}

الكلمات بَصماتُ أصحابها

إبراهيم قعدوني 6 ديسمبر 2018
آراء الكلمات بَصماتُ أصحابها
فلاديمير ناباكوف

 

                                                                   

 مع تراكم التجربة الذاتية في التعاطي مع النصوص بمختلف أجناسها، يلاحظ القارئ، مثلما يفعل الكاتب، أنَّ هناك كلمات تتردّد أكثر من غيرها فيما يقرأ أو يُكتب. ثمّة كلماتٌ تتفرّد عن غيرها لجهة تردّدها وتواتر حضورها في سياقات ومواضع تكاد تكشف عن هويّة كاتبها دونما حاجةٍ لأن يصرّح عن نفسه. هناك ما يصبح بمرور الوقت بصمةً شخصيّةَ للكاتب يمهر بها ما يخُطّ، سواء كان ذلك بوعي اشتغاليّ مسبق أو بآلية لا شعوريةٍ محضة في ما يبدو وكأنه علاقة خاصة وسرية بكيمياء اللغة وكلماتها تتجلّى أثراً يتركه الكاتب ويقصُّه القارئ مثل بدويٍّ يحفظ أسرار المسالك ومفازات النصوص عن ظهر قلب.

تكشّفت السنوات الأخيرة عمّا يشبه حقلاً دراسيّاً فريداً يشكّل التقاءً للتكنولوجيا وتحليل البيانات مع الأدب ويُعنى برصدِ ما يدوِّنه أصحاب الأقلام وتحليلِ علاقاتهم بمفرداتٍ دون سواها في ما يشبه قراءة الخريطة الجينية للنص. حتى أنَّ بعض المشتغلين في هذا الحقل جنحوا صوبَ ضربٍ من ضروب القراءة البوليسية الجنائية لناحية الاستدلال بالكلمات عن هوية صاحبها التي تكون مكتومة أحياناً، بل إنَّ الأمر بات يأخذ شكل ألعاب التسلية في مواضع أخرى، لا سيّما ما حصل في الآونة الأخيرة حينما نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالةً افتتاحيةً "لمسؤولٍ كبيرٍ" في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب آثرَ كاتبها عدم الإفصاح عن هويته وضمَّنها نقداً لاذعاً لرئيسه ما دفع بالمهتمِّين إلى دراسة المقال بدافع محاولة الكشف عن كاتبه ليلاحظوا أن الأخير أشاد في نصِّه بالسيناتور الراحل جون ماكين مستخدماً وصفَ "Lodestar" وتعني ’النجمُ الهادي’ أو المنار، وهي مفردة تبيّن للمحلّلين أن نائب الرئيس، مايك بنس، استخدمها في عدد من خطاباته السابقة!

لكأننا أمام ما يشبه تفضيلاتٍ انتقائية للكلمات يُراكمها كل كاتبٍ ويطورها في سياق تجربته ليشيد صرحه السيميوطيقي الفريد الذي يواكبه قارئه المخلص في استكشافه وقراءة علاماته. إنها خيارات وتفضيلاتٌ شخصية غامضة تتصل بعلاقة الكائن الخاصة باللغة وكيمياء الكلمات. على سبيل المثال، يلاحِظُ قارئ الكاتب الإنكليزي الشهر صموئيل جونسون (1709-1784) تعلّقه الشديد بكلمة "fascinating- مُذهِل" التي تتردد في نصوصه بتواترٍ ملحوظ.

على سبيل المثال، في كتابها الصادر عام 2004 بعنوان "مُراقبة الإنكليز"، تستخدم الكاتبة الأنثروبولوجية البريطانية كيت فوكس كلمة "liminal" وتعني حَدِّي أو عَتَبيِّ، نحو 24 مرّة، علماً أن معدّل حضور هذه المفردة في المنشورات الإنكليزية المُحصاة خلال القرن الحالي لا يتجاوز نسبة ستّة أعشار بالمئة، ما يعني أنَّ كيت فوكس كرّرتها بما يصل إلى 180 ضعفاً مقارنةً بالمعدّل الإنكليزي السائد! أي أنَّ القارئ ربما يعرف أنَّ نصاً ما تتردد فيه كلمة "حدِّيّ" بهذا القدر سوف يكون حتماً من تأليف كيت فوكس دون أن يعلم ذلك مسبقاً. ولعلّ هذا ما يحاول الكاتب الأميركي الصاعد بِن بلات رصده في كتابه الصادر هذا العام بعنوان "البنفسجي كلمة نابوكوف المفضَّلة"(Nabokov's Favorite Word Is Mauve).

قد لا تكون الكتابة على درجةٍ كافية من الفرادة كي تطابق بصمات الأصابع؛ إذ يلاحِظ بلاتّ استناداً إلى أسلوبية إحصائيةٍ ولوغارتميةٍ خاصة أنَّ ما ندعوها كلماتنا المفضّلة ربما تتغير نحو عشر مراتٍ أو أكثر على امتداد حياتنا وتجاربنا، سواء لا شعورياً مع امتداد التجربة واتساعها، أو بقصديةٍ تجريبيّة أو ربما رغبة واعيةٍ في التخفّي أو التمويه (يشاعُ أن أعضاء فريق ترامب الصحفي يعمدون إلى استعارة الأنساق الخطابية والتراكيب والعبارات من بعضهم حينما يتعاطون مع الصحافة).

يتناول بلات في معرض كتابه الوثائق الفيدرالية الأمريكية المنسوبة إلى ثلاثة كتّاب بأسماء مستعارة (تبيّن لاحقاً أنهم جون جاي وألكسندر هاملتون وجيمس ماديسون) وقد كُتِبَت هذه الوثائق بغرض دعم المصادقة على الدستور الأمريكي في العقد الثامن من القرن الثامن عشر. كان ماديسون وهاملتون قد أفصحا عن كتابتهما لنحو 12 من بين 85 من المقالات التي تضمنتها الوثائق، وقد جهِد المؤرخون لتعقُّب التوجّهات السياسية والنطاق المعجمي لكل من المؤلّفين في الوثائق المتبقية، لكنهم لم يصلوا إلى إجماعٍ حول إمكان نسبِ النصوص لأيٍّ من الساسة المؤلفين، إلاَّ أنه في الستينيات من القرن العشرين، لاحظ اثنان من الإحصائيين أنّ هاملتون، في كتاباته المعروفة، استخدم كلمة  “while”وتعني "في حين"، ولم يستخدم بتاتاً كلمة “whilst” وتعني "بينما".


أما نصوص ماديسون فقد تميّزت بكلمة  “whilst” "بينما". كذلك استخدم ماديسون حرف الجر " on-على"، ونادراً ما كان يستخدِم حرف الجر"upon"؛ أمَّا هاملتون فقد استخدم كليهما. وهكذا، باستخدام هذه الكلمات وبضع كلمات مشتركة أخرى، أنشأ الباحثون نموذجاً إحصائياً واختبروه إزاء مجموعة منفصلة من الأوراق المعروفة بأنها مكتوبة بواسطة أحدهما أو الآخر، وكانت النتائج مذهلة. بعد ذلك اختبروا الأوراق المتنازع عليها بواسطة نموذجهم ليتبيَّن أنها جميعها كتبها ماديسون، وهكذا أنجزت الرياضيات ما كان قد استعصى على المؤرخين.

من المعروف في أيامنا هذه أن نصَّاً ما يمكن أن يتوفَّر على ما يُلمِحُ بسهولةٍ إلى جنس كاتبه، أذكراً كان أم أنثى، فضلاً عمّا يمكن أن يقترحه النص من إشاراتٍ حول مستوى التعليم والخلفية والتوجّه الفكري وما إلى ذلك مما تختزنه الكلمات ودلالاتها. على سبيل المثال يُلاحظُ إقبال الرجال على طائفةٍ من المفردات والأنساق اللغوية التي قد لا تكون رائجةً في مدونات النساء النصيّة، فهذا الجانب المتمثِّل في الجنسانية اللغوية، هو أحد مواضيع اشتغال الحقل الذي أشرنا إليه آنفاً، وهو أيضاً ما يُلفت إليه بلاتّ في كتابه الذي يُشكِّل مدخلاً ممتعاً لمن أراد الذهاب في رحلة الاستكشاف والتخمين الشيّقة هذه. 

قد يجد أحدنا مثلاً أن بصمته المعجمية تكمن في استخدام الضمائر وأحرف الجر وهو ما يشبه إلى حد ما اكتشاف أن مخططنا الجيني مجرد سلسلة من أربع قواعد كيميائية، وفق ما يذهب إليه بلاتّ، بيد أنَّ النحو الذي تنبثق منه طبيعتنا البشرية عبر مكوّناتٍ "لا روح فيها" مثل الكلمات، لهو في حدِّ ذاته أمرٌ يدعو إلى التأمل الطويل بقدر ما يبعث على الدهشة. إذن، نحنُ كلماتنا، نحن ما نقول.

يشرع هذا الحقل المستجد الذي يقوم أصلاً على تجميع قاعدة بيانات تضم الآلاف من الكتب ومئات الملايين من الكلمات، البابَ على أسئلةٍ فضوليةٍ قد تطرأ في خاطر القارئ والكاتب في آن معاً، فضلاً عن استكشاف ثروة من النتائج الممتعة المخبأة في أعمال أعظم كتّاب العالم، كأن يتساءل المرء، قارئاً كان أم كاتباً: ما هي الكلمات المفضلة لديّ؟ ولماذا؟ ما الذي يجعل كلمةً أجمل من غيرها؟ وما الذي يجعلنا نحكم على كتابٍ من عنوانه أحياناً؟ وهل تتغير كلماتنا المفضلة مثل كلّ شيءٍ آخر في حياتنا، أم أنها ترافقنا إلى الأبد مثل بصمات أصابعنا؟، كلها أسئلةٌ تستحق التأمل فيها والخوض في متعة تقليبها بحثاً عن إجابات.


*كاتب من سورية

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.