}

دكتاتور الأدب.. حسين مردان

باسم المرعبي 25 أغسطس 2018
آراء دكتاتور الأدب.. حسين مردان
حسين مردان بريشة فيصل لعيبي

 

قبل التماس المعنى الأدبي لدكتاتورية حسين مردان، كما كرّس هذه الصفة هو ذاته، لنفسه ونادى بها، يهمّ هذا المقال التأكيد أولاً والتصديق على جنوح مردان إلى الدكتاتورية، بمعناها السياسي، وما تؤديه حمولتها سيئة الصيت، كوجه آخر حتميّ للنرجسية. مرآةٌ كهذه هي لصيقة بالشاعر العربي، إجمالاً، وهو لا يتوانى عن التمرئي في أشدّ المياه كدَراً. في حالة مردان فإنّ النرجسية قد تفاقمت إلى دكتاتورية، حتى وإن كان ذلك على سبيل "الهواية" والتسلية باتخاذ ألقاب صادمة. ومعجمياً فإنّ كلمة دكتاتورية، اللاتينية، مشتقة من الفعل دكتاتوس Dictatus بمعنى يُملي أو يفرض أو يأمر، وهو ما كان مردان يرغب في ممارسته، صراحةً، كما بدا في أكثر من مناسبة، وأكثر من حديث. فمما قاله للشاعر سامي مهدي في حوار أجراه معه، العام 1968: (أنا دكتاتور الحركة الأدبية.. وباستطاعتي أن أُهيل الجبل على أيّ شاعر كما أن باستطاعتي أن أضعه فوق ناطحة للسحاب!)، ليخلص في اللقاء ذاته إلى تشبيه نفسه بسالازار، دكتاتور البرتغال، وحين اعترض المحاور على التشبيه، استدرك بالقول: (أنا دكتاتور من نوع آخر.. من النوع الذي يعمل لتثبيت المسائل الحقيقية ويعطي دمه ليرى الأدب العراقي في عافية). "من يفرك الصدأ، الملحق ـ 2". غير أنّ القارئ يجد في ما أفضى به لصديقه الكاتب عبد المجيد الونداوي، كما أفاد الأخير في شهادته بعد موت مردان، تلخيصاً بليغاً ودالاً على حالة هي مزيج من النرجسية والبارانويا، فهو يقول، أيام كان يحمل الطابوق إلى الدور الثاني والثالث من العمارة التي عمل فيها بداية تواجده في بغداد، إنه كان يرى الناس صغاراً في الشارع المجاور. "من يفرك الصدأ، المحلق ـ 3". ويبدو أنّ تصويره الآخرين "ضِئالاً" ليس المقصود به المعنى الفيزيائي، بل لما يراهم عليه بعين تعاظمه وتشامخه.

في استقراء نرجسية حسين مردان يكمن المفتاح الأساس لولوج "عوالم" شخصيته، بظلالها النفسية المتعدّدة، المتشابكة، كما يشفّ عن ذلك نتاجه، إضافة إلى شهادات مجايليه ودارسيه، وبشكل أوضح تصريحاته الصحفية، وكل ما يصدر عنه من أقوال في تقريظ ذاته. يكفي أن يعود القارئ إلى السطور التي كتبها في إهداء ديوانه الأول "قصائد عارية" ـ 1949 إلى نفسه، ليتبين مدى تَيَهانه: (لم أحب شيئاً مثلما أحببتُ نفسي، فإلى المارد الجبار الملتف بثياب الضباب الشاعر والمفكر الحر. إلى.. حسين مردان..). أو قوله (لن أحبّ إلّا المرأة التي تحتقر جميع الرجال وتسجد تحت قدمي أنا وحدي).

وعلى الرغم من بساطة شخصية حسين مردان، ظاهرياً واتصاف الكثير من سلوكها بالفطري، غير أنّ القول الفصل لكشف وسبر مغاورها سيكون للدراسات النفسية التي تستدعيها أو تحتّمها الخصوصية النفسية لصاحبها وتقلبه في شتى الأطوار، كآبةً وفرحاً، انعزالاً ومشاركةً، يأساً حدّ مراودة فكرة الانتحار، أو انغماراً بالحياة حدّ التبذّل. إنّ أهمية ولوج عوالم حسين مردان من باب سيكولوجي لا يقل أهمية عن الدراسات الأدبية والنقدية لنتاجه، أو هو ما يجب أن يسير بموازاتها. فكل من يقرأ حسين مردان بعمق ويتأمل شخصيته لا بد أن يخلص إلى ما سبق أن خلص إليه الناقد د. علي جواد الطاهر، والذي يبقى أفضل مَن درس مردان، كما كشفت عن ذلك دراسته "حسين مردان.. مقالياً" التي صدّر بها كتاب "من يفرك الصدأ"، دار الشؤون الثقافية ـ بغداد 1988. الذي جمع فيه أكثر من تسعين نصاً، بين المقال والشعر و"النثر المركّز"، كما ابتدع مردان تسميته وعُرف به. إضافة إلى الدراسة المذكورة، ثمّة مقاله الموسوم، في الكتاب ذاته، "مدخل في المسيرة الشعرية"، عدا عن المقدمة الأساس للكتاب، ليبلغ بذلك عدد ما كتبه الدكتور الطاهر، 118 صفحة، وهو ما يشكّل كتاباً مستقلاً. لقد قال الطاهر عن مردان، إنه حالة معقّدة. وفي موضع آخر من نفس الصفحة، يقول ما مؤدّاه يكفي من تعقيد الحال أن يكون لأديب شاعر اسم حسين مردان. في ضوء ذلك يتوجب قراءة "عنوانات"، وهي لا تُحصى، من مثل: (إني أنا حسين مردان، العبقري، الكبير الذي لا يُضاهى ولا يُباهى، الدكتاتور..). وإذا كان مثل هذا التصريح قد صدر في فترة متأخرة من حياة الشاعر، فإنه وفي وقت مبكر من مسيرته الحياتية والأدبية كان قد أضمر ما هو أفدح من ذلك، كاشفاً عن روح انتقامية، وفي الوقت ذاته، يمكن الاستدلال على أول بادرة لنزعة دكتاتورية لديه، فهو يقول عند وصوله أول مرة إلى بغداد من مدينته بعقوبة، عام 1947، وكان وحيداً وجائعاً ومتشرداً، وإن لم يكن مجهولاً تماماً، كما كشف ذلك في مقال له بعنوان "قبضة الضوء.. والحزام"، المكتوب والمنشور إبان عمله في مجلة ألف باء للفترة 1968 ـ 1972: (وحملتُ عصاي وجئتُ إلى بغداد، المدينة الغامضة.... وبعد يومين فقط دخل الفراغ إلى جيبي. إنها لمصيبة أن تواجه العالم كلّه بقلب لم يُملأ بعد.. وذهبت مع السحَر إلى سوق "الفضل" لأصبحَ من عمال البناء. كنتُ أقول لنفسي وأنا أضع الطابوق على صدري، ليكن! سأضع رجلي فوق الجميع).

 

إنّ النرجسية جائعة، أبداً، إلى السلطة، ليس حصراً بالمعنى السياسي، وهو ما عناه مردان بوضعه "رجله فوق الجميع"، فعدا عن شحنة العدوانية في "تطلّع" كهذا، فهو يعني ضمناً التوق إلى حيازة سلطة ما، كأن تكون سلطة الكلمة، وإلّا من أين يتأتى له سحق الجميع، بدون هذه السلطة. ولن يشفع هنا لردّ دعوى نزعة "السيطرة"، لديه أو "التسلّط" تفسيرها، أي النزعة، بالتفوق الأدبي والثقافي، وهو ما حققه بجدارة، لكن ليس هذا هو الموضوع، بل المقصود هنا الإشارة إلى أهمية البحث "نفسياً" في استطابة مردان صفة الدكتاتور وتردادها حتى صارت التسمية عنواناً له ورديفاً لاسمه في كثير من الأحيان. وفي مقال لسامي مهدي بعنوان "حسين مردان وقصيدة النثر"، نُشر في صحيفة القدس العربي ـ لا يتوفر رقم العدد أو تاريخه ـ  وأعادت نشره مجلة ملامح الشعرية في عددها الثاني لسنة 2007، يضع مهدي إصبعه على صفة "فارقة" في شخصية الشاعر حيث يقول، وهو بصدد الحديث عن فرديته: (ولم تكن فرديته تسمح له بالانخراط في جماعة). وما ذلك إلا لأن حسين مردان (أشعر شعراء الشرق) و(شاعر فيلسوف عملاق)، بتعبيره، أي مردان، وهو (المتكبر المتعالي الجبار)، بتعبير الدكتور علي جواد الطاهر، وهو أيضاً (العبقري الجبار الدكتاتور)، وأيضاً (الجبار في نفسه ونظره إلى فنه)، لكنه في الوقت ذاته ما هو إلا "طفل كبير"، ولهذا الطفل أن يتحدث بنزق، وكيفما شاء: (ورميتُ "قصائد عارية" إلى الشارع واهتز كلّ عمود في بغداد). قاصداً بذلك الضجة التي أثارها ديوانه الأول الذي حوكم بسببه. وقد يكون للدويّ الذي كانت تحدثه أعماله في المجتمع دوره في الانتشاء ببخار كأس العظَمة، المتصاعد في رأسه، حدّ حجب الرؤية عنه. كتب في عزيزتي فلانة ـ 1952، (... لا أُريد أن أكون ضعيفاً في الوقت الذي أُريد أن أصبح إلهاً…)!

ولا يجد القارئ، أبلغ وأدلّ قولاً، على دكتاتورية مردان، مما جاء في الأسطر الثلاثة الأخيرة من المقطع المدرج هنا من رسالة كان مردان قد وجهها إلى "صديقه" الرسام شاكر حسن آل سعيد، عام 1956، وليُلاحَظ كمّ العنف والتجريح اللفظي وصولاً إلى دموية اللغة!

"أنت الآن في باريس! ليكن ولكن ماذا تعمل هناك؟ هل تجتر دروسك كالبقرة؟ ثق أن المدرسة وحدها لا تعطي شيئاً فعليك أن تندفع إلى الشوارع وتكتشف حياة الزوايا، عليك أن تلصق أذنك بالأرض ليمتلئ رأسك بالدوي.. إني أنذرك فإذا عدت إلى بغداد ولم أجد تحت صلعتك شيئاً جديداً فسوف أسحق جمجمتك وأضغط على أوداجك حتى أزهق روحك اللعينة.. سأضعك على طاولة التشريح فإذا رأيت دمك القديم على حاله، فسأرمي بك في أول بالوعة في الطريق..". مردان، الأعمال الكاملة (النثرية)، دار الشؤون الثقافية ـ بغداد 2010.

ورغم استدراك الكاتب بعد هذه الأسطر بأنه "ربما" كان قاسياً، غير أن هذا لا يعني شيئاً في سجل الملاحظات النفسية، سوى تقديمه الدليل على سلوك ونزوع غير سوي. وهو ما يقرّ به مردان ذاته بشكل مباشر في كتاباته المختلفة.

ومن المفارقة أن مردان الحريص على لقب الدكتاتور، كان قد شنّ هجوماً ساخراً على الألقاب في الأدب، الشعر على وجه الخصوص في مقال له بعنوان "لا زعامة في الشعر"، نُشر عام 1956، ومما جاء فيه: (.. وشعراء العرب وحدهم من بين جميع الشعراء في العالم يملكون مثل هذا الشرف التقليدي العظيم للزعامة الشعرية وأول من حمل تاجها هو امرؤ القيس…. وكان أحمد شوقي آخر أمير مزيف من أُمراء الشعر وقد أبى الدكتور طه حسين أن تنقرض إمارة الشعر بموت أحمد شوقي كما انقرض غيرها من التقاليد والعادات العتيقة. فتقدم وبايع العقاد بها! وشمخ عباس بأنفه…). مردان، الأعمال الكاملة.


بقي استيفاء شيء من القول في المعنى الأدبي لدكتاتورية مردان، بصرف النظر عن اعتراف الآخر بأحقيته بممارستها أو عدمها، لكن لا سبيل إلى إنكار ذلك، في ضوء المتحقق، الثر، من منجزه النقدي، أي أنّ دكتاتوريته هنا تكتسي معناها من الممارسة النقدية الحازمة، غير المهادنة أو المتأثرة بنوع العلاقة مع صاحب الأثر المنقود، أو مدى شهرته وصيته. ومن الضروري، هنا، التنويه بأهمية الأحكام والآراء النقدية التي عرفها قارئ حسين مردان على مدى سنوات طويلة، وله فيها كتاب بعنوان "مقالات في النقد الأدبي"، عدا عن المقالات والكتابات المختلفة في الاتجاه ذاته، التي لم تخضع لمنهج في جمعها، بعد غياب كاتبها، هذا إن جُمعت. ونقده يكشف عن أديب يتمتع بحس نقدي فذ، مدعوماً بالصدق والصراحة، وهو ما سبق لكاتب هذه السطور تناوله بشكل مستقل في مقال بعنوان "الحاجة إلى حسين مردان، ناقداً"، قبل أكثر من ثلاث سنوات. غير أن هذا الضرب من الإخلاص الثقافي والتنزه عن المحاباة أو المعاداة، لغير وجه الأدب، لا يستدعي بالضرورة صفة الدكتاتور. فهل أخطأ حسين مردان بنوع أو جنس "رتبته" الثقافية؟ والجواب هو أنه لم يُخطئ أبداً، بل على العكس، فقد مارس دوره بوعي وقصد تامّين، قياساً على ما تقدم من تبيان مدى فائض النرجسية لديه، كذلك انطواء شخصيته على شيء من العقد أو التعقيد. وقد نجح تماماً في تأدية دوره المؤثر حدّ الرهبة منه، كما كان الحال في مشاكساته لشاعر بحجم الجواهري، حضوراً ونفوذاً، إلا أن الجواهري كان يجامله ويلاينه ولا يخاطبه إلا بأبي علي وبلهجة فيها حب "وتدليل". بتأكيد الدكتور الطاهر. ما يعني أن دكتاتوريته قد آتت ثمارها وبقوة.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.