية أوسع، وأكثر قدرةً على لمِّ شتات الهويات والانتماءات البشرية. كما أنه يشير إلى أنه لا يحلم "بعالم لا مكان فيه للدين بل بعالم تنفصل فيه الحاجة إلى الروحانيَّة عن الحاجة إلى الانتماء، عالم لن يشعر فيه الإنسان بالحاجة إلى الانخراط في جمهرة إخوانه في الدين، مع تمسكه المحتمل بمعتقدات وعبادات وقيم مستوحاة من كتاب مقدس، عالم لا يكون فيه الدين لحمةً للمجموعات الإثنيَّة المتناحرة. ولا يكفي فصل الدين عن الدولة بل يجب كذلك فصل الديني عن الانتمائي. فإذا ما أردنا تحديدًا ألا يستمر هذا الخلط في تأجيج التطرف والإرهاب والحروب الإثنية، يجب العمل على إشباع الحاجة إلى تأكيد الهوية بصورة أخرى" (ص: 136) لكن المشكلة أن وحش الهوية، الذي يتخذ لبوسًا دينيًّا، أو عرقيًّا، أو قوميًّا، أو أيديولوجيًّا، سوف يهدد على الدوام حلمَ معلوف الطوباوي. إنه الفهد الذي يقتل "إذا ما تعرَّض للاضطهاد، ويقتل إذا ما سنحت له الفرصة، والأسوأ هو إطلاق سراحه بعد إصابته،" ولهذا ينبغي ترويضه (ص: 200).

يستنتج معلوف من أمثولة الفهد أن علينا أن نتعامل مع الرغبة الانتمائية بحكمة، لا بالاضطهاد، ولا بالتساهل، بل بالمراقبة والدراسة الهادئة والتفهُّم، ثم الترويض والتدجين (ص: 200). وهو يَندُب لهذه المهمَّة الجليلة أشخاصًا يعدُّون بالآلاف والملايين، وعددهم يتنامى يومًا بعد يوم، يصفهم بأنهم أشخاصٌ "حدوديون" (أي أنهم "مقيمون بين الثقافات"، على حد تعبير إدوارد سعيد) منذ الولادة، أو بحكم الصدفة، أو عن وعي وتصميم. هؤلاء، من وجهة نظر معلوف، قادرون على التأثير في مجرى الأحداث وترجيح الكفة في هذا الاتجاه أو ذاك. وهم يستطيعون "أن يضطلعوا اضطلاعًا كاملًا بتنوعهم"، فهم "يصلحون "حلقات وصل" بين الجماعات والثقافات المتنوعة، ويشكلون نوعًا ما "لحمة" المجتمعات التي يعيشون فيها" (ص 56).

*إشارة: فصل من كتاب جديد ينشر قريبًا.

 

هوامش:

1. أمين معلوف، الهويات القاتلة، ترجمة نهلة بيضون، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثانية، 2011، ص: 7.
2. أمين معلوف، ليون الإفريقي، ترجمة د. عفيف دمشقية، دار الفارابي، بيروت، 1990، ص: 9.
3. أمين معلوف، الهويات القاتلة، مصدر سبق ذكره، ص: 39.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.