}

السيرة المنسية.. ذاكرة للتاريخ

فريد الزاهي 10 يونيو 2018
آراء السيرة المنسية.. ذاكرة للتاريخ
عمل لمحمد بوزرجي

 

 

 

في محاضرة ألقاها بالرباط في السنة الماضية رشيد بنزين، الباحث في الإسلاميات المقيم بباريس، تحدث عن الفروق بين المرحلة المكيّة المهادنة والمرحلة المدنية الجهادية المطبوعة بالدعوة إلى الفتوح وتسييد الإسلام في ربوع الجزيرة العربية وما يُتاخمها. وكانت إحالات المحاضر تشير حصراً إلى سيرة ابن كثير. فوجئت طبعاً كيف يمكن لباحث متخصص في الإسلاميات، تصل دراساته إلى التدقيق في فترات تأسيسية من الديانة الإسلامية، ألا يشير أصلاً لأول سيرة لابن إسحاق (85/703-151/768) تاريخية كرست بمجملها للفترة أكثر منها لسيرة نبي الإسلام الشخصية. وحين طرحت السؤال على المحاضر أجابني بكل ثقة بأن سيرة ابن إسحاق غير منشورة بتاتاً!

المهمل المنسي في التأريخ للإسلام

طبعاً لم يكن رشيد بنزين على علم بأن أول تحقيق لهذه السيرة قد صدر وهو لا يزال صبياً، أي في سنة 1976 عن معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بجامعة محمد الخامس بالرباط، انطلاقا من نسخة محفوظة بخزانة جامع القرويين، تعتبر إلى جانب نسخة مخطوطة بدمشق من أقدم ما وصلنا من هذه السيرة التاريخية. وقد كلف عميد الجامعة آنذاك، محمد الفاسي، الباحثَ والمحقّق العربي المقيم بباريس محمد حميد الله، بتحقيق النسخة ووضع مقدمة علمية لها. ثم ظهرت بعد ذلك تحقيقات أخرى قليلة لهذه السيرة المنسية، التي اعتبرها العديد من الفقهاء والأئمة المسلمين مليئة بالإسرائيليات.

وحكاية هذا النسيان والإهمال يعود بالضبط إلى هذا الرأي بالأخص. فقد ساهمت سيرة ابن هشام ( المتوفى سنة 218/833)، التي ظهرت بعده بما يقارب قرن من الزمان في طمس وجود العمل التاريخي الكبير الذي قام به ابن إسحاق. والحقيقة أن العلاقة بين ابن هشام مع سلفه، والتي يحيل فيها باستمرار إلى سيرة ابن إسحاق، علاقة مبنية على التلخيص و"التشذيب" والتهذيب". فالجهد الذي قام به ابن هشام يتمثل في إعادة النظر  في تركة سلفه في وقت وجيز انطلاقا من المادة الخصبة التي قضاها الأول في جمع المادة الشفهية بين المدينة والبصرة والكوفة وغيرها من الأمصار.

يعلن ابن هشام عن تصوره قائلا: "وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ومن ولد رسولَ الله   مِنْ وَلَدِه وأولادهم لأصلابهم، الأول فالأول من إسماعيل إلى رسول الله   وما يعرض من حديثهم وتارك ذكر غيرهم من ولد إ سماعيل على هذه الجهة للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله   ، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله   فيه ذكر ولا نزل فيه من القرآن شيء وليس سببا لشيء من هذا الكتاب ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه لِما ذكرتُ من الاختصار، وأشعارا لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها وأشياءَ بعضها يشنُع الحديث به، وبعض يسوء بعضَ الناس ذكرُه، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقصٍ إن شاء الله بما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به".  ولا يخفى أن هذا "الاجتهاد" قائم بالأساس على الموقع الذي صار النبي يحتله في الفقه والتأريخ، وما صار يحيط به من محبة وإجلال ساهم التصوف بشكل واضح في بلورته منذ القرن الثالث للهجرة، كما يبرهن على ذلك كتاب كلود عداس: البيت المحمدي، نظرات في محبة النبي في التصوف الإسلامي، وهو الكتاب الذي ترجمناه للغة العربية، وسيصدر قريبا.

يقوم  ابن هشام إذن بعمل مراجعة مبني على تصور يجعل الرسول الشخصية الرئيسية، بحيث يختزل كل تاريخ تلك الفترة في وجوده ووجود الدعوة. إنها سيرة تمنح للأحاديث النبوية وللسنن مكان الصدارة، فيما كان "منهج" ابن إسحاق تأريخيا ومتوسعا، وخاضعا أيضا في جوانب منه على الإعلاء من شأن العباسيين، وجدهم عبد المطلب، بالنظر إلى أن تصنيف سيرته جاء بطلب من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. ويعتبره الطبري وغيره من الفقهاء ثقة، وحظيت سيرته بالتقدير، لدى المشتشرقين الذين تناولوها بالذكر والتحليل  . فسيرته عبارة عن كتابة تأريخية أكثر منها سيرة لرسول الإسلام. لذلك تكشف المقارنة بين السيرتين عن حذف العديد من الأشعار  والأقوال والقصص التي لها أهميتها التاريخية، والتي يبدو أن ابن هشام أقدم على حذفها لعدم اتصالها المباشر بحياة الرسول.

أما ابن هشام لسيرته بالإسرائيليات، وهي التهمة التي سرت عن ابن إسحاق إلى يومنا هذا، فتعود أصلا لكون ابن إسحاق كان عالما بالإنجيل (أي بالتراث المسيحي اليهودي)، وهو أمر محمود بالنظر إلى أن الدينة الإسلامية تنطلق حرفيا وتأويلا من العديد من القصص والأحداث الواردة في التواراة والأناجيل. ومعلوم أن النبي كان محاطا بالعديد من الكتاب الذين كانوا يسجلون بعلمه وموافقته شخصيا أحاديثه وأقواله، بل منهم من كان يتلو عليه ما كتب في الصحف. ومن بين هؤلاء ورقة ابن نوفل الكاهن الذي تنصّر وكان عارفا بالتوراة والأناجيل ومترجما وكاتبا، صاحب الرسول من غير أن يسلم أبدا. من ثم فتهمة الإسرائيليات وتنقيح السيرة منها أمر متأخر جاء عبارة عن عمل تأويلي يسعى إلى توحيد مسير الدعوة ومصادرها.

بيد أن هذه المراجعة ترتكز أيضا على ما تم نسجه في أوساط فقهاء العصر العباسي عن السيرة الذاتية المشاكسة التي اتسم بها ابن إسحاق. فقد اتُّهم مرارا بتحرشه بالنساء، وبانتمائه للقدرية المعتزلة،  وبالكذب في رواية الحديث. وهي تهم يلزم التحقُّق منها تاريخيا. كما أن المناوشات التي طبعت علاقته بمالك بن أنس وأبي حنيفة وبغيره من أئمة العصر جعلت الإشاعات تروج حول الشك في صدقية مُنجزه التأريخي. ومع ذلك فإن ابن حنبل يقرّ له بالريادة والثقة في الرواية.

التاريخ بين الواقع والمقدس

يطرح نسيان هذه السيرة (بالرغم من أن مكوناتها المتعددة ظلت متناثرة في العديد من المصادر الفقهية والتاريخية) ضرورة إعادة قراءة التاريخ المتّصل بصدر الإسلام، باعتباره تاريخا يمتزج فيه الحس الديني بالوقائع التاريخية. ولا أدلّ على ذلك من الكثير من الوقائع التي يسوقها ابن إسحاق ذات الطابع العجائبي، والتي كان فيها خلاف  كبير بين الرواة. وقد انتبه ابن خلدون إلى ذلك وكأنه يطرح أسس منهجية عقلية في صياغة السيرة التاريخية وإعادة بناء كتابة التاريخ: "إنّني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول صحابي عالم يخالف ظاهر القرآن، وإنْ وثّقوا رجاله، فَرُبَّ راوٍ يوثَّق للاغترار بظاهر حاله وهو سيّء الباطن . ولو انتُقدت الروايات من جهة فحوى متْنها كما تُنتقد من جهة سَندها لقضت المتون على كثيرٍ من الأسانيد بالنقض،  وقد قالوا : إنّ من علامة الحديث الموضوع : مخالفته لظاهر القرآن، أوْ القواعد المقرّرة في الشريعة، أوْ لبرهان العقل، أوْ الحسّ والعيان وسائر اليقينيّات". 

ولا شك أن هذا الأمر صار اليوم أعْسر فأعْسر، بالنظر إلى أن البحث التاريخي الأنثربولوجي في هذه الفترة الحاسمة والمؤسسة، يؤخذ على أنه مسّ بالشخصيات الفاعلة فيه وبقداسة رسالتها. والحال أن انبناء الثقافة في التاريخ الإسلامي، وبالأخص في جوانب منها، تقوم بخصوص تلك الفترة، على التلخيص المجحف وقبر الرؤى المخالفة، والاتهام بالزندقة والتكفير لكل ما ينبش في حقائقها، يدعو أكثر فأكثر اليوم إلى النبش العميق في النصوص وتبيُّن اختلافاتها بعيدا عن الإيديولوجيا التي تخترق أسسها. وعملية النبش هذه التي قام ويقوم بها بعض الباحثين العرب (محمد أركون وهشام جعيط ونصر حامد أبوزيد من بين آخرين) كفيلة بأن تعيد للواجهة النصوص المنسية والمحجوبة وإعادة الاعتبار لوجودها، وتحليل مفارقاتها.

وهو ما من شأنه أن يعدّد مصادر التحليل التاريخي، الكفيلة بتسليط الضوء على الوقائع التاريخية من جهة، وعلى طبيعة التفكير التاريخي حينها (في تمازجه مع المقدّس الديني). إنه أيضا السبيل إلى خلخلة المسلمات الحالية التي تختزل حركية الإسلام التاريخي وتحولاته في مجموعة من المبادئ المسكوكة التي تغدو في نهاية المطاف لُحْمة إسلام سياسي يتغيا استخدام التاريخ وتحويله أساسا إلى تاريخ ديني فيما هو تاريخ أشخاص وأفكار وصراعات وتحولات ومدّ وجزر... بالجملة تاريخ كباقي التواريخ...

أما العوامل التي تأثر بها مؤلف "السيرة"، فأولها هو العامل العباسي، ومن المعروف في هذا الصدد أن ابن إسحاق كتب سيرته بتكليف من أبي جعفر المنصور (136 - 158ه/ 754 - 775م)، ثاني الخلفاء العباسيين. وليس من المستغرب، في هذه الظروف أن يعكس هذا العمل آراء صاحب التكليف، وأن يخدم مصالحه. ولما كان العباسيون يستمدون شرعية حكمهم ضد خصومهم من كونهم أولى الناس بالخلافة لقرابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان باستطاعة من كلفوه بكتابة السيرة إلا أن يمجِّد قبيلتهم على حساب من عداها من القبائل.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.