}

شجرة البنادق

باسم المرعبي 6 يوليه 2021
قص شجرة البنادق
(Smithsonian’s National Air and Space Museum)
فجاةً، ظهرت البنادق وانتشرت في كلّ مكان. بنادق ملقاة على الأرصفة، بنادق تتدلّى من الأشجار، في الوقت الذي أخذت الشوارع تزدحم بسيارات تنقل عسكريين من شتى الرُتب والأصناف. نوع من حركة محمومة توحي بأنّ أمرًا جللًا على وشك أن يقع وما هذه الاستعدادات إلّا لمواجهته وتحسبًا للأسوأ. كان ذلك في بغداد، وتحديدًا في منطقة الوزيرية، قريبًا من مبنى أكاديمية الفنون الجميلة. كنت فارًّا من الخدمة العسكرية وأحمل أوراقًا لا أعرف مدى إمكانية إقناعها لرجال الانضباط العسكري الذين مهمتهم التفتيش والتدقيق في الشوارع عن الهاربين من الجيش أو المتخلفين عن الالتحاق به، وقد صار يعاونهم رجال الأمن، المقلوبو السحنات على الدوام. كان هاجس إلقاء القبض عليّ والتفكير بأن ليس من مكان لي لأذهب إليه، يتملكني في تلك اللحظات، فيما بدأت الطرق تفرغ من السابلة، لتتسيّدها سيارات الجيش ودوريات الأمن. ما إن هممتُ بمغادرة منطقة انتظار الباص، التي لذتُ بها متعللًا بانتظاره، ريثما تهدأ الأمور، بعد أن لمحت دورية للأمن تصل المكان، حتى استدعاني أحد رجالها للتدقيق في أوراقي، بينما مكث رفيقان له في سيارة متوقفة تحت شجرة، يراقبان حركة المارة لاصطياد المخالفين. كان ببشرة سمراء ووجه عريض، بشكل لافت، وشعر بدا أنه غير مسرّح. أخرجت له، دفعةً واحدة ودون قصد، ثلاث بطاقات هوية من جيب الصدر في القميص، كانت تحتل وجه الأولى الأمامي صورة ملوّنة ناصعة لي، تمتد على مساحة الصفحة دون أي كتابة، وكان يُفترَض أن يحتوي الوجه الآخر للبطاقة على المعلومات، أما الثانية فقد كانت جديدة وصادف أن أحضرتها، حديثًا، من مكتب تغليف الهويات، أما البطاقة الثالثة، فكانت عبارة عن صورة لابنتي الصغرى، وقد اعتدتُ على حملها معي دائمًا، في محفظتي.


سيطر عليّ هاجس بأنه سيُلقي عليّ القبض، لا محالة، لأنه لم يكن لديّ من عمل محدّد فلا أنا بالطالب في الحقيقة، ولا بالموظف، أي أنّ موقفي غير سليم، قانونيًا، حسب الأعراف والتعليمات العسكرية الراهنة التي تخضع لها البلاد. لم يكن أمامي سوى أن أقول لرجل الأمن، أنا خرّيج مسرح، متذكّرًا دراستي في أكاديمية الفنون الجميلة. وقد بدأ موقفه يتغيّر كما شكله. شرعنا بالمشي الوئيد مبتعدين عن مكان الدورية، في الوقت الذي أخذ يُظهر مزيدًا من اللين والتودّد، قال لي وقد صار يحرّك شفتيه بطريقة ملفتة، مقلّدًا فيها ابتسامة أحد نجوم السينما، وقد اختفى تمامًا شكل وجهه الأول، ساعةَ طلب مني أوراقي، ليتحول إلى وجه عادي حليق، بالأبيض والأسود، وقد شعرت أن هذه الابتسامة أو الحركة مألوفة لديّ، كأن تكون لأحد المطربين أو ممثلي السينما القدامى. قال بأنه كان قد مثّل مع واحد من المخرجين المصريين المعروفين دورًا قصيرًا، في ما مضى، ولا أعرف لمَ تبادر لي أنه يقصد حسام الدين مصطفى أو هنري بركات. انتبهت إلى أننا صرنا في مكان جديد هو منطقة الحجاز في دمشق، حيث اعتلينا جسرًا حديديًا صغيرًا للمشاة، يقع على مقربة من مدخل سوق الحميدية. كنت أشعر بالتحرّر والتخلص من الخوف، كما لاحظتُ أنه صار يُبدي علامات بناء صداقة، وقد بدا أصغر سنًا وبوجه يوحي بالألفة والطمأنينة. ولمزيد من تعزيز الثقة بيننا قال لي، أليس والدك هو من يملك معملًا للأثاث المنزلي في المنطقة الصناعية، ليؤكّد بعد ذلك، بأنه اشتغل في هذا المعمل لفترات مختلفة. وفيما نحن نهمّ أن نودّع بعضنا كان صوت الراديو ينبعث من المحال والأسواق القريبة، مُسترعيًا الانتباه إلى أنّ بيانًا هامًا سيصدر بعد قليل.

(جنوب السويد، كانون الثاني/ يناير 2020)

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.