}

"الخبز الحافي".. مساحات أخرى لكتابة الحياة

ليندا نصار ليندا نصار 21 نوفمبر 2019
آراء "الخبز الحافي".. مساحات أخرى لكتابة الحياة
"تجربة قاسية مكلّلة بألم الحياة، تجربة عنوانها البؤس والتشرد"
كيف يمكن لكاتب أن يلمّ بهذا الكمّ من أحداث طفولته إذا لم يكسر حواجز الصمت الخانق والجمود الصلب ويخلق من تفاصيل ذاكرته رواية ينتقل عبرها إلى وعي مفارق ليحكي تجربة قاسية مكلّلة بألم الحياة، تجربة عنوانها البؤس والتشرد؟

عدة سنوات مرّت على رحيل صاحب "الخبز الحافي" الكاتب والروائي المغربي محمد شكري وما زالت ذكراه تصدح في العالم الإبداعيّ. شكري الكاتب المغربيّ الصارخ الصادق عبّر بجرأة عن المسكوت عنه في طفولته وراح يبدع من أعماق النفس المتألمة جاعلاً القارئ يعيش دهشة من نوع آخر، وكلما تقدّم هذا الأخير أكثر في قراءة رواية "الخبز الحافي"، يشعر وكأنّه في مواجهة تساؤلات حول مرحلة الطفولة التي تؤسّس لعلاقة الإنسان بالمجتمع وتأهيله وانخراطه في منظومته. هذا الطفل الذي عاش معاناة لا تنتهي تشعر وكأنّه يناضل ويصارع للبقاء في الحياة بينما كان كل ما يحيط به يدعو إلى الانهيار بعد أن عاش أقسى وأدنى مستويات الفقر والحرمان.
يعيد شكري تشكيل العالم وفق رؤيته التي فُرضت عليه في طفولة لا شيء فيها سوى الوجع فيفتح فضاء آخر للكتابة ويخترع لنفسه مساحات أخرى للعيش في عالم الإبداع وهو قريب من عالم الشعر وذلك للتخفيف من وطأة المعاناة فجاءت رواياته خير تعبير عن قلق طفولي في أصوله نابع من تشرّد حرّك في داخله وعياً مبكّراً للكتابة ما جعله يطلق أيضاً العنان لقلم تحرّر من الظروف القاسية وكسر كلّ الحواجز كاشفاً عن التابوهات والمحرّمات التي كانت مفروضة في تلك المرحلة.


ذاكرة مجروحة
هذا الكاتب الأمازيغي الذي عاش أمّيّاً إلى أن وصل إلى سنّ العشرين ليجد نفسه أمام مفترق آخر للحياة، فيتعلّم القراءة والكتابة، لم تفته فرصة الإبداع بل راح ينثر ما جمعته ذاكرة مجروحة دعته إلى التحرر ولو بجزء صغير من الماضي فراح يمارس هذه الطقوسية بمعزل عن حاضره وسط تجلّيات صور الطفولة التي أسست لعمر الشباب، هذه المرحلة لم تترك الكاتب بسلام بل ظلّت تنخر في ذهنه حتى آخر لحظة من حياته ليظل يتذكّر ممارسات الانحراف ومعاقرة النساء والخمر.

الطفل الذي عاش حياة مختلفة فرضت عليه الألم والمعاناة راح ينزف إبداعاً عند حافّة رصيف التشرد وعلت الصور من خيال لم تصل إليه الأيادي السوداء ولم تلطخه قسوة العمر فراح الكاتب يتأمّل ويحشد ذكرياته القديمة ليملأ بها عالماً فرغت فيه الأحاسيس وضاعت قيمة الإنسان فإذا به يخرج إلينا بعدّة أعمال أدبية تجعلنا نلقي الضوء خصوصاً على رواية "الخبز الحافي" التي تعبّر عن سيرته الذاتية وهي التي جابت أنحاء العالم وفرضت نفسها بنفسها.
يقول صاحب "الخبز الحافي" في روايته: "لا تنسـوا أن "لعبة الزمن" لعبة أقوى منـا، لعبة مميتة هي، لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا... لِإماتتنا: أن نرقص على حبال المخاطرة نُشداناً للحيـاة".
وفي مكان آخر من الرواية كتب شكري أيضاً: "أقول: يُخرج الحي من الميت. يُخرج الحيّ من النتن ومن المتحلِّل، يُخرجه من المتخم ومن المنهـار... يُخرجه من بطون الجائعيـن ومن صُلب المتعيّشين على الخبز الحـافي".
هكذا رسم شكري حالات الإنسان الأولى فكتب عن طفولة انتهكت براءتها، عن طفولة مقهورة مسلوبة في عائلة تعاني الاضطراب والتفكك حيث يضيع حق طفل يحلم بأن يلعب كرة القدم ربما مع رفاقه أو أن ينام هادئ البال في عائلة يشعر معها بالأمان. كلّ هذا الانفجار الداخلي خرج صراخاً حقيقياً صادقاً في رواية "الخبز الحافي".


العنوان
إذا تطرّقنا أكثر إلى العنوان تنفتح أمامنا عدّة احتمالات على حياة الكاتب وتدعونا إلى تأويله: الخبز الحافي لقمة العيش المفقودة لدى الفقراء، الخبز الحافي الإنسان المجرد من حقوقه الإنسانية وهذا ما تمثّل إثر نزوح أهل الكاتب وتشرده وسجن والده وازدياد قسوة الحياة فوجد الطفل نفسه مجبراً على أن يتعاطى مهناً مشبوهة تكبره بسنوات ولربّما عندما يصل الإنسان إلى القعر يثور على نفسه ويرمي نمط العيش الماضي خلفه ويخرج من المستنقع فينتقل من العجز إلى القدرة وحسم القرار، وهذا ما قام به شكري إذ أمسك بوصلة السفينة وغيّر اتجاهها وعاد إلى طنجة ليقضي حياته فيها.
إنّ التفكّك العائليّ الذي بدأ من الأب رأس الأسرة أثّر إلى حدّ كبير في شخصيّة الطفل الذي ارتسمت أمامه صورة والده على شكل وحش أو مجرم عديم المسؤوليّة، والد ترك أطفاله يواجهون مصيرهم في الأزقّة المظلمة وعرّضهم للانحراف... حتى أنّ محمد شكري لم يستطع أن يتخطّى مشاعر الطفولة وعاش وحيداً بعيداً عن أهله حتى وفاتهم.
هذه القسوة وهذا الكمّ الهائل من الحزن الساكن أعماق الكاتب أمور ولّدت الإبداع الصارخ من جرح في نفس الكاتب فحوّل المأساة إلى حياة هانئة والظلمة إلى نور.
ويبقى من الحقّ أن نقول إنّ رواية "الخبز الحافي" هي كتابة الجرأة التي حطّمت الحدود الفاصلة بين الصمت والتعبير، فالعفويّة والصدق كانا أساس الكتابة وطرح الموضوع، ما جعله يترك تأثيراً كبيراً في نفوس القرّاء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.