}

مطموراتنا التاريخية والميراث الفلسطيني المكتوب

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 26 مايو 2019
آراء مطموراتنا التاريخية والميراث الفلسطيني المكتوب
(أسامة دياب)
أكثر الأكاذيب شيوعاً هو الكذب في عمر النساء. وأبعد الروايات عن الصدق هي رواية الأنساب. ويروي محمد الكلبي في كتاب "الأصنام" أن أول كذبة لفقها في النسب قوله إن خالد بن عبدالله القسري سأله عن جدته أم كريز، فقال له: هي زينب بنت عرعرة بن جذيمة بن نصر بن قعين. فسُرّ بذلك ووصله. وكانت أم كريز بغياً لبني أسد اسمها زينب. والأكاذيب السارية توجد، أكثر ما توجد، لدى المحدثين والإخباريين. ولعل قبيلة "حدثنا" أرست تقاليد من فبركة الوقائع غير الصحيحة، وأسست دعائم قوية لاختراع الروايات السقيمة عن الأنساب، علاوة على السِيَر التاريخية. وعلى سبيل المثال يروي إبن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" (بيروت: دار صادر، 1965) أن خالد بن الوليد لما أراد عبور البادية لنجدة الحملات العربية في الشام، اختزن الماء في أجواف الإبل لقلة الماء في البوادي. فلما اشتد العطش بجيشه ذبح بعض الإبل وسقى الجيش والخيل من الماء المخزون في أجوافها. ولنا أن نتخيل مقدار القرف في ما لو شرب هؤلاء حقاً من أجواف الجمال. أما إبن كثير فيروي في كتابه "البداية والنهاية"، بطريقة خرافية، قصة فتح عمورية واستغاثة "وامعتصماه"، فيقول إن امرأة في عمورية صرخت "وامعتصماه" فوصلت الصرخة إلى بغداد، فانتخى الخليفة المعتصم، وجرّد حملة فتحت عمورية. ويروي إبن كثير سيرة المعتصم فيقول هو ثامن الخلفاء العباسيين، وفتح ثمانية فتوحات، وأقام في الخلافة ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، ووُلد في سنة ثمانية ومئة في شعبان وهو الشهر الثامن، وتوفي وله ثمانية وأربعون عاماً، وخلّف ثمانية بنين وثماني بنات، ودخل بغداد في سنة ثمانية عشر ومئتين بعد استكمال ثمانية أشهر من السنة بعد موت أخيه المأمون، فتخيلوا.

التذكر والمكان
أقدم السِيَر الذاتية هي ما كان القدماء ينقشونه على الصخور والمسلات، أو على شواهد قبورهم، وهي سِيَر بدائية في أي حال. وفي الإمكان اعتبار السِيَر النبوية، مثل سيرة إبن هشام، وسيرة ابن إسحق، والسيرة الحلبية، من أقدم السير العربية، فيما يمكن اعتبار الأناجيل أقدم

التراجم الفلسطينية. ويتم التفريق، علمياً، بين السيرة الذاتية Autobiography أي التي يكتبها الشخص بنفسه، والسيرة الغيرية أو الموضوعية Biography أي التي يكتبها شخص لشخص آخر. ويفرق الدارسون أيضاً المذكرات Memories عن التراجم Memoirs عن اليوميات Diaries.
ليست كل سيرة، ذاتية أَكانت أم موضوعية، ذات شأن. فالسير المهمة هي سيرة الأَعلام ذوي الأهمية، أي المشهورين الذين كان لهم حضور في السياسة أو الفكر أو العلم أو الأدب أو المال. وما يُضعف صدقية السيرة الذاتية هو منح الذات فضائل زائدة، وإعلاء مقام كاتبها بما لا يستحقه من الرفعة والتبجيل. ومهما يكن الأمر فإن المكان عنصر أساس في إعادة تكوين الهوية الفلسطينية، خصوصاً في الشتات الذي فَقَدَ فيه الفلسطينيون، لا مكانهم الأصلي فحسب، بل ميراثهم التاريخي أيضاً كالصور العائلية والمشغولات الحرفية ووسائل عيشهم اليومي وأدوات بقائهم.
من المحال استرجاع المكان إلا بالتذكر. وترميم الذاكرة لدى الفلسطينيين في المنافي أمر حيوي جداً لأنه يقيهم رعب المحو والاندثار والذوبان. ولعل هذا هو السبب الذي جعل كثيراً من الفلسطينيين، ربما أكثر من أي شعب عربي، يعكفون على كتابة سِيَرهم ومذكراتهم ويومياتهم. وكان أبناء العائلات وأبناء الأعيان المتعلمين، وحتى أبناء الفلاحين الذين نشأوا في أماكن اللجوء وأصابوا مقادير من الثروة جراء التعليم، هم أكثر من اهتم بكتابة المذكرات. بيد أن مذكرات الأعيان جاءت مزودة بالصور والوثائق، بينما خلت مذكرات أبناء الفلاحين منها إلا في حالات نادرة. وقد أمكننا إحصاء 245 سيرة ذاتية فلسطينية صدرت في النصف الثاني من القرن المنصرم فصاعداً، عدا التراجم واليوميات والأوراق والشهادات. وتشكل هذه المحصلة ثروة لمن يتنكب مهمة العودة إلى تفصيلات التاريخ الفلسطيني المعاصر، والإجابة عن أسئلة شتى مثل: لماذا هُزمنا في سنة 1948؟ ولماذا تمكنت الصهيونية من الاستيلاء على فلسطين؟ أَما كان في الإمكان التشبث بالأرض وبقاء معظم ساكنيها فيها؟ هل كان المجتمع الفلسطيني قادراً على مواجهة الاستعمار الاستيطاني اليهودي حقاً؟ وغير ذلك من الأسئلة الحارقة.

الأوراق المطمورة
أبرز المذكرات الفلسطينية مذكرات واصف جوهرية الموسومة بعنوان القدس العثمانية في

المذكرات الجوهرية (جزآن، 2003 و2005)، ومذكرات محمد عزة دروزة (1994)، ومذكرات جبرا ابراهيم جبرا (البئر الأولى، 1993 و شارع الأميرات، 1994)، ومذكرات شفيق الحوت (بين الوطن والمنفى، 2007)، ومذكرات محمود درويش (ذاكرة للنسيان، 1987، ويوميات الحزن العادي، 2007)، ومذكرات نقولا زيادة (أيامي، 1992) ومذكرات إدوارد سعيد (خارج المكان، 2000)، ومذكرات هشام شرابي (الجمر والرماد، 1978، وصور الماضي، 1993)، ومذكرات أنيس صايغ (أنيس صايغ عن أنيس صايغ، 2006)، ومذكرات نجاتي صدقي (2001)، ومذكرات محمود الأطرش (طريق الكفاح في فلسطين، 2015). غير أن هناك كثيراً من الأوراق المطوية ما برحت هاجعة في المنازل وفي المكتبات، وهي ستساهم، في حال نشرها، في إزاحة اللثام عن جانب من المستور في التاريخ الفلسطيني الحديث. ومن بين تلك الأوراق: مذكرات أحمد سامح الخالدي "فلسطين كما عرفتها"، وأوراق يوسف ضياء الدين الخالدي "أنا"، ودراسة روحي الخالدي عن الصهيونية "السيونيزم"، ومذكرات جمال الحسيني الغافية في أرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني، ومذكرات داود صالح الحسيني (أبو المنذر) التي سجلها بصوته في سنة 1983، وكان في الثمانين، وجرى تفريغها لاحقاً، وهي محفوظة في جمعية الدراسات العربية في القدس. ولا ننسى أوراق مصطفى ارشيد (1912-1957) المحفوظة لدى ابنه سعادة ارشيد، وأوراق عبدالله مخلص المحفوظة لدى عائلته، وثمة نسخة منها لدى مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، علاوة على يوميات طاهر الفتياني المحفوظة في أرشيف جمعية الدراسات العربية في القدس، ويوميات سالم الزعرور المحفوظة لدى عائلته.
مَن يزيح الغبار عن تلك المطمورات وغيرها؟ سؤال موجه إلى وزارة الثقافة الفلسطينية أولاً، ثم إلى جميع المؤسسات الثقافية في فلسطين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.