}

حامل الوشم أو محنة أمجد

حاتم الصكر 28 يونيو 2019
(1)
لا يمكن الاقتراب من أمجد ناصر في الأحوال كلها بدون قراءة تذكارية حتى ونحن نلتمُّ لنقول له: قمْ ولا تخذلنا.. وعدْ إلينا (راعياً للعزلة) ومقتفياً (أثر العابر).
وها أنا أستمد أحد جزئي العنوان من مقالة لأمجد ناصر في أواخر عام 2006 حين خطف الإرهابيون ولدي عدي غرب العراق، وهو في طريقه مع أسرته إلى عمّان هرباً من جحيم العنف الطائفي تلك الأيام. كتب أمجد في القدس العربي مقاله (محنة حاتم) بعد أن اتصل بي إثر واقعة الخطف بأيام قليلة، مستفسراً عن التفاصيل بودّه المعروف وعاطفته الغامرة. بعد أيام كتب المقالة في الصفحة الأخيرة من القدس العربي حيث كان يعمل ظانّاً أن ذلك سيسهم في تحرير عدي. حشدَ أمجد ما يمكن أن يبرر الإفراج عنه، ومسترسلاً في مواساتي بما ترك في نفسي أثراً لا يوصف. كتب بحرقةٍ وبعرفان المثقف والشاعر وشجاعته. وبقيت تلك الكلمات في ذاكرتي رغم عدم تحرير عدي وفقدانه حتى الساعة.
اليوم أستدير لأتأمل محنة أمجد منذ بدء مرضه حتى اليوم، بل محنتنا جميعاً.
وتساءلت فور سماع النبأ: كيف لقلب هذا الشاعر الذي يرقى حتى بالنثر لشعرية مميزة تجمع الفكرة بالأسلوب المشرق ببلاغة ليست تنفجاً أو استعراضاً لغوياً، أن يتحمل المحن الكثيرة عبر فضاء الغربة التي ظللت كيانه الشخصي والفكري والشعري منذ عقود؟
كيف لفتى البوادي والأقاصي أن يسير في بيروت والمنافي الأخرى ليقف في لندن مسلحاً بالبراءة ذاتها والصراحة والشاعرية؟
كيف سنبصر الأمكنة التي انصرف لقراءة تاريخها وأزمنتها وناسها وحياته فيها، وهو لا يصلها كغربائه الذين تحدث عنهم في إحدى قصائده؟
كيف؟
بسعادة كبيرة حتماً؛ لأنه يتنفس هواءَها شعرياً، ويختزلها إلى إشارات وصوى وعلامات لن تندثر. وبألم ممضٍّ أيضاً عبّر عنه في كتبه المتأخرة: شعراً وسرداً ورحلاتٍ وتذكارات.

(2)
سرَّ من رآكَ أمجد: هكذا كنت أبدأ مراسلاتي معه منذ تعارفنا وعبر لقاءاتنا في اليمن وعمّان والقاهرة والخليج، محوّراً عنوان ديوانه الذي يخاطب أنثى غائبة، متناصاً مع الرنين التاريخي العذب لسامراء العراق المعروفة تاريخياً باسمها ذاك: سُرَّ من رأى.
هنا أستحضر ضحكاته المتطايرة في فضاءات الأمكنة التي يحضرها شاعراً أو إعلامياً، ويملأ جلساتنا بقصص لا يملّ سردها منتزعاً انتباهنا ودهشتنا ومحبتنا.
لكنّ وراء ذلك كله ثمة حزن خفيّ يتأرجح كدمعة واقفة بين العين والعالم.. لا تتوقف ولا تنزل.

(3)
حامل الوشم وصل
بأكباشه
وأجراسه
تتبعه النيازك
عبَر قبورا بيضاء
وداس عشبا صامتا بين التماثيل

كأني بأمجد يتحدث في أبياته تلك عن كِسَرٍ من سيرته الشعرية، رغم أنه لم يكن يرتاح

لتأويلاتنا عبر القراءة النقدية لأعماله، لا سيما روايته (هنا الوردة) بكونها تشظيات سيرية. وكان يقول لي إن يونس الخطاط لا يعني أنه هو الكائن الواقعي. فهمت أنه يريد أن يكون له موضع كائن سيري وموقعه فحسب في الرواية، رغم عشرات الإشارات إليه شخصاً في متنها، إحالات المكان والأسرة والزمان والوقائع. هو يريد الكائن لا الشخص. وهذا انعكاس آخر لقناعته بأنّ عمله يقدم نفسه دون تحديدات وتنميطات وقوالب.
سيكون لحامل الوشم هذا مستقَرٌّ بلندن التي لها بين عواصم هجراته مكانة خاصة، لا لأنه أقام فيها نهائيا، ولكن منظور الصدام بين الغرب والشرق يبدو واضحا في أشعار تلك المرحلة. فرغم أن أمجد اختار قصيدة النثر بعد ديوان وزني واحد (مديح لمقهى آخر، 1979) يبدو مهتما بتطوير تجربة الكتابة بقصيدة النثر، والخروج بها من مأزق التقليد أيضاً، ومن التناظر في موضوعاتها وأساليبها. واتجه لتجسيد ذلك إلى حقلين ليس فيهما إنجاز كبير وواضح لشعراء الحداثة، وهما: الماضي كذاكرة تشتغل في ثنايا الوعي، والمرأة كوجود إنساني شخصي وحميم، فصار يستعيد من مخزون ذاكرته مشاهداتٍ بصريةً وأحداثا ومواقف ربطته بماضيه الذي تمرّد عليه كمصير، وهجره إلى مدن كثيرة، لكنه في إعادة حساب له سيصالح ذلك الماضي ويقدم جزئيات دالّة منه، وسيكرّس كتابا كاملا له هو (حياة كسرد متقطع، 2005) مسهماً في تأكيد إمكان وجود السيرة الشعرية. كما ستتجسد لاحقاً بعمله السردي (هنا الوردة) عام 2017.

(4)
أثق، ولي مبرراتي، أن أمجد لن تطول محنته. وسينتصر واقفاً حتى بعد نبوءات طبيبه الذي تحدث عنه في مقالته المعبّرة والمؤثّرة (قناع المحارب.. يوميات مريض بالسرطان) في (ثقافة) العربي الجديد.
إنه طراز خاص من المثقفين المتنورين بلا شعارات فضفاضة باشتراطات حريته، واحتفاظ بالذات مركزاً للاختبار والتجربة والاعتقاد.
سيختار أمجد العودة إلى قصيدته: بيته الذي اختار، ورفضَ وتمردَ وتجاوزَ قناعاته ومسلماته ليصل إليها.
ونحن له لمنتظرون.

(5)
بورتريه شعري: إهداء إلى أمجد
في القصيدة تضمينات من عناوين بعض أعمال أمجد الشعرية وضعت بين قوسين. وهي منشورة منذ سنوات في ديواني "الهبوط إلى برج القوس" المنشور إلكترونياً على موقعي الشخصي: http://hatemalsager.com.

(سُرّ من رآكَ)
أو رآها، بل سُرّ من رآكما في قميص الليل
هي القصيدة ممددةً عارية
جسد يطرزه النمش
(منذ جلعاد) أصدقاؤك (رعاة العزلة)
لا يمشون إلا لكي يضلّوا
هم (الغرباء) الذين (لا يَصِلون)
إلاّ لتخوم سجن أو منفى
أو يبتلعهم فراغ آخر في مدن الشيطان
… البادية هناك في البعيد كجرح مخبّأٍ في جثة
تنام في يقظتك كل ليلة
وتمحو البياض عن الأجساد البرصاء
والأفواه المكممة
وصباحات لندن الشاحبة
… وتهمس لك وحدك
سُرّ من رآكَ
.....

(سُرَّ من رآكِ)
يا عباءاتٍ ومناديلَ ومغازلَ وأشعاراً تطير في خيمة البدو الوحيدة

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.